البنوك المركزية تستنفذ ذخيرتها خلال أزمة كورونا… ضخت حزماً بأكثر من 4 تريليونات دولار
النشرة الدولية –
مع عودة النشاط الاقتصادي تدريجيّاً في أغلب دول العالم إثر تخفيف إجراءات الإغلاق التي اتخذت للحدّ من انتشار وباء فيروس كورونا (كوفيد-19)، يتطلع الجميع إلى الدور الذي يتعيّن على البنوك المركزية في الاقتصادات الرئيسة القيام به لتحفيز الاقتصاد.
وحتى نهاية أبريل (نيسان)، ضخّت البنوك المركزية حول العالم حزماً تحفيزية في اقتصادات دولها بأكثر من 4 تريليونات دولار بإضافة أصول إلى دفاترها. كان النصيب الأكبر للاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي) الأميركي الذي أضاف إلى حسابه الجاري مشتريات أصول بنحو 2.6 تريليون دولار (زادت الأصول على دفاتره من 4 تريليونات إلى 6.6 تريليون بنهاية أبريل).
ويرى اقتصاديون وخبراء في السياسة النقدية والمالية أن البنوك المركزية أطلقت كل ما تملك من ذخيرة احتياطية للتدخل في وقت الإغلاق وتعطل قطاعات الاقتصاد، بما يجعلها أقل قدرة على القيام بما هو أكثر للمساعدة في انتعاش الاقتصاد بعد الإغلاق.
في ندوة عن بعد نظمها معهد المحللين الماليين المعتمدين، الاثنين، انضمّ ميرفين كنغ، محافظ بنك إنجلترا (المركزي) البريطاني في الفترة من 2003 إلى 2013، إلى هذا الرأي، مشيراً إلى ما يبدو أنه استخدام البنوك المركزية أدواتها في غير موضعها. فالأزمة الحالية ليست في “سياق دورة اقتصادية عادية، وبالتالي تحتاج أدوات أخرى، وربما يكون التدخل الحكومي أكثر جدوى من تدخلات السياسة النقدية”، بحسب قول محافظ بنك إنجلترا السابق، مؤكداً “هذا ليس تراجعاً للاقتصاد نتيجة توقّف القطاع الخاص عن الإنفاق، هذا ناجم عن قرار الحكومة الإغلاق، لذا عليها التعامل مع هذا الوضع وليس البنوك المركزية”.
وقال ميرفين كنغ، الذي أصبح أكثر انفتاحاً في آرائه منذ ترك منصبه “يمكن للبنوك المركزية أن توفّر السيولة للنظام المالي، وقد تكون مسؤولة عن تنظيم وضبط النظام المالي، أما بالنسبة إلى مسؤوليتها عن النظام النقدي، سواء عن طريق سعر الفائدة أو التيسير النقدي، فتلك أدوات تُستخدم لضبط الدورات الاقتصادية وتكون مفيدة لمواجهة التراجع أو الرواج الزائد في الاقتصاد على المدى القصير. عندئذ تستخدم أدوات السياسة النقدية للعودة إلى معدل النمو الطبيعي بوتيرة أسرع من استعادة النمو العادي من دون تلك الأدوات”.
وحسب وجهة نظره، فأهمية أي تحفيز للاقتصاد هي في إعادة الاقتصاد إلى معدل النمو الطبيعي بأسرع ما يمكن. وبالتالي على الحكومات أن تفعل كل ما تستطيع لمنع انهيار الأعمال وإفلاس الشركات في وقت الإغلاق، ثم يأتي دور وأهمية التحفيز الاقتصادي بعد الخروج من قيود الإغلاق.
وسيكون التحفيز مطلوباً أكثر لأن الناس لن تعود فجأة إلى سابق نشاطها ما يشعل جذوة النشاط الاقتصادي، فقد أصبح الناس بالفعل أكثر حيطة وحذر بسبب الوباء. وربما لا تكون أدوات السياسة النقدية مفيدة كثيراً في ما بعد الإغلاق، بل يحتاج التحفيز إلى سياسة مالية واقتصادية من الحكومة وليست نقدية من البنك المركزي. وعلى حدّ قول كنغ، فإن “فكرة أن الناس ستعود للمطاعم والمسارح وتستخدم المواصلات العامة مرة أخرى لمجرد أن أسعار الفائدة منخفضة هي فكرة سخيفة”.
استقلالية البنوك المركزية
تفقد البنوك المركزية استقلالها عن السياسة الحكومية بتدخلها في تحديد أي من الشركات والأعمال يجري إنقاذها بتخصيص الائتمان، سواء بالقروض الميسرة أو بشراء سنداتها وديونها. ويتوقع أن تشهد السنوات الخمس أو العشر المقبلة ضغوطاً حكومية على البنوك المركزية في ضوء ما قامت به خلال الأزمة.
وعبر تخفيض سعر الفائدة، واللجوء إلى الفائدة بالسالب لجعل كلفة الاقتراض صفر تقريباً حتى تتمكن الشركات والأعمال من التمويل في وقت الإغلاق وتعطل الأعمال، وسياسات التيسير النقدي وشراء الأصول من سندات دين حكومية وسندات شركات وإعادة جدولة ديون، ضخّت البنوك المركزية تريليونات الدولارات في الاقتصاد.
فالاحتياطيّ الفيدرالي ضخّ ما يصل إلى 3 تريليونات دولار حتى الآن، وطرح البنك المركزي الأوروبي برنامج تحفيز اقتصادي لدول مجموعة اليورو بنحو 825 مليار دولار (750 مليار يورو)، بينما طرح بنك إنجلترا نحو 653 مليار دولار (530 مليار جنيه إسترليني).
وجاءت إجراءات البنوك المركزية العاجلة وقت الإغلاق لمنع انهيار الشركات والأعمال والشلل الدائم لقطاعات اقتصادية مختلفة متماشية مع السياسة الحكومية الهادفة لتقليل التأثير السلبي لوباء كورونا على الاقتصاد. لكن ذلك إلى جانب استنفاده الذخيرة التي تملكها البنوك المركزية للتدخّل الفعال، أظهر أيضاً أن استقلالية البنوك المركزية والسياسة النقدية عن السياسة المالية والاقتصادية للحكومات مجرد وهم.
فاستقلالية البنوك المركزية مسألة نسبية، كما يقول سير جون ريدوود، عضو مجلس العموم البريطاني، في مقال له على موقع “كاب إكس” الشهر الماضي، حيث يرى أن الأزمة الحالية أزالت أي وهم متبقياً بشأن استقلالية البنوك المركزية والسياسة النقدية عن الحكومة وسياستها المالية والاقتصادية.
وبرأيه، تمكّن الاحتياطي الفيدرالي من إيجاد صيغة بين الاستقلالية والمشاركة الحكومية، بهدفيه المزدوجين: سعر الفائدة، والنمو الاقتصادي. فالأول أداة سياسة نقدية صرفة، أما الثاني فمستهدف حكومي أيضاً. أما بنك الشعب (المركزي) الصيني فيعمل بشكل كامل مع الحكومة حتى في تحديد السياسة النقدية.
وبقي في الوسط بين الطرفين، البنك المركزي الأوروبي (وكذلك بنك إنجلترا) باعتباره أكثر ما يكون استقلالاً. لكن، مثلاً، حين وصلت أزمة البنوك ذروتها في الأزمة المالية العالمية السابقة اجتمع وزراء المالية في الدول الرئيسة، بما فيهم وزير الخزانة البريطاني، وقرروا خفض أسعار الفائدة، وجرّدت الحكومة البنك المركزي من أهم أداة مستقلة لديه.