الأدب يُغري أصحاب مهنة الرحمة
النشرة الدولية –
يُعايش الأطباء في زمن الجائحة مشاعر إنسانية جمة، ويتعرضون بكثافة لمواقف استثنائية، يقابلون فيها شتى أنماط البشر، ويخالطون الأحاسيس اللافتة من خوف، قلق، ثقة، تضحية، لامبالاة، ورُشد.
بحكم مهنتهم يتابع الأطباء قصصا جمة، ويشهدون وقائع عجيبة، يمتزجون بلحظات الحُزن والفرح، ويشتبكون مع خواطر مولدة للأدب شعرا، سردا ، وإبداعا.
تلك التجارب المباشرة تُغري كُل صاحب حس إبداعي بأن يكتب، أن يفيض بما اختزنه عقله الباطن من مشاهدات وخبرات على الورق، أن يُمسك بالحيوات المتباينة قابضا على لحظات درامية استثنائية تُفجر طاقات إبداع لا نهائية.
إذا كان البعض يستغرب جنوح الطبيب إلى الإبداع، ويندهش من خروج أدباء من غرف العمليات، ومستشفيات العزل، وعيادات الأمراض العضوية والنفسية إلى حدائق الجمال اللغوي والفني.
كان البعض من الناس يتصور أن الطب والفن ضدان، لا يلتقيان، ولا يشتبكان، ولا يمتزجان، لأنهم لا شك لم يسمعوا إجابة شاعر الأطلال الطبيب إبراهيم ناجي، لسؤال عما دفعه للشعر رغم عمله طبيبا حيث كتب أبياتا رصينة قال فيها “الناس تسأل والهواجس جمةٌ/ طبٌ وشعرٌ كيف يتفقانِ/ الشعرُ مرحمة النفوس وسره/ هبةُ السماء ومنحة الديانِ/ والطبُ مرحمةُ الجسوم ونبعه/ من ذلك الفيض العلي الشانِ”.
وكأنه يُريد أن يقول للمندهشين إنه لا وجه للتعارض، فلا الطب بكونه علما تجريبيا يُناقض الإبداع، ولا وظيفة الطبيب وما يعتيريها من رؤية للدم وسماع للآهات تمنع الإنسان من الجمال، بل على العكس، الطبيب مهموم على الدوام بالجمال.
استمرار الدهشة يقابل بدهشة أكبر لدى المبدعين الأطباء الذين يُصرون على أن المجالين شديدا الشبه، ويقول أسامة الشاذلي، أستاذ طب العظام بجامعة عين شمس، وهو روائي صدرت له ثلاث روايات تم تحويل إحداها والتي تحمل عنوان “سنوات التيه” إلى مسلسل إذاعي، في تصريحات خاصة لـ”العرب”، إنه يرى أن العلاقة بين الأدب والطب علاقة وثيقة جدا، فالطب مهنة تعتمد على الملاحظة، بدءا من ملاحظة المرض، والأعراض وشكاوى المريض وما يطرأ من تغيرات، كذلك فإن الأدب يعتمد على دقة الملاحظة والمتابعة للأحداث الراهنة والشخوص المحيطة.
ويتابع “الطب يعتمد على التواصل بين الطبيب والمريض، ونفس الأمر فإن الأدب يعتمد على التواصل بين الكاتب والقارئ، وفي تصوره، فإنه بالأخص إن كان الطبيب يعمل في الجراحات، فإنه يكون أكثر قربا للفن والإبداع، لأن الجراحة نفسها فن، ومن يمارسها لديه قدر من الإبداع حتى لو لم يكن يكتب”.
هناك نقطة أخرى تجعل الأدب قريبا إلى قلب الطبيب، هي أنه بطبيعة الحال يعتاد القراءة الواسعة، ما يحتاج إليه الروائي أو الشاعر لإنضاج لغته وبناء أسلوبه الفني.
كما أن علم الطب، هو علم رحب يتعايش مع الخيال، ويسمى علما غير يقيني بمعنى أنه غير محكوم مثل الرياضيات بمسلمات راسخة، كمقولة أن واحدا زائدا واحدا يساوي اثنين، بل هناك أمراض واحدة، لكن يختلف العلاج من مريض لآخر حسب تقدير الطبيب، ما يعني أنه علم يفتح نوافذ الحرية لاجتهاد الطبيب وحسه الإنساني وتقديره للموقف، ما يتفق مع حرية الروائي والقاص في تشكيل عالمه ورسم مصائر شخوصه.
يُضاف إلى ذلك ما ذكره الكاتب الراحل أحمد خالد توفيق في كتابه “اللغز وراء السطور” الصادر عن دار الشروق في القاهرة، من أنه لا توجد مهنة تعاين عُري الإنسان مثلما تفعل مهنة الطب، فلا توجد مهنة تتعامل مع الإنسان في حضيض ضعفه ووهنه وخوفه مثل الطب، مهنة ترغمك على سماع آخر كلمات المحتضرين، وهلوسة الغائبين عن الوعي، مهنة ترغمك على أن ترى مشهد الموت الرهيب مرارا، مهنة يتجرد فيها كل إنسان وزيرا كان أو متسولا من ثيابه وزيفه أمامك.
لم يكن غريبا أن يلمع في العالم أجمع أدباء ومبدعون على مر العصور خرجوا من مهنة الطب، بل إننا نجد أن الطب كان لهم منجما لينتجوا أدبا مميزا وخالدا، فنجد مثلا الأديب الروسي أنطون تشيخوف (1860 – 1904) كان يُمارس الطب في الريف ويعاين أوجاع البشر ليدخر ثروات من الخبرات الإنسانية والمشاهد الصالحة لكتابة قصص مُبهرة تبقى لجيل من بعد آخر.
من قبله في ألمانيا نجد الكاتب المسرحي الشهير فريدريك شيللر(1759 – 1805) ينتقل من الطب إلى الكتابة المسرحية بعد خبرات إنسانية حازها أهلته للتفرغ تماما للكتابة.
كما نجد آرثر كونان دويل (1859 – 1930) الطبيب الأسكتلندي الذي برع في طب العيون، واهتم بكتابة الروايات البوليسية ليخترع لنا شخصية شارلوك هولمز كأفضل محقق جنائي في التاريخ.
هناك أطباء ارتبطوا بفنون إبداعية عديدة مثل النمساوي تيودور بلروث (1829 – 1894) والذي نبغ في الموسيقى، أو الشاعر الأميركي ويليامز كارلوس ويليامز (1883 – 1963) والحاصل على جائزة بوليترز للشعر وغيرهما.
اتسع التشابك بين الأدب والطب في العالم العربي إلى درجة تؤكد وجود حس إبداعي عميق لدى ممارسي مهنة الطب على وجه الخصوص، ما يُبرره الناقد الأدبي علي حامد في تصريحات لـ”العرب” بأن الأطباء العرب أكثر تعايشا مع المآسي الإنسانية من غيرهم، وكانوا الفئة الأكثر قراءة واطلاعا بين المهنيين بحكم عملهم خلال مرحلة الاستعمار، ما دفعهم إلى قراءة الآداب العالمية والتأثر بها، والسعي لإدراكها.
لم يكن غريبا أن نجد أطباء أدباء في وقت مبكر مثل اللبناني خليل سعادة (1857 – 1934)، والمصري إبراهيم ناجي (1898 – 1953)، وزميله أحمد زكي أبوشادي (1892 – 1955) ثم السوري عبدالسلام العجيلي ( 1916 – 2006)، والجزائري أحمد عروة (1926 – 1992)، بجانب جيل المبدعين الكبار مثل يوسف إدريس (1927 – 1991) عميد القصة القصيرة بمصر، ومصطفى محمود (1921 – 2009) كاتب القصة والمسرحية والمقال، ثُم صلاح حافظ (1925 -1992) الذي برع في القصة القصيرة قبل أن يتفرغ للكتابة السياسية.
أسهمت الفورة التي حققها هؤلاء الأوائل واللمعان الذي حازوه في توجه أجيال جديدة من الأطباء ناحية الثقافة والإبداع لتضم الأجيال التالية مبدعين من أمثال الروائي المصري شريف حتاتة، والروائية نوال السعداوي، واستمرت ماكينة الطب في مصر تُفرز مبدعين عظاما من عينة محمد المخزنجي الذي كانت له إسهامات عظيمة في تطوير القصة القصيرة، وعكست كتاباته العلمية والطبية العديد من جوانب موهبته وحجم الاستفادة التي جناها من دراسته للطب.
استمرار الدهشة يقابل بدهشة أكبر لدى المبدعين الأطباءاستمرار الدهشة يقابل بدهشة أكبر لدى المبدعين الأطباء
اتسعت الدائرة رويدا لتشمل في ما بعد، كلا من محمد المنسي قنديل، علاء الأسواني، أحمد خالد توفيق، نبيل فاروق، حسن كمال، وطلال فيصل، إلخ. ومن السودان حسبو سليمان، التجاني الماحي، أمير تاج السر، محمد حسن بادي.
ومن السعودية متعب العنزي، منذر القباني، عبدالله مناع، وطارق الجارد، فضلا عن الروائية رجاء الصانع التي فاجأت المجتمع الثقافي سنة 2005 بروايتها الشهيرة “بنات الرياض”.
ومن سوريا لمع عبدالسلام العجيلي الذي كتب القصص والمقالات وأدب الرحلات، ومن بعده لمعت أجيال أخرى أبرزها خليل النعيمي، ثُم هيفاء البيطار، ومن المغرب نزار كربوط، وفاتحة مرشيد.
إذا كانت هناك سمات بعينها مميزة لكتابات الأدباء الأطباء، خاصة في الآونة الأخيرة، فلا شك أن أبرزها الاستغراق في وصف تفاصيل الشخصية الإنسانية وصفا أشبه بعملية التشريح، بحيث تبدو شخوص الرواية من لحم ودم وكأنها تتحرك بالفعل أمام القارئ.
وبما أن دراسة علم النفس جزء أساسي من دراسات الطب، فإن الكاتب الطبيب يمتلك أدوات أفضل في قراءة ورسم حدود الشخصية الإنسانية.
كما تتسم الكتابات بخبرات علمية لا يُمكن تحصيلها إلا لدى أطباء خاصة في ما يتعلق بالأمراض وغرائبها وأعراضها الظاهرة. فضلا عن اهتمام كبير بالتعبير بشكل واقعي عن مشاهد الموت بما يُحقق أعلى درجة من الصدق الإنساني.
ليس بغريب أن يعتمد الكثير من المبدعين تفاصيل دقيقة بخصوص أمراض نادرة تصعب معرفتها لمن هُم خارج المهنة، مثلما فعل الروائي السوداني أمير تاج السر في روايته “إيبولا 76” عندما رسم ملامح الوباء المنتشر في أفريقيا، أو مثلما فعل الأديب المصري حسن كمال في روايته الأحدث “نسيت كلمة السر” حيث بنى عالمه معتمدا على مرض غريب يصاب به البطل.
يقول حسن كمال، الذي صدرت له أربع روايات، وثلاث مجموعات قصصية وفاز بجائزة ساويرس للقصة القصيرة، إنه اعتمد عوالم الطبيب في روايته الأحدث لأن الطب يتضمن ما يتجاوزه الخيال، وسبق وقدم عالم الطب في روايته “المرحوم” التي تدور في مشرحة كلية الطب وفي عدة قصص قصيرة له.
ويشرح أن عوالم الطبيب الواقعية واسعة للغاية، وكم التجارب التي يعايشها ثرية لدرجة تجعله يُعاين أنماطا متباينة للشخصية الإنسانية، فهو يرى أمامه من المرضى، الغني والفقير، المتعلم والجاهل، المتشكك واللامبالي، البارد والمتقد، ويطالع ألوانا عديدة من البشر، وإذا كان مهتما بالأدب والحس الفني فإن قدرته على رسم الشخوص جيدة.
ويلفت إلى أن الطبيب يرى التشابكات النفسية للبشر، ويتابع كيف يختلف رد فعل مريض عن آخر رغم أنهما يعانيان المرض ذاته، فهناك شخص شكاء وشخص متشكك وشخص يحب الإنكار وآخر لامبال بشيء، وفي تصور كثير من القراء، فإنهم يشعرون بأنفاس الطبيب عبر صفحات الروايات والقصص التي يكتبونها.
تقول داليا فوزي، مترجمة مصرية مُهتمة بالأدب الحديث، لـ”العرب”، إن لغة السرد لدى المبدعين القادمين من خلفيات طبية تتميز بالصدق الشديد، وربما يعود ذلك إلى أن الطبيب اعتاد مصارحة مرضاه بكل شيء دون لف ودوران، ولمحت ذلك في كتابات علاء الأسواني وهيفاء البيطار التي تشعر أنها كتابات تصدم مُتلقيها من دون مناورات.
هناك رائحة للأديب الطبيب لا يُمكن تجاهلها، في ما يتعلق بوصف الحالات الشعورية النفسية، والقارئ المدقق يمكن أن يشعر بتخصص كل طبيب يكتب، فطبيب العيون أو الأسنان تختلف طريقته عن الطبيب النفسي أو الجراح.
هل يختطف الأدب ملائكة الرحمة من مهامهم الأساسية ليمنعهم عن مرضاهم، أم هل يتسبب في ضعف مستوياتهم المهنية نظرا لوجود شاغل آخر لهم هو الأدب؟
لا توجد إجابة قاطعة في ذلك، فهناك مَن يرى أن الموازنة مطلوبة وممكنة بين الأدب والطب، بل هناك مَن يرون الأطباء المبدعين أفضل مهنية وقدرة من التقليديين.
يؤكد حسن كمال، أن البعض يتصور أن الأطباء روائيون وشعراء جيدون، وهو يرى العكس، فالروائي الجيد هو بالضرورة طبيب جيد، لأنه ليست هناك حدود لخياله أو تصوراته، والطبيب يحتاج إلى الخيال في افتراض التشخيص المناسب.
ويقول محمد قلاش، طبيب قلب، ويكتب القصص القصيرة، إن هناك أوقات طويلة يقضيها بعض الأطباء في ورديات سهر بجوار مرضاهم في المستشفيات، وقد يستغرق البعض ساعات طويلة ينتظرون استيقاظ مرضى نائمين، ولا يمكن قطع ملل الوقت الطويل سوى بالقراءة، ثُم بالكتابة، “وهنا تولد إبداعات الأطباء”.
ويشير إلى أن كمّا كبيرا من الأطباء يوغل في الأدب والثقافة لكنهم يتراجعون في منتصف الطريق مُقررين الاكتفاء بالقراءة والاطلاع.
لكن هُناك أيضا مَن هجروا الطب تماما وتفرغوا للأدب مثلما فعل أديب الجاسوسية المصري نبيل فاروق، الذي قال لـ”العرب”، إن إغراء الأدب كان أقوى، وعندما التف الشباب حول رواياته، واهتموا بها اضطر للتفرغ، ففي بعض الأحيان يبقى سحر الكتابة أقوى وأكثر خلودا.