المآسي في كتب الشرق الحديث* يوسف طراد
النشرة الدولية –
في أيّامنا هذه أقفلَ مخلوقٌ مجهريّ يُدعى كورونا المسارحَ، والمدارسَ، ودورَ السينما، والمطاعم، ومعارضَ الكتب وجميع الصروح الثقافية. وإذا ما استعدنا ما حصل في زمنٍ سبق، نرى أنّ الأهوال والمآسي كانت منبعًا للإبداع الثقافي وبالأخصّ الروائي.
اِفترش الروائيون المسافات طوعًا، آثروا صوابَ العبث، بحكمةٍ متجرّدة، خارجَ عنق دواة الحبر، كأنهم مَنْذورون لتفاصيلَ مُبَعثرة على أهداب التاريخ القديم والحديث. أسكنوا الشَّغفَ خيالَ الحواس، فكانت صرخاتٌ مدوّية، خرجت من رحم رواياتهم عواصفَ شتاء وقدرَ أوطان.
روايات من وحي الحرب العالميّة الأولى
(البنك العثماني) روايةٌ للكاتب المصري سمير زكي، تضمّنت مأساة كُتبَتْ بالدم النافر والألم المكبوت، واصفًا التاريخَ المشحون، المدوّن بصدق، عن كيفيّة تعرّض الشعب الأرمني للاضطهاد منذ مئة عام.
وفي مذكّرات ميريام بيز بوصادر قبل وأثناء المجاعة في الحرب العالميّة الأولى، المجموعة في كتاب (مجاعة لبنان، شاهدة وشهداء) وصفٌ لمآسي وأهوال الحرب من مجاعة وأمراض في زمن فُقد فيه حتى الملح: “الكثير من الأصدقاء الأعزاء رحلوا إلى مثواهم الأخير ويرقدون هناك بسلام، وأنا أقرأ دائمًا من أجلهم هذه الصلاة: “يا الله، نحن ملزمون معًا بروابط عطاء المحبة، نصلّي إليك من أجل يوم من الحبّ الصافي. فلتحمنا من الغضب الذي يحرمنا من مرضنا مع بعضنا البعض. ولتقينا من الكلمات الحادّة التي يمكن أن تجرح أو أن تخيف أو أن تسبّب المعاناة لأولئك الذين إليك يرسلون إشارات المحبّة”…” هذه الصلاة في زمن حرب، مَن عبَرَ إلى نهايتها وبقي على قيد الحياة كان عابر حظ.
ومنذ حوالي مئة عام، كتب شبل عيس الخوري، المهاجر اللبناني إلى البرازيل، قصّةً واقعية عن حبٍّ جارفٍ حارق. وبقيت هذه القصّة طيّ الكتمان، إلى أن أبصرت النور عندما أجرى الأستاذ أنطوان سعد عمليّة قيصريّة، وأخرج وريقاتها من رحِمٍ هرمٍ، جمعها في كتاب (سِرُّ المئة عام). خلال السرد الشيّق الغني بوصف المآسي، حقبةٌ مذلّة من تاريخ الوطن، مغمورة في غربة موحشة. هذا مقطع يلخّص المجاعة التى مرّ بها الوطن في الحرب العالمية الأولى: “وقد مرّ عليها ثلاثة أيام لم تدخل جوفها إلّا حبات من شعير وذرة ظفرت في الحصول عليها بعد عراك قاس… وذلك إثر مرور فرقة من خيّالة العسكر التركي على الشّط قرب بيتها، حيث تركت تلك الخيول بمرورها حبّات الحياة.”
لكن، لم يؤرّخ أحدٌ مأساة لبنان خلال الحرب الكونية الأولى كما أرّخها الأستاذ رمزي توفيق سلامة، كتبها لنا بأحاسيس حزينة ووضعها في إطار رواية (الناجون 1914-1018) لننقلها إلى أحفاد أحفادنا في حال طُمس التاريخ. هذا وصف للأحياء كما ورد في الكتاب: “هياكل عظميّة مكسوة بالجلد، نساء وأطفال ورجال، جميعهم تقريبًا من دون شعر، أظافرهم مكسّرة، عيونهم كثقبين في الوجه”. هذا في التاريخ القديم.
الحرب الأهليّة اللبنانية في الروايات
ما لبثت أن ظهرت روايات تناولت تاريخنا الحديث، ناقلة صورة عن واقع الحرب الأهليّة في لبنان بكلّ ما جرى فيها من فظائع.
روت الأديبة مارلين سعاده حقيقة وطن موجوع، حين ارتجل حبرُها حياةً بكلِّ هزائمها، متمرِّدًا مع الأشخاص المعذَّبة، التي تشاركت في الألم خلال الحرب الأهلية اللبنانية. فكانت روايتها (خيّ جيديوس). ندخل قلب الإعصار الذي اجتاح القرى عندما نقرأ: “كانت ساحة الكنيسة وأدراجها مسرحًا للأعضاء البشريّة المهترئة، تدب عليها وتهب أنواع الحشرات… أَحسَّ بضياع تامّ، لم يستيقظ منه إلّا على صوتٍ مذعور، فنظر ليرى شبح إنسان يخرج من بين الجثث محاولًا إبعاد ما علق بجسده من بقايا بشرية وحشرات”.
واحتوى كتاب (للجبل عندنا خمسة فصول) للأديبة الرائعة ماري قصّيفي، على رواية مزجت كلّ الواقع في خيالٍ خصب، تمخّض عن فصل مؤلم من جلجلة وطن لم يجدْ من يمسح وجهه بمنديل. ثقبت جدار الصمت لتخرقَ جدار الصوت، عندما دمجت الحب مع الدماء والقذائف والهجرة والمرض والقلق، بوصف رائع معهود في أدبها الساحر. رسّخت حقيقة وطن بحدود متحرّكة أثناء الهجرة القسريّة من الجبل.
ونجد ضمن كتاب الأستاذ كلوفيس الشويفاتي (رصاصة الرحمة)، الذي أرّخ مرحلة من الحرب الأهلية، حقدًا موصوفًا، روى العاصفة بكثير من الجنون والكثير الكثير من الطيش المسيطر، كطيش التماسيح حول الضحيّة. عصفت الرغبات العمياء فكانت المآسي وزئير المدافع ولعلعة الرصاص: “مع مرور الأيام ، لم يعد القتيل يعنيك… فعندما يسقط في يوم واحد 15 أو18 أو20 قتيلًا وعشرات الجرحى الذين تكون على معرفة بنصفهم، تحمد الربّ على اليوم الذي يسقط فيه قتيلان أو ثلاثة فقط، ويصبح هذا اليوم يومًا مستقرًا وآمنًا”.
الروائي سامي معروف لم يعطِ صكَّ براءة لشبح الرعب الذي تسلّط على البشر والحجر خلال الحرب الأهلية في لبنان. يقول في مقطع من روايته (الفن الأسود): “لقد أنكروا وجود عسكريّ جريح. مع أنّ هناك دماء على الأرض! قالوا لنا أن هناك امرأة ولّدت بينهم، وحدث لها نزيف أثناء الوضع”.
أمّا في كتاب (موسم الهجرة إلى الحرية) للأستاذة لور المقدسي، فقد ظهرت جليًّا مشاعر صقلتها الهجرة وشحذتها الحروب، فكانت أقاصيص مترابطة مغلّفة بقسوة الغربة وحنين الوطن، اتقَنَت الكتابة بحبر رائع، فتراءت للقارىء بين السطور هيبة الأوطان المسلوبة وأحلام الموتى.
فيما ظهرت بوضوح ممارسة الاحتلال في زمن الوصاية السورية لعاصمة الشمال طرابلس، من خلال رواية (حي الأميركان) للأستاذ جبور الدويهي. هذا الجيش الذي اعتاد اللهو شقاوة في بلاده، لم يكن يعلم أنّ اللبنانيين يستمتعون بالحرية كالخبز اليومي، رغم القتل والتدمير والتهجير: “لا يعرف مدير المستشفى ماذا عليه أن يفعل لهؤلاء القتلى الذين وصلت رائحتهم إلى كلّ مكان والناس في حالة اضطراب لا توصف… اتفقنا على أنّه لم يبقَ سوى ترقيم القتلى ودفنهم سرًّا في مقبرة الغرباء…”
وقد وصفت الدكتورة لوريس الراعي في روايتها (بشرى) اضطجاع السماء على الفقراء من شمس لم تغيّر مسيرها، ووطن مجهول المصير. كما وثّقَت الندمَ المسحوق، ولوعةَ الانهزام في الحرب الأهلية اللبنانية، واصفة رقص المجون بين شطرَي العاصمة
الرواية اليوم وغدًا
رواية الكاتبة التونسية فتحية دبش، من خلال سطورها، سُمع إيقاع رقص الاحتضار فوق لجج الموت، خلال الترحال عبر أسطح المياه المتقلبة الخاطفة. حين تصف معاناة الهجرة من جنوب المتوسط إلى شماله، في زوارق المنيّة “لكل الذين دحرجهم التاريخ من ذات شموس إلى ذات ثلوج”.
ارتحلت الدكتورة نتالي الخوري غريب في روايتها (هجرة الآلهة والمدائن المجنونة) بين سيراليون وليبيريا ولبنان وسوريا والعراق، واصفة مآسي الحرب ومعاناة القارّة السوداء من وباء الإيبولا، وكأنّ التاريخ يعيد نفسه: “قرأ في جهازه النقّال بعض المعلومات التي أعلنتها منظمّة الصحة العالميّة حول خطر الوباء وأنّه يقضي على الإنسان خلال عشرين يومًا لا غير، وعدم وجود دواء له حتى الآن… إنّه ينتشر بالهواء، ليس فقط بلمس إفرازات المصاب كما يدوَّن”. قد يكون الهاجس نفسه سيطر على جميع الروايات: الخوف والمآسي والأهوال… إلّا أنّ أفق الرواية هنا امتدّ الى خارج حدود الوطن، متخطّيًا محيطنا الضيّق الى ما خلف البحار، بعدما تحوّل العالم بفضل التكنولوجيا الحديثة الى شبه قرية صغيرة.
برغم جنون الحرب العاصف في تلك الروايات، كنّا نقع على ومضات أمل وقصص حبٍّ تؤكّد غلبة الحياة.
تقول الأديبة غادة السّمان: “لا إجازة لمجانين الكتابة”. فنتساءل، بعد زمن العولمة، وزمن الكورونا المُخضِع للعالم أجمع من دون تفرقة، هل ستبقى المتعة في الحلم من خلال الواقع عزفُ لحن متدفّق من محبرة؟ هل ستستمر الرواية مستقبلًا بتأريخ حرب أو هجرة أو وباء أو معاناة، موقظَةً الحبّ ليكون ابتسامة كقوس قزحٍ بعد إعصار؟ إذا حصل، لن يكون الأمر جنونًا عاديًا، بل سيكون جنونَ عباقرةِ نادٍ انتمت إليه غادة السّمان.
Mon liban