علماء يحذرون من إحتمالات إصابة أغلب الناس بفيروس كورونا

تقول مجلة “أتلانتيك” إنه في مايو 1997، تعرض طفل عمره 3 سنوات لوعكة صحية بدا وأنها نزلة برد. وعندما استمرت أعراضها – التهاب الحلق والحمى والسعال – لمدة ستة أيام، نُقل إلى مستشفى إليزابيث في هونغ كونغ. وهناك ازدادت كحته سوءًا، وبدأ يختنق. وعلى الرغم من العناية المركزة، توفي الصبي.

وبعد أن احتار الأطباء من تدهور حالته السريع، أرسلوا عينة من البلغم إلى وزارة الصحة الصينية. ولكن بروتوكول الاختبار القياسي لم يتمكن من تحديد الفيروس الذي تسبب بالمرض بشكل كامل. وقرر كبير علماء الفيروسات شحن بعض العينة إلى زملائه في بلدان أخرى.

وفي المراكز الأميركية لمكافحة الأمراض والوقاية منها في أتلانتا، بقي بلغم الصبي لمدة شهر، في انتظار دوره في عملية بطيئة لتحليل مطابقة المضاد المناعي. وأكدت النتائج في النهاية أن هذا كان نوعًا مختلفًا من الأنفلونزا، وهو الفيروس الذي أودى بحياة عدد من الناس أكثر من أي وقت مضى. ولكن هذا النوع لم يسبق له مثيل في تاريخ البشرية. وجرى اكتشاف فيروس H5N1، أو “أنفلونزا الطيور”، قبل عقدين من الزمن، ولكن ما كان يعرف هو أنه يصيب الطيور فقط.

حينها في شهر أغسطس. أرسل العلماء إشارات استغاثة حول العالم. قتلت الحكومة الصينية بسرعة 1.5 مليون دجاجة (بسبب احتجاجات مزارعي الدجاج). وتم رصد الحالات الأخرى عن كثب وعزلها. وبحلول نهاية العام كانت هناك 18 حالة بشرية معروفة. وتوفي ستة أشخاص.

وكانت استجابة عالمية ناجحة، ولم يتم رصد الفيروس مرة أخرى لسنوات. جزئيًا، كان الاحتواء متوقعًا لأن المرض كان شديدًا جدًا: حيث تجلى فيمن أُصيبوا به بوضوح وكانوا يعانون منه بشدة. إذ تبلغ نسبة الوفيات الناجمة عن أنفلونزا الطيور (H5N1) حوالي 60 بالمائة – وإذا أُصِيبت به، فمن المحتمل أن تموت. لكن منذ عام 2003، لم يقتل الفيروس سوى 455 شخصًا. وعلى النقيض من ذلك، فإن فيروسات الإنفلونزا الخفيفة (الاعتيادية) تقتل ما متوسطه أقل من 0.1 في المائة من الأشخاص الذين تصيبهم، ولكنها مسؤولة عن مئات الآلاف من الوفيات كل عام.

ويعني المرض الشديد الناجم عن فيروسات مثل فيروس أنفلونزا الطيور (H5N1) أنه يمكن التعرف على الأشخاص المصابين وعزلهم، أو أنهم يتوفون بسرعة. فهم لا يُتركون وهم يشعرون بالوعكة وينشرون الفيروس. يمكن أن يسبب فيروس كورونا الجديد (المعروف اختصاصيًا باسم SARS-CoV-2) الذي انتشر في جميع أنحاء العالم مرضًا تنفسيًا يمكن أن يكون شديدًا. ويبدو أن المرض (المعروف باسم COVID-19) يبلغ معدل الوفيات فيه أقل من 2 في المائة، وهو أقل بشكل كبير من معظم حالات التفشي التي تصدرت الأخبار العالمية. وقد دق الفيروس ناقوس الخطر، ليس بفعل معدل الوفيات المنخفض، ولكن بسبب الفايروس نفسه.

تشبه فيروسات كورونا فيروسات الأنفلونزا من حيث أنها تحتوي على شرائط أحادية من الحمض النووي الريبوزي. أربعة فيروسات كورونا تصيب البشر عادةً وتسبب نزلات البرد. ويعتقد أن هذه قد تطورت في البشر لمضاعفة انتشارها – مما يعني المرض، ولكن ليس الوفاة. وعلى النقيض من ذلك، فإن فاشيتي فايروس كورونا الجديدتين السابقتين – سارس SARS (متلازمة الجهاز التنفسي الشديدة) وMERS (متلازمة الشرق الأوسط التنفسية، التي سميت باسم المكان الذي حدثت فيه الفاشية الأولى) – جاءت من الحيوانات، كما هو الحال مع انفلونزا الطيور (H5N1). وكانت هذه الأمراض قاتلة للإنسان. وإذا كانت هناك حالات خفيفة أو بدون أعراض، فهي قليلة للغاية. ولو كان هناك الكثير منهم، لكان المرض قد انتشر على نطاق واسع. وفي نهاية المطاف، قتل كل من متلازمة سارس ومتلازمة الشرق أوسط التنفسية أقل من 1000 شخص.

وتفيد التقارير بالفعل أن فايروس كوفيد-19 [كورونا الجديد] قد قتل أكثر من ضعف هذا العدد. ونظرًا إلى مزيجه القوي من الخصائص، فإن هذا الفيروس لديه سماته المختلفة عن تلك التي جذبت الانتباه العالمي: إنه قاتل، لكنه ليس قاتلًا جدًا. يجعل الناس مرضى، ولكن ليس بطرق يمكن التنبؤ بها، وتحديدها. ففي الأسبوع الماضي، ثبت إصابة 14 أميركيًا على متن سفينة في اليابان على الرغم من شعورهم بالارتياح – فقد يكون الفيروس الجديد أكثر خطورة لأنه، على ما يبدو، قد لا يسبب أعراضًا على الإطلاق.

لقد استجاب العالم بسرعة غير مسبوقة. وتم التعرف على الفيروس الجديد بسرعة كبيرة. وتم تسلسل شريطه الوراثي من قبل العلماء الصينيين ومشاركتها في جميع أنحاء العالم في غضون أسابيع. وتبادل المجتمع العلمي العالمي البيانات الجينومية والسريرية بمعدلات غير مسبوقة. والعمل على اللقاح على قدم وساق. إذ سنت الحكومة الصينية تدابير احتواء مثيرة، وأعلنت منظمة الصحة العالمية حالة طوارئ ذات اهتمام دولي. وحدث كل هذا في وقت قصير قد اُستغرق لمجرد التعرف على فيروس H5N1 في عام 1997. ومع ذلك فإن تفشي المرض ما زال ينتشر.

ويتردد أستاذ علم الأوبئة بجامعة هارفارد مارك ليبسيتش فيما يقوله، حتى بالنسبة لعلم الأوبئة. حيث بدأ مرتين في محادثتنا يقول شيئًا، ثم يتوقف ويقول: “في الواقع، دعني أبدأ من جديد”. لذلك، من المذهل أن إحدى النقاط التي أراد أن يصححها كانت بالضبط: “أعتقد أن النتيجة المحتملة هي أن الفيروس لن يكون قابلًا للاحتواء في النهاية”.

احتواء هو الخطوة الأولى في الاستجابة لأي تفشي. في حالة فايروس كوفيد-19، يبدو أن إمكانية الوقاية من الوباء (وإن كانت غير معقولة) بدأت في غضون أيام. ابتداءً من يناير، بدأت الصين تطويق مناطق كبيرة تدريجياً، وفي النهاية قولبة حوالي 100 مليون شخص. ومُنع الناس من مغادرة منازلهم، ويتم إرشادهم عن طريق طائرات بدون طيار إذا ضُبطوا في الخارج. ومع ذلك، انتشر الفيروس الآن في 24 دولة.

علامات المرض

على الرغم من عدم فعالية مثل هذه التدابير – نسبة إلى تكلفتها الاجتماعية والاقتصادية الفادحة، على الأقل – تستمر الحملة في التصاعد. وفي ظل الضغط السياسي من أجل “وقف” الفيروس، أعلنت الحكومة الصينية يوم الخميس الماضي أن المسؤولين في مقاطعة هوبي سيتجهون إلى المنازل بغية فحص الأشخاص عن الحمى والبحث عن علامات المرض، ومن ثم إرسال جميع الحالات المحتملة إلى معسكرات الحجر الصحي. ولكن حتى مع الاحتواء المثالي، ربما كان انتشار الفيروس لا مفر منه. إذ أن اختبار الأشخاص الذين يعانون بالفعل من مرض شديد للغاية هي استراتيجية غير مناسبة باعتبار الناس ينشرون المرض دونما يشعرون بوعكة صحية تبقيهم في المنزل.

ويتوقع ليبسيتش أنه خلال العام المقبل، سيصاب حوالي 40 إلى 70 بالمائة من الناس حول العالم بالفيروس الذي يسبب كوفيد-19. لكنه يوضح بشكل قاطع أن هذا لا يعني أن جميعهم سوف يعانون من أمراض خطيرة. حيث قال: “من المحتمل أن يصاحب الكثير منهم مرض خفيف، أو قد لا يواجهون أعراضا”. كما هو الحال مع الأنفلونزا، التي غالباً ما تهدد حياة الأشخاص المصابين بأمراض صحية مزمنة وكبار السن، تمر معظم الحالات دون رعاية طبية. (بشكل عام، حوالي 14 بالمائة من المصابين بالأنفلونزا ليس لديهم أعراض).

وليس ليبسيتش فحسب من يعتقد أن هذا الفيروس سيستمر في الانتشار على نطاق واسع. فالإجماع الناشئ بين علماء الأوبئة هو أن النتيجة الأكثر ترجيحًا لهذا المرض هو مرض موسمي جديد – فيروس كورونا خامس “مزمن”. مع الأربعة الآخرين، لا يُعرف عن الناس تطوير مناعة طويلة الأمد. إذا اتبعت هذه الحالة حذوها، وإذا ظل المرض شديدًا كما هو عليه الآن، فقد يصبح “موسم نزلة البرد والانفلونزا” “موسم نزلة البرد والإنفلونزا وكوفيد 19 معًا”.

وفي هذه المرحلة، لا يُعرف عدد الأشخاص المصابين. حتى يوم الأحد، كانت هناك 35 حالة مؤكدة في الولايات المتحدة، وفقًا لمنظمة الصحة العالمية. لكن تقدير ليبسيتش “الخطير جدًا” عندما تحدثنا قبل أسبوع (يعتمد على “افتراضات متعددة تراكمت فوق بعضها البعض”، على حد قوله) هو أن 100 أو 200 شخص في الولايات المتحدة أصيبوا. هذا كل ما يتطلبه الأمر لنشر المرض على نطاق واسع. ويعتمد معدل الانتشار على مدى انتشار العدوى في الحالات المعتدلة. في يوم الجمعة، أبلغ العلماء الصينيون في المجلة الطبية JAMA عن وجود حالة واضحة لانتشار الفيروس بدون أعراض، من مريض كانت الأشعة المقطعية لصدره طبيعية. وخلص الباحثون إلى أنه إذا لم تكن هذه النتيجة تُعد شذوذًا غريبًا، “فإن الوقاية من عدوى كوفيد-19 ستكون صعبة”.

وإن كانت تقديرات ليبسيتش لا تتسق مع القيمة الأسّية، فإنها لن تغير على الأرجح التشخيص العام. وقال ليبسيتش: “يصعب اكتشاف مئتي حالة من حالات الإصابة بمرض يشبه الإنفلونزا خلال موسم الأنفلونزا – عندما لا تجري اختبارا لذلك. ولكن سيكون من الجيد حقًا أن نعرف عاجلاً وليس آجلاً ما إذا كان هذا صحيحًا من عدمه. الطريقة الوحيدة للقيام بذلك هي الاختبار”.

اختبار الأشخاص

وفي البداية، نصح الأطباء في الولايات المتحدة بعدم اختبار الأشخاص إلا إذا كانوا قد ذهبوا إلى الصين أو كانوا على اتصال بشخص تم تشخيصه بالمرض. وخلال الأسبوعين الماضيين، قال مركز مكافحة الأمراض والوقاية إنه سيبدأ فحص الأشخاص في خمس مدن أميركية، في محاولة لإعطاء فكرة عن عدد الحالات الموجودة بالفعل. لكن الاختبارات لا تزال غير متوفرة على نطاق واسع. ويوم الجمعة، قالت جمعية مختبرات الصحة العامة إن كاليفورنيا ونيبراسكا وإلينوي فقط هي التي تملك القدرة على اختبار الأشخاص بحثًا عن الفيروس.

ومع قلة البيانات، فإن مسألة التشخيص صعبة. ولهذا يكمن القلق في أن هذا الفيروس لا يمكن احتواؤه –سيستمر إلى أجل غير مسمى – وبالتالي لا مفر من السباق العالمي لإيجاد لقاح، وهذه إحدى أوضح الاستراتيجيات لإنقاذ الأرواح في السنوات القادمة.

وكانت أسعار أسهم شركة أدوية صغيرة تحمل اسم إينوفيو (Inovio) قد ارتفعت الشهر الماضي بأكثر من الضعف. وفي منتصف شهر يناير، وردت تقارير عن اكتشاف الشركة لقاحًا لفيروس كورونا الجديد. وعلى الرغم من عدم دقتها من الناحية الفنية، إلا أن هذه المزاعم قد تردّدت في العديد من التقارير الإخبارية وكحال الأدوية الأخرى، فإن اللقاحات تتطلب إجراء عملية اختبار طويلة لمعرفة ما إذا كانت بالفعل تحمي الناس من المرض وبشكل آمن. وتمثل ما قامت به هذه الشركة –وغيرها – في عمل نسخة من الحمض النووي الريبوزي (RNA) الخاص بالفيروس والذي يُمكن له أن يعمل ذات يوم كلقاح. وعلى الرغم من أنها تُعد خطوة واعدة، إلا أن وصفها بالاكتشاف يُشبه الإعلان عن عملية جراحية جديدة بعد شحذ المبضع الجراحي.

وعلى الرغم من أن التسلسل الجيني بات حاليًا سريعًا للغاية، إلا أن صنع اللقاحات يُعد فنًا بقدر ما هو أمرًا علميًا. إذ ينطوي على إيجاد تسلسل فيروسي يُحدث بثقة ذاكرة نظام المناعة الوقائية دون إثارة ردة فعل التهابية حادة التي بدورها قد تتسبب في ظهور الأعراض. (على الرغم من عدم إمكانية أن يتسبب لقاح الإنفلونزا في الإصابة بالإنفلونزا، إلا أن مركز السيطرة على الأمراض يُحذر من أنه قد يتسبب في “أعراض مشابهة لأعراض الإنفلونزا”). ويتطلب الوصول إلى هذه النقطة المنشودة إجراء اختبارات في نماذج مختبرية أولاً وعلى الحيوانات وفي نهاية المطاف تجربتها على البشر. فلا يُمكن للمرء ببساطة أن يُرسل مليارات الجينات الفيروسية إلى جميع أنحاء العالم بغرض حقن الجميع بها لحظة اكتشافها.

وتُعد شركة إينوفيو بعيدةً عن كونها شركة التكنولوجيا الحيوية الوحيدة التي تُنشئ تسلسلًا يُحقق ذلك التوازن. ومن ضمن الشركات الأخرى: مودرنا (Moderna)، وكيورفاك (CureVac) ونوفافاكس (Novavax). وتحظى هذه المسألة بمتابعة من جانب الباحثين الأكاديميين في الكلية الامبريالية للعلوم والتكنولوجيا والطب بلندن وغيرها من الجامعات بالإضافة إلى العلماء الفيدراليين في عدة دول، بما في ذلك العلماء في المعاهد الوطنية الصحية في الولايات المتحدة.

العثور على لقاح

ولقد كتب أنتوني فوشي، وهو رئيس المعهد الوطني الأمريكي للحساسية والأمراض المعدية في مجلة الجمعية الطبية الامريكية (JAMA) في شهر يناير أن الوكالة كانت تعمل بسرعة لم يسبق لها مثيل في سبيل العثور على لقاح. وخلال انتشار وباء سارس في عام 2003م، انتقل الباحثون من الحصول على التسلسل الجيني الخاص بالفيروس إلى المرحلة الأولى من التجارب السريرية للقاح خلال عشرين شهرًا. كما كتبَ أنتوني فوشي أن فريقه عمِدَ إلى ضغط ذلك الجدول الزمني ليتقلص إلى ثلاثة أشهر فقط بحثًا عن فيروسات أخرى، وفيروس كورنا الجديد وقال: “يأملون في التحرك بصورة أسرع من ذلك”.

كما وقد ظهرت نماذج جديدة خلال السنوات الأخيرة كذلك، والتي تُطلق وعودًا بتسريع تطوير اللقاحات. ويأتي من ضمنها التحالف من أجل ابتكارات التأهب للأوبئة (CEPI)، وهو تحالف أطلق في النرويج في عام 2017م بغرض تمويل وتنسيق تطوير لقاحات جديدة. ومن بين مؤسسيها حكومات النرويج والهند، ومؤسسة بيل وماليندا غيتس وصندوق ويلكوم الخيري. وباتت حاليًا أموال المجموعة تتدفق إلى شركة إينوفيو وغيرها من شركات الناشئة في مجال التكنولوجيا الحيوية، ما أدى إلى تحفيز الشركات إلى الانخراط في الأعمال المحفوفة بالمخاطر لتطوير اللقاحات. ومن جانبه، فإن ريتشارد هاتشيت، الرئيس التنفيذي للمجموعة، يُشارك أنتوني فوشي في رؤيته الأساسية المتعلقة بالجدول الزمني والمتمثلة في أن يكون لقاح كوفيد-19 جاهزًا للمراحل المبكرة من اختبارات السلامة في أبريل. وفي حال سارت الأمور على ما يرام، فقد تبدأ الاختبارات في أواخر الصيف من أجل معرفة ما إذا كان اللقاح يمنع المرض بالفعل.

الجدول الزمني

وفي حال سارت كل الأمور في مجراها الصحيح مجملًا، فإن ريتشارد هاتشيت يتوقع أن يستغرق الأمر مدة تتراوح بين اثني عشر شهرًا إلى ثمانية عشر قبل اعتبار المنتج الأولي آمنًا وفعالًا. وقال ريتشارد إن الجدول الزمني يمثل “تسارعًا كبيرًا مقارنةً بتاريخ تطوير اللقاحات”. ولكنه يُعد أيضًا طموحًا بصورة غير مسبوقة. وأضاف: “حتى اقتراح مثل هذا الجدول الزمني في هذه المرحلة، يجب اعتباره طموحًا للغاية”.

وحتى وإن تحقق ذلك التقدير المثالي الذي يستغرق عامًا، فإن المنتج الجديد سيظل يتطلب عملية تصنيع وتوزيع. حيثُ قال ريتشارد: “تتمثل إحدى الاعتبارات الهامة فيما إذا كان توسيع النهج الأساسي مُمكنًا بغرض إنتاج ملايين أو مليارات الجرعات خلال السنوات المقبلة”. وخاصةً في ظل حالة الطوارئ القائمة، في حال أغلقت الحدود وتوقفت سلاسل الإمداد، فإن التوزيع والإنتاج قد يكون صعبًا تمامًا من الناحية اللوجستية.

ولقد بدا تفاؤل انتوني فوشي الاولي وقد تراجع هو الآخر. حيثُ قال الأسبوع الماضي إن عملية تطوير اللقاح كانت “صعبة ومُحبطة للغاية”. وعلى الرغم من كُل التقدم المحرز في العلوم الأساسية، إلا أنه لا يُمكن المضي قُدمًا نحو انتاج لقاحٍ فعلي دون اختبارات سريرية مكثفة، ما يتطلب تصنيع العديد من اللقاحات ومراقبة نتائجها على الناس بدقة. وفي نهاية المطاف، قد تُكلّف العملية مئات الملايين من الدولارات؛ وهي أموالٌ لا تملكها معاهد الصحة الوطنية والجامعات والشركات الناشئة. كما لا يملكون أيضا منشآت الإنتاج وتكنولوجيا تصنيع اللقاح وتوزيعه على نطاق واسع.

لطالما كان إنتاج اللقاحات مرهونًا بالاستثمار من إحدى شركات الأدوية العالمية العملاقة القليلة. ولقد أعرب فوشي عن أسفه في معهد آسبن الأسبوع الماضي بسبب عدم ” تقدّم” أي شخص والالتزام بتصنيع اللقاح. وقال “إن الشركات التي تملك المهارات اللازمة التي تُمكّنُها من القيام بذلك لن تقف مكتوفة الأيدي وتستمتع بمنشأة جاهزة ومستعدة للعمل عند الحاجة إليها”. حتى لو فعلوا ذلك، فإن تولي مسألة إنتاج منتج جديد مثل هذا قد يعني خسائر فادحة، لاسيما في حال تراجع الطلب أو إذا اختار الناس، لأسباب معقدة، عدم استخدام المنتج.

صناعة الأدوية

يُعد صنع اللقاحات صعبًا للغاية ومُرتفع التكلفة وذو مخاطر عالية للحد الذي جعل من شركات العقاقير التي بدأت في الثمانينيات تتكبد نفقاتٍ قانونية جراء الأضرار المزعومة الناتجة عن استخدام اللقاحات، ما دفع العديد من الشركات إلى التوقف عن صُنعها. وفي سبيل تحفيز صناعة الأدوية على الاستمرار في إنتاج هذه المنتجات الحيوية، عرضت حكومة الولايات المتحدة تعويض أي شخص يدّعي إصابته بالضرر جراء تناول إحدى اللقاحات، الأمر الذي استمر حتى يومنا هذا. ومع ذلك، وجدت شركات الأدوية بشكل عام أن الاستثمار في الأدوية اليومية للحالات المزمنة يُعد مُدرًا للأرباح بصورة أكبر. وقد يُشكل فيروس كورونا تحديًا خاصًا بسبب أنه في جوهره، كحال فيروسات الإنفلونزا، يحتوي على سلالات أحادية من الحمض النووي الريبوزي. وكما هو الحال مع الإنفلونزا، فمن المُحتمل أن تشهد هذه الفئة الفيروسية تغيرًا في تركيبتها، لذا، قد تكون اللقاحات في حاجة إلى تطويرٍ مُستمر.

في كلية ييل للصحة العامة الذي يدرس سياسة اللقاح: “إذا وضعنا كل آمالنا في اللقاح باعتباره الحل، فإننا واقعون في مشكلة”. ويرى جيسون أن أفضل سيناريو يتمثل في تطوير هذا اللقاح بعد فوات الأوان من حيث إحداث فرق في حالة التفشي الحالية. وتكمُن المشكلة الحقيقية في أن الاستعداد لهذا التفشي كان من الواجب أن يتم خلال العقد الماضي أي منذ تفشي وباء سارس. وقال جيسون: “لو لم نضع برنامج أبحاث لقاح فيروس سارس جانبًا، لكان لدينا الكثير من هذا العمل التأسيسي الذي يمكن أن نطبقه على هذا الفيروس الجديد ذي الصلة الوثيقة”. ولكن، كما هو الحال مع فيروس إيبولا، تلاشى التمويل الحكومي وتطوير صناعة الأدوية بمجرد انقشاع الشعور بالحالة الطارئة. وأضاف جيسون بقوله: “انتهى المطاف ببعض الأبحاث المبكرة موضوعة على الرف بسبب انتهاء ذلك التفشي قبل الحاجة إلى تطوير لقاح بشدة”.

ذكرت مجلة بوليتكو يوم السبت أن البيت الأبيض يستعد لطلب واحد مليار دولار من الكونجرس كتمويلٍ طارئ بغرض الاستجابة لفيروس كورونا. وإنْ تحقق هذا الطلب، فسيأتي متزامنًا في ذات الشهر الذي أصدر فيه الرئيس دونالد ترمب مقترح ميزانية جديد والذي يشهد خفضًا للعناصر الأساسية من جانب الاستعداد للوباء، وهو تمويل مركز مكافحة الأمراض والمعاهد الوطنية الصحية والمساعدات الخارجية.

إنتاج اللقاحات والأدوية

تُعد هذه الاستثمارات الحكومية طويلة الأجل هامة لكون أن إنتاج اللقاحات والأدوية المضادة للفيروسات وغيرها من الأدوات الحيوية يتطلب عقودًا من الاستثمار الجاد، حتى عندما يكون الطلب مُتراجعًا. فغالبًا ما تُعاني الاقتصادات المُعتمدة على السوق في تطويرها لمُنتجٍ ليس هُنالك من احتياج عاجلٍ له وتوزيع المنتجات على الأماكن التي تحتاج إليها. ولقد وُصِف التحالف من أجل ابتكارات التأهب للأوبئة باعتباره يُمثل نموذجًا واعدًا لتحفيز تطوير اللقاح قبل بدء حالة الطوارئ، ولكن ثمة مشككين تجاه هذه المجموعة. حيثُ كانت منظمة أطباء بلا حدود قد كتبت العام الماضي رسالة مفتوحة لاذعة قالت فيه إن النموذج لم يضمن التوزيع العادل أو القدرة على تحمل التكاليف. وأجرى التحالف لاحقًا تحديثا شمل سياساته في سبيل إيلاء الوصول العادل الأولوية، وقال مانويل مارتن، مستشار الابتكار الطبي والوصول إلى أطباء بلا حدود، الأسبوع الماضي إنه بات الآن متفائلًا بصورة تتسم بالحذر. وقال “إن التحالف من أجل ابتكارات التأهب للأوبئة واعدٌ للغاية، ونأمل حقًا أن ينجح في إنتاج لقاح جديد”. ومع ذلك، فإن مانويل وزملاؤه “ينتظرون لمعرفة كيف ستُطبق التزامات التحالف من أجل ابتكارات التأهب للأوبئة على الصعيد العملي”.

وإن هذه الاعتبارات لا تقتصر أهميتها كعمل إنساني خيري فحسب، بل تهُم بكونها سياسة فعّالة. ويُعد إيصال اللقاحات وغيرها من الموارد إلى الأماكن التي ستكون فيها ذات نفعٍ كبير سيكون أمرًا ضروريًا في سبيل منع انتشار المرض على نطاق واسع. فعلى سبيل المثال، عندما تفشّى فيروس إنفلونزا (H1N1)، أصيبت المكسيك بشدة. أما في أستراليا التي لم تتعرض لذلك، فقد منعت الحكومة الصادرات من صناعة الادوية لديها حتى اكتملت طلبات الحكومة الأسترالية على اللقاحات. وكلّما تعمّق العالم في وضع الإغلاق والحفاظ على الذات، بات من الصعب إجراء تقييم واقعي للمخاطر وتوزيع الأدوات بشكل فعّال، وهي الأدوات التي تتراوح من اللقاحات وأقنعة التنفس والغذاء وسوائل تنظيف اليدين.

باتت كلًا من إيران وإيطاليا وكوريا الجنوبية ضمن الدول التي أبلغت عن أعداد تتزايد بوتيرة سريعة من المصابين بفيروس كوفيد-19. ولقد استجابت العديد من الدول لذلك عبر محاولات الاحتواء، على الرغم من الفعالية المشكوك فيها والأضرار الكامنة للقمع الصيني غير المسبوق تاريخيًا. وفي حين أن بعض تدابير الاحتواء تُعد مناسبة، إلا أن حظر السفر على نطاق واسع وإغلاق المدن وتخزين الموارد لا تُمثل حلولًا واقعية لتفشي مرضٍ يستمر على مدى سنوات. فجميع هذه التدابير تنطوي على مخاطر بحد ذاتها. ففي نهاية المطاف، سوف تتطلب بعض الاستجابات تجاه الأوبئة فتح الحدود لا إغلاقها. وفي مرحلة ما، سيتوجب التخلي عن التوقعات القائلة إن بعض المناطق ستنجو من الإصابة بفيروس كوفيد-19، ولهذا يجب النظر إلى المرض باعتباره مٌشكلة الجميع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button