أيقونة كوفيد – 19 في اللوحات تُصنف صُناعها* ميموزا العراوي
النشرة الدولية –
فتحت أعمال بعض الفنانين التشكيليين العرب حول ثيمة كورونا الذي أصاب البشرية جمعاء في مقتل، فور أن عرضها أصحابها مؤخرا على صفحات التواصل الاجتماعي أبوابا أخذت الناظر إلى استطرادات ذهنية كثيرة ومشاعر مختلفة.
وإن كان هناك قاسم مشترك ما بين هذه الأعمال فهو قدرتها على إحالة الناظر إليها إلى التعبير الشهير “العالم قرية صغيرة” من خلال الإقرار وللمرة الأولى بمصداقية هذا التعبير بعيدا عن الرياء السياسي.
فهذه أول مرة يصدق تعبير “العالم قرية صغيرة”، أمام تعرّض جميع أهل الكوكب لمخاطر فايروس كوفيد – 19، وإن كان ذلك يختلف من دولة إلى أخرى رهنا بقدراتها المادية والعلمية ومعاييرها الأخلاقية لمواجهته. والحال أن هذا التعبير كان ما قبل تفشي فايروس كورونا مجرد تعبير شاعري لطيف يخفي خلفه أشدّ أنواع العداء للآخر والشهية لالتهام موارده وإخضاع شعوبه.
وبعد أن انتشرت الأعمال الفنية التي توثّق ظهور “القناع الطبي” على وجه شخص واحد موجود لوحده في اللوحات، بدأت الأعمال الفنية توثّق بصريا جماعة من الناس وهم يرتدون هذه الأقنعة في إشارة مباشرة إلى التباعد الاجتماعي الذي لا أحد يعلم حقا متى ينتهي.
وتلعب هذه الأعمال الفنية دورا أساسيا في الإشارة إلى أن العالم بصدد إنتاج ذاكرة جماعية معاصرة مبنية على خوف مشترك من الفايروس القاتل، الذي أودى بحياة الآلاف من البشر، ولا يزال يحصد المزيد من الضحايا.
ولعل من أكثر التجليات البصرية حدة ووضوحا لشروع الإنسان في إنشاء ذاكرة جماعية معاصرة، هو تماما ما أنتجه حتى الآن هذا الوباء من أعمال فنية تشكيلية بأساليب ومواد مختلفة ومن مختلف بقاع العالم قوامها أيقونة الفايروس، أو لنَقل أيقونة مواجهته وهي الكمامة الطبية.
أيقونة لم تكتف فقط بإعلان الحرب على الوباء بل بدأت توغل في وصف مُرتديها الذي دلّت ملامحه على معايير أخلاقية متباينة وقوة متفاوتة في المواجهة، كما دلّت على انشغاله بمشاعر وأفكار مختلفة.
قاسم مشترك بين الأعمال التشكيلية في زمن كوروناقاسم مشترك بين الأعمال التشكيلية في زمن كورونا
لكن جميع الفنانين الذين “أيقنوا” الكمامة، لا بد أن يظهروها في مرحلة لاحقة لا تقف عند المباشرة التعبيرية، وذلك في أعمال فنية أخرى تصنّف البشر في خانات وتطرح تساؤلا حول صيرورة وحول مستقبل الإنسانية، وتوثّق الجرائم الأخلاقية التي بدأت تحدث في الأسابيع الأخيرة تحت شعار الاستحواذ على تلك الكمامات، وإن بأساليب غير شرعية جرى على تسميتها وببلاغة بـ”عمليات القرصنة الدولية”. قرصنة رأينا تاريخيا الكثير من ملامحها “الأصلية” في لوحات تشكيلية رائعة توثّق الجنون والإجرام، ولكن في تلاقح مع عنصر طبيعي ساطي هو البحر الهائج.
القراصنة المعاصرون يختلفون جدا عن السابقين، ولسنا هنا في معرض الحديث عن هذه الاختلافات. نكتفي بذكر أن هؤلاء القراصنة، وما يمثلون بالمطلق، ساهموا من حيث لا يدرون بإنتاج أعمال فنية غنية برزت عند فنانين تشكيليين كغيلان الصفدي صاحب الأعمال الفنية السوداية وسيروان بران مبدع اللوحات الواقعية / التعبيرية والصادمة، وفادي شماعة الخيميائي المُبتدئ الذي قدّم أعمالا فنية تسعى فيها الريبة وكأنها محلول صنعه في مرسمه قبل أن يدسّه فيها.
يجدر الذكر هنا أن الدول التي دخلت في عمليات قرصنة الكمامات والمعدات الطبية اكتفت بإظهار “الامتعاض” أمام أي عملية سطو. في حين بلغ أوج المُجاهرة بالجشع وتلاشي الحدود الفاصلة ما بين الجريمة والحق المشروع في تصريح الرئيس الأميركي ترامب حين قال إنه مُستعد للقيام بأي شيء للحصول على العدد المطلوب من الكمامات.
أمام كل ما يفرزه وباء كوفيد – 19 من ذهول وأفكار متناقضة يُظهر الفن التشكيلي يوما بعد يوم قدرته على تخطي المُباشرة في التعبير من خلال تصوير الوجوه المكممة. يُظهر استعداده لأن يتلقف هذا الانهيار الحضاري المنقطع النظير، بجعل أيقونة الفايروس، الكمامة الطبية، بوابة لعوالم نفسية واجتماعية وفلسفية تُعيد تشكيل عالما خاليا من الأوهام ومن ترهات “القرية الصغيرة”.
وقدّم الفن التشكيلي الشرق أوسطي إلى اليوم عددا كبيرا من الأعمال التشكيلية من وحي هذا الانهيار ونذكر هنا أسماء المزيد من الفنانين، مع التفاوت في درجة المهارات الفنية والخلفيات الفكرية، كالفنان أنس سلامة والفنان محمد العبيدي والفنان زياد غازي.
وقريبا جدا لن تبقى “الكمامة الصحية” مجرد أداة في الحياة الواقعية كما في الأعمال الفنية مُشيرة إلى حضور الفايروس وحالة مكافحته. إذ أن كل من تمكّن إلى الآن من التخفي وراء أقنعته الواهية يستبدلها اليوم بالأقنعة الصحية التي تكشف بشفافيتها الجارحة أخبث ما في البشر من أنانية مُستفحلة وتفضح هشاشة التماسك الإنساني والأنظمة الديمقراطية المُدعية.