عن المتاهة الليبية* مالك العثامنة

النشرة الدولية –

هناك عبارة ساخرة لكنها معبرة ابتكرها صديقي الساخر عارف البطوش يصف فيها الواقع السياسي الليبي حيث يقول: “ليبيا انتقلت من الكتاب الأخضر إلى كتاب حياتي يا عين”.

العبارة التي قالها صديقي ليست جديدة أو متزامنة مع المأساة الليبية الراهنة، فتعليقه كان من عام 2013 وكنت أيامها أعمل “بالمراسلة عن بعد” مع مؤسسة إعلامية ليبية وبواسطة سيدة ليبية كانت قبل الثورة الليبية بقليل من دائرة مقربي العقيد معمر القذافي، وبعد الثورة بقليل صارت الأقرب لكل أطراف من أسقطوا العقيد ونظامه.

خلال ذلك العمل، كنت حرفيا وبشكل يومي أطلع على مجمل الأخبار في الداخل الليبي المعقد بكل متاهاته (على الأقل بالنسبة لي حينها)، وكانت تلك الخبرة المكثفة زوادة كافية حملتها معي لأطرحها على شكل أسئلة وحوار بمعية زملاء أمام الراحل محمود جبريل، السياسي الليبي المخضرم رحمه الله، في لقاء تلفزيوني عام 2014.

باعتقادي، أنه بالإضافة إلى ضرورة فهم التاريخ الليبي الحديث ما قبل ثورة العقيد “الغريبة بكل تفاصيلها”، وما بعد ثورته ثم دولته “الأغرب لكل تفاصيلها أيضا”، ثم الثورة على ثورة العقيد التي لم تكن غريبة لكنها تأخرت كثيرا، ثم ما بعد ثورة الشعب على العقيد “ومصرعه” وتشظي الثورة الليبية بعد ذلك، فإنه لا بد من فهم تلك المرحلة تحديدا، المرحلة التي أعقبت ثورة الشعب الليبي على الطاغية، ومحاولة تلمس الأيدي الخفية والشبحية التي استطاعت أن تشرذم الوعي السياسي الليبي وتفرقه على فرق وفصائل ومليشيات كانت تنبت مثل الفطر حال توفر السلاح، وهو متوفر ومتاح منذ قامت تلك الثورة على العقيد.

يوجعني جدا ما آلت إليه الأحوال في ليبيا، وقد فرحنا لسقوط طاغيتها، فضاعت ثورتها بعد ذلك بين أطماع التيارات الإسلامية ومغامرين عسكريين

من غرائب الأخبار في تلك الفترة، أنه وفي نهايات صيف 2013، أعلنت مؤسسة النفط الليبية أن مجموعة مسلحة تابعة لحرس المنشآت النفطية قامت ببيع 700 ألف برميل نفط بدون معرفة السلطات المختصة! وأن بواخر تحمل كل هذا النفط توجهت إلى الدولة التي اشترت النفط المنهوب بقوة السلاح والقرصنة.

أذكر حينها أني وقفت أمام الخبر الذي وردني “لأصنع منه حلقة تلفزيونية”، أفكر في تلك العبثية العجيبة التي تحدث في دولة الثورة الشعبية على دولة اللجان الشعبية، ولفت انتباهي أن الخبر خال تماما من اسم الدولة المشترية للنفط المنهوب أو جنسية المشتري، والذي لم يتردد بتوقيع عقود شراء مع قراصنة محليين هم مكلفون بحراسة المنشآت النفطية.

بعدها بأيام، بدأت الأخبار تتوالى، ويتحول حرس المنشآت النفطية إلى مليشيا بنكهة تيار سياسي، وممثل الأمم المتحدة يحاور أطرافا منهم كقوة سياسية جديدة على الساحة.

حينها، كان هناك جسم سياسي اسمه “المؤتمر الوطني العام” وهو البرلمان المنتخب من الليبيين بعد ثورتهم على العقيد، وفي المؤتمر كان الإخوان المسلمون قد برعوا في لعبتهم المعتادة بخطف السلطة السياسية ومنجزات الثورة ليبدأ الشقاق الليبي ـ الليبي، وفي أي شقاق، هناك شقوق يتسرب منها أمراء الحرب، والعسكرتاريا، خصوم الإسلام السياسي التقليديين.

في 2013، كان الشقاق له جذوره أيضا وبدعم الإسلام السياسي من الخارج، لتعلن هيئة اسمها “شباب برقة” في بيان لها عن برقة كإقليم فدرالي بإدارة ذاتية كاملة، وأن الشريعة الإسلامية هي مصدر التشريع لا في برقة وحسب، بل في كل ليبيا، مع إنشاء قوة دفاع برقة (مليشيا مسلحة كباقي المليشيات).

كان ممثل الأمين العام للأمم المتحدة في موقف لا يحسد عليه، فكلما استطاع الوصول إلى ما يشبه قبولا للحوار، تشكلت مجموعة جديدة “مسلحة طبعا” تطالب بشرعيتها لحكم ليبيا، طبعا غير النزاع الأساسي الناشئ بين المؤتمر الوطني الذي انتهت صلاحيته وأصر على شرعية وجوده كبديل للفراغ السياسي، والبرلمان المنتخب الذي تم التشكيك بانتخاباته وشرعيته (التيار الإسلامي لم يكن أغلبية فيه طبعا) ولم يكن يستطيع أن يلتئم في بنغازي مقره أو طرابلس العاصمة فاختار طبرق مقرا مؤقتا له، والوقف تعرض للتصعيد بعد قرار المحكمة العليا (نعم كان هناك محكمة عليا في وسط تلك الفوضى)، ببطلان شرعية مجلس النواب، ومن المفارقات العبثية في كل هذا المشهد السوريالي أن مقر المحكمة العليا حين أصدرت حكمها كان محاصرا من قوات الفجر، وهي مليشيات إسلامية متطرفة!

تلك اجتزاءات من الذاكرة (الموثقة في أوراقي)، وهي بعض من كثير، لبيان حجم التعقيدات منذ البداية في ثورة الشعب الليبي التي تحولت إلى ثورة عنقودية متشظية أكلت أولادها والأخضر واليابس.

أتابع بوجع أكبر كل حثالات الأرض من مرتزقة قدموا لممارسة القتل المدفوع وسفح الدم على الأرض الليبية

يوجعني جدا ما آلت إليه الأحوال في ليبيا، وقد فرحنا لسقوط طاغيتها، فضاعت ثورتها بعد ذلك بين أطماع التيارات الإسلامية ومغامرين عسكريين لا يعرف أي منهما معنى ومفهوم الدولة والمؤسسات.

أتابع مشاهد الحرب من قنوات الطرفين اليوم، فأشاهد فيديوهات دموية يقصف فيها الليبي أخاه، وهو يصرخ الله أكبر، متوهما أنه من الفئة المؤمنة الناجية.

أتابع بوجع أكبر كل حثالات الأرض من مرتزقة قدموا لممارسة القتل المدفوع وسفح الدم على الأرض الليبية، وأفكر كيف استطاعت قوى الصراع في ليبيا أن تستورد كل هذا القتل في ليبيا.

يؤلمني شخصيا أنا ابن بلاد الشام، أن أرى مرتزقة قتل من أنحاء بلاد الشام، وقد تم شحنهم بتمويل ودعم تركي ـ إردوغاني، فأتذكر أن ليبيا “التاريخية” قامت في مطلع القرن الأول الميلادي بتصدير سمعان “القوريني” ابن برقة المزارع القادم من حقله في “أورشليم ـ القدس”، والذي روت الروايات التاريخية والإنجيلية أنه من حمل الصليب عن المسيح في طريق الآلام، وكان أول قديس في الكنيسة المسيحية، من ليبيا.

هي تداعيات تاريخية تفرض نفسها على تفكيري وأنا أتأمل الفانتازيا الليبية بكل عبثيتها الدموية، بذات الثنائية العربية المعتادة والمكررة، صراع العسكر والإخوان، ولا عزاء لدولة المؤسسات والقانون المدنية بينهما.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى