“ألو، بيروت؟”.. احتمالات الحياة بين ماضي لبنان وحاضره

النشرة الدولية –

العرب – حنان مبروك –

“من لا يعرف ماضيه، لا يستطيع أن يعيش حاضره ومستقبله..”، من هذه الفكرة وجدت الفنانة اللبنانية دلفين دارمنسي أبي راشد أنه من المثير والضروري النبش في ذاكرة بيروت، في سنوات الازدهار والسلام، للوقوف على حجم المأساة التي تواجهها هذه المدينة اليوم، فتجعل حاضرها معتما ومستقبلها ضبابيا، لكنها مأساة لا تخفي الأمل المتدفق في قلوب أبنائها، خاصة أولئك الفنانين الذين تحملهم أرواحهم دوما لتتبع الجمال ومحاولة التغيير.

تحضر العاصمة اللبنانية بيروت بصورتها المتوهجة والمشعة في ستينات وسبعينات القرن الماضي، ولحظات الانهيار التي توالت في العقود التالية، في أشعار وأنغام وروايات وحتى لوحات وأفلام أشهر المبدعين العرب، فمن بيروت نظم الشاعر السوري نزار قباني “بريد بيروت” ليخاطبها بعد سنوات بـ”يا ست الدنيا يا بيروت”، وبين القصيدة والأخرى استحضر أوجها متناقضة من الحياة في المدينة الصاخبة.

وقبل نحو ستة عقود غنت الفنانة اللبنانية صباح “ألو بيروت”، ومن بين كلماتها تقول “قلبي هونيك ضيعتو بعدو ضايع”، وتسترسل في ذكر أشهر المناطق في المدينة وتخاطب مبدعيها وصحافييها. وسرعان ما لقيت هذه الأغنية شهرة واسعة، حتى أن عنوانها صار اسما لمحلات ومراكز ومؤسسات فنية، تدور كلها في فلك بيروت وهويتها.

قبل ستين عاما، ضاع قلب صباح في بيروت وتفاصيلها، كما ضاعت قلوب بيروتيين كثر، يقفون اليوم وقفة تأمل مؤلمة، يراقبون فيها تبدل حال بيروت بين الأمس واليوم في معرض “ألو، بيروت؟” الذي يقتبس عنوانه من أغنية “الصبوحة” (كما يلقبها اللبنانيون) والمنعقد في بيت بيروت – السوديكو.

علاقة بيروت بأبنائها

“ألو، بيروت؟” استعراض لأرشيف ثري ومقارنة بين الماضي والحاضر تعكس شعورا ذاتيا بالحسرة على بيروت الماضي

لا تشبه بيروت في ستينات وسبعينات القرن الماضي بيروت التي تصلنا أخبارها اليوم، فبيروت زمان كانت منارة للفن والحياة بينما هي اليوم نموذج لـ”الانهيار” الذي طال كل القطاعات وفي مقدمتها الفن الذي هو سفير أي بلد للخارج. لذلك يأتي معرض “ألو، بيروت؟” ليكون استعراضا لأرشيف ثري ومقارنة بين الماضي والحاضر، عبر صور وفيديوهات ولوحات تعكس شعورا ذاتيا بالحسرة على بيروت الماضي، وهو شعور جماعي يعبر عنه أغلب اللبنانيين وحتى من ليسوا لبنانيين.

ويهدف المعرض حسب ما يوضح القيّمون عليه إلى “تقييم علاقة بيروت بأبنائها، عن طريق استعادة الماضي ومساءلة الحاضر في محاولة لتصور مستقبل أفضل”.

ويجمع المعرض بين أعمال فنانين وصحافيين وباحثين لبنانيين قرروا التعمق في تاريخ العاصمة بيروت الذي لطالما وصف بالتاريخ الذهبي.

ولدت فكرة “ألو، بيروت؟” مع الفنانة الفرنسية – اللبنانية دلفين دارمنسي أبي راشد التي انبهرت ببيروت الماضي عندما دخلت المبنى المهجور لأحد أشهر الملاهي الليلية في منطقة عين المريسة، وهو ملهى “الكاف دي روا” لمالكه بروسبير غي – بارا. فانطلقت من أنقاضه وبحثت في محتواها على مدى عشر سنوات حيث عثرت على بقايا أرشيف زاخر بالقصص والأحداث التي لا تصف العصر الذهبي لبيروت قبل الحرب الأهلية في العام 1975 وحسب، وإنما أيضا توثق حقبة من الفساد والسياسات الخاطئة التي سادت يومها.

وانطلاقا من أرشيف غي – بارا (1914 – 2003) الذي تمتع برؤية خاصة في عصره فاقترح العديد من الإصلاحات، وسلّط الضوء على رداءة الحكم والافتقار إلى الإرادة السياسية لإخراج لبنان من أزمات ما زال يواجهها حتى اليوم، تعمقت الفنانة أكثر في أرشيف الصحف والمجلات المحلية والعالمية للإضاءة على حقبة مهمة من تاريخ لبنان.

وأشار البيان الصحافي المصاحب للمعرض إلى أنه “إدراكا منها لقيمة هذا الأرشيف التاريخي ودوره في نقل صورة بيروت الستينات إلى الناس، قررت دلفين إقامة معرض في بيت بيروت، لمشاركة هذا الأرشيف مع كل من يريد التعرف أكثر على بيروت”.

وفي رحلة البحث، صارت الفنانة أبي راشد جزءا من ذاكرة بيروت، فجمعها وتركيبها لمقتنيات ووثائق جعلاها تتعرف على بيوت قديمة أقفلت وهجرت، وتزور مسارح وقاعات سينما وقصورا غادرها أصحابها. وكونت الفنانة وجهة نظر معمقة عن علاقة اللبنانيين ببيروت، منهم من غادر نحو عالم أفضل بعد أن عاش سنوات المجد، ومنهم من يقف في الحاضر منبهرا بالماضي وعاجزا عن رسم خطط فاعلة لتغيير المستقبل.

وتستعرض الصفحة المخصصة بالمعرض صورا قديمة ومتهالكة لحفلات موسيقية راقصة، ولكتب ومؤلفات نادرة، ولمنازل ومساحات مدمرة ومهجورة، لكنها تحافظ على أرشيفها من مكتبات وأسطوانات موسيقية وصور لأناس عاشوا وعملوا وأبدعوا بين جدرانها. كما تعرض صورا نادرة لعدد من أعلام بيروت ونجومها في فترتي الستينات والسبعينات ومنهم صباح ووديع الصافي وجورجينا رزق وفيروز وغيرهم.

وبينما تناولت الفنانة دلفين أبي راشد بيروت في الماضي، اهتم عشرة فنانين آخرين، يشاركونها المعرض، بحاضر المدينة عبر أعمال معاصرة، يقدم فيها كلّ منهم نظرته الخاصة لبيروت اليوم. وتعتمد تلك التجهيزات الفنيّة على وسائط عدّة منها: تجهيزات الصوت والصورة والفيديو، كما التجهيزات الأدائية، والتفاعلية منها.

وقفة تأمل

 

بعض من ذكريات الحياة في بيروت
بعض من ذكريات الحياة في بيروت

 

تتناول الأعمال المشاركة مواضيع تخص بيروت في الحاضر، ومنها ثورة تشرين والأزمة الاقتصادية والهجرة وانفجار المرفأ والعلاقة مع مدينة في طور الانهيار الاقتصادي والاجتماعي، كما الذاكرة المؤلفة لهوية المدينة وتبدلاتها عبر العصور.

والفنانون المشاركون هم: روان ناصيف، بيترا سرحال، وائل قديح، جوان باز، ليلي أبي شاهين، كبريت، كريستيل خضر، إيفا سودارغيتي دويهي، رنا قبوط ورولا أبودرويش. بالإضافة إلى تجهيز صور فوتوغرافية تجمع ماضي “الكاف دي روا” بحاضر المدينة للمصور الفرنسي ستيفان لاغوت.

وتعرض اللوحات في قلب متحف “بيت بيروت” الذي يحمل رمزية خاصة فهو الذي لطالما عرف بمبنى بركات وكان على خط التماس في الحرب الأهلية (1975 – 1990).

ولا يكفي الحديث والمقارنة بين حال بيروت في الماضي وحالها اليوم معرض موجز، لذلك سيتواصل “ألو، بيروت؟” لمدة سنة كاملة، علّه يصل إلى أكبر عدد ممكن من المتلقين، ويتمكن من خلق تفاعل بين الفنانين والمتلقي قد يكون نواة لميلاد مشروع فني يستكمل رحلة الذاكرة والأرشيف.

المعرض يجمع أعمال فنانين وصحافيين وباحثين لبنانيين قرروا التعمق في تاريخ بيروت الذي لطالما وصف بالذهبي

وفي خمس وعشرين غرفة خاصة بالمعرض، بإمكان الزائر أن يقف وقفة تأمل ويتصل ببيروت ومظاهر الحياة والفن فيها في الماضي، ويعيد التعرف على حاضره بوجهة نظر فنية لنحو عشرين فنانا، لكن بإمكانه المشاركة أيضا في قسم خاص يمكنه من إرسال فيديوهات ولقطات خاصة به عن بيروت بعد ثورة أكتوبر 2019، ليتم بثها يوميا في المعرض الذي سيستمر إلى غاية يونيو 2023.

ولن يكتفي القائمون على المعرض بعرض أعمالهم في الفضاء المغلق، وإنما يعقدون برامج ثقافية خاصة بالمدارس وعروضا غنائية ومسرحية وكذلك عروضا للباعة المتجولين باعتبارهم جزءا من تاريخ لبنان.

وتشارك فرقة “كلاون مي إن” بعروض مسرحيّة في الشارع مستوحاة من موضوعات المعرض، تحديدا انطلاقاً من شخصية بروسبير غي – بارا و”الكاف دي روا”، ومستحضرة ماضي بيروت الذهبي، وستقدم عروضا يومية على أن تكون كل يوم في شارع مختلف من شوارع بيروت.

“ألو، بيروت؟” هو باختصار محاولة للتواصل أو ربما إعادة التواصل مع بيروت، مع آلامها ومشكلاتها الراهنة، التي يأتي بعضها من سنوات خلت، وهو تواصل مع لحظات عاشت فيها بيروت مجدها وشهرتها الواسعة، علّه يكون محفزا للبنانيين لاستعادة بلادهم ووضعها على الطريق الصحيح التي ستعيدها إلى حالتها السابقة “مدينة للحب والفن والحياة”. لذلك يقول المشرفون على المعرض “حاضرنا رح يصير تاريخنا بيوم من الأيام، تعوا نكون جزء من يلي رح يكتبوا التاريخ”، وتظل بيروت كما وصفها الشاعر الفلسطيني محمود درويش “هي الكتابة الإبداعية المثيرة”.

Thumbnail
Thumbnail

 

زر الذهاب إلى الأعلى