الفلسطيني مروان رشماوي يرثي بيروت جماليا… “وتستمر الأشجار في التصويت للفأس” عنوان شاعري لواقع صادم

النشرة الدولية –

العرب – ميموزا العراوي –

بعد حوالي سنة من الإغلاق القسري بسبب الدمار الذي أصابها جراء انفجار مرفأ بيروت في الـ4 من أغسطس 2020 افتتحت صالة “صفير زملر” أبوابها لتقدّم معرضا فرديا كبيرا للفنان الفلسطيني مروان رشماوي حمل عنوان “وتستمر الأشجار في التصويت للفأس”.

ما إن يُذكر اسم الفنان الفلسطيني مروان رشماوي حتى يتبادر إلى الذهن الفن التجهيزي/المفاهيمي رفيع المستوى، لأنه زاخر بالأفكار ويتمتع بتظهير فني لافت لها.

والفنان الفلسطيني هو من أهم الفنانين الذين اتخذوا منطق وأسلوب الفن المفاهيمي وتمكنوا من أن يظهروا الأفكار التي أرادوا التعبير عنها بأسلوب فني مغاير لا يقع في لا جدوى الإبهام والغموض السلبي.

سريالية موضوعية

 

معالم أرضية متحولة ومعنّفة
معالم أرضية متحولة ومعنّفة

 

لعل أهم ما يميّز أعمال رشماوي أنها مرتبطة بمنطقتنا العربية، ولكنها في الآن ذاته مفتوحة على تأويل يُمكن إنزاله على مظاهر مختلفة من العالم.

وتوجد خاصية هامة جدا تتجلى دائما في “مشاريعه” الفنية بشكل عام وهو أنها خلافا لأعمال فنانين تجهيزيين عرب كأعمال الفنان وليد صادق، ليست مُدّعية وصاحبها غير مُلمّ (أو غير مهتم) بإيصال معنى أعماله بشكل عام إلى المُتلقي.

وتعتبر صالة “صفير زملر” البيروتية التي يعرض فيها صادق وغيره من الفنانين المعاصرين أولى الصالات اللبنانية التي تقدّم معارض مفاهيمية رثة وممتازة على السواء. كل هذه خصائص تقدّم رشماوي كفنان معاصر جمع المجد من أطرافه.

ومعرضه الجديد “وتستمر الأشجار في التصويت للفأس” أتى كعادة الفنان حاملا للعديد من المعاني والرموز أساسها عنوان شعري يعكس واقعا صادما.

وتضمن المعرض عددا كبيرا من الأعمال التي بدت وكأنها نمت من أرض الصالة كشواهد على الحياة طورا وعلى قبورها طورا آخر، وأعمال أخرى شاهدة على اتحاد الموت بالحياة وهي الأخطر، وربما هي الأكثر ارتباطا بعنوان المعرض الذي يشير إلى عشق الضحية لجلادها أو استمرارها في التصديق، لا بل التماهي مع أكاذيبه.

وأعماله في المعرض الحالي تنّم، أيضا كالعادة، عن إبحار الفنان في الموضوع الذي أراد معالجته وتدلّ أيضا على تورّطه العاطفي فيه دون أن يأخذه ذلك إلى تشويه مصداقيته.

 

أعمال رشماوي تتميّز بارتباطها الوثيق بالمنطقة العربية مع انفتاحها على تأويلات يمكن إسقاطها على مظاهر عالمية مختلفة
أعمال رشماوي تتميّز بارتباطها الوثيق بالمنطقة العربية مع انفتاحها على تأويلات يمكن إسقاطها على مظاهر عالمية مختلفة

 

ويستمر رشماوي في تقديم “دراسة” تلطّت بالفن كي تكون أكثر تشويقا ودلالة على المعنى الذي أراد طرحه. أما المعنى الذي لم يزل الفنان يهجس به فمتعلق بعالم المدن وفلسفتها وقدرتها على أن تكون مرآة كاملة لسلوكيات المدينة ومنبرا افتراضيا مُطلا على الحاضر والماضي والمستقبل في آن واحد.

وذلك كله من خلال التحوّلات الاجتماعية والسياسية التاريخية والاقتصادية والبيئية والنفسية/ الفردية للمدن ورصد تحوّلاتها الجغرافية/الاجتماعية عبر آلية و”فنية” ضغط وتكثيف للمكان وللزمان بغية تظهير التحوّلات وتبيان تعايش الأزمنة المختلفة والاختلافات الطارئة في قوالب تبدو كأنها سريالية، ولكنها في حقيقتها ليست كذلك.

وإذا كان هناك ثمة مقارنة وإن كانت “مكروهة” ما بين أعمال الفنان وفنانين آخرين، امتازوا بأعمال فنية شديدة الأهمية تستطيع أن توضح ما الذي يجعل عمل مروان رشماوي مفاهيمي/تجهيزي أولا وأخيرا، فهو مواجهة أعماله بأعمال نحتية رائعة للفنان بسام كريللوس التي حتما لها خلفية فكرية عميقة غير أنها أعمال جمالية وشاعرية تومض ومضا بما تريد أن تقوله من منطلق نظرة شخصية.

ويمكن مقارنة أعمال رشماوي بشكل عام بأعمال نحتية عديدة للفنانة اللبنانية جنان مكي باشو لمبنى برج المرّ البيروتي الشهير والمرتبط بالحرب اللبنانية. (في معرض رشماوي منحوتة تجسّد برج المرّ، ولكن بـ”موضوعية” أكثر) وضمن سياق المعرض السردي.

هنا أيضا، ومع التأكيد على أهمية أعمال الفنانة بصريا وفكريا، تجيء أعمال باشو كنوع من استعراض تاريخي يستقي جماليته من الذكريات الشخصية بشكل أساسي أو ممّا “كتب” أو شوّه التاريخ من حقائق.

توثيق للمأساة

 

تجهيز يروي سيرة بيروت المدمّرة
تجهيز يروي سيرة بيروت المدمّرة

 

مروان رشماوي هو بالتأكيد فلسطيني وشغوف في عمقه بفلسطينيته، ولكنه لبناني أيضا، فقد ولد في بيروت وغادرها في عمر الثماني سنوات ليعود ويستقر فيها. ومن ثمة لم تتوقّف بيروت المدينة عن كونها مركزا لاهتمامه.

وفي هذا السياق لا يمكن إلاّ أن نذكر ما قدّمه الفنان منذ سنتين في معرض احتضنته “دار النمر” البيروتية، جاء تحت عنوان “إرث وطني”، وأوضح القيّمون على ذلك المعرض آنذاك أن رشماوي اقتبس أعماله وعنوان معرضه من كلمات جون فردريك سالمون، رئيس “لجنة مسح فلسطين” بين عامي 1933 و1938، الذي كتب “يجب التعامل مع المساحة الطبوغرافية المتقنة كإرث وطني من الطراز الأول”، ساخرا من هذه العبارة التي تبجّل المساحة والوطن معا، ولاسيما أن ما حدث لاحقا في فلسطين من تجريف للإرث والأرض والإنسان، يجعل من العبارة مفارقة ساخرة.

المعرض كشف للزوار قَصّ وتخطيطَ وتحويرَ أسماء اعتمدت عليها السياسات البريطانية تمهيدا للاحتلال الإسرائيلي.

والمعرض الحالي لا يختلف من ناحية منطق التحقيق والتوغّل في معالم “أرضية” متحوّلة و”معنّفة” وعزيزة على الفنان، بداية بفلسطين وصولا إلى بيروت، التي اختارها رشماوي كموضوع لأعماله بعد أن تطرّق إليها في العديد من المعارض السابقة.

يُذكر أن الفنان عندما وقع انفجار الرابع من أغسطس الماضي، كان يستعدّ لإقامة معرضه في هذه الصالة المحاذية للمرفأ. تجهيزاته كانت آنذاك لم تزل في صناديقها ولم تُصب بأذى، لكن الصالة أصيبت بشكل هائل ممّا اضطرها إلى الإقفال القسري. ثم عاد الفنان وعادت الصالة وجاء العنوان، عنوانا لاستمرارية الهول ولمصداقية مضمون المعرض.

وإضافة إلى هذه الأعمال قدّم أعمالا استقى موضوعها من الانفجار، واستخدم في تكوينها بعضا من المواد “المُفضلة” لديه والتي كان يختارها دائما وفق ملاءمتها لمضمون الأعمال. نذكر منها الإسمنت والشمع وما “أنتجه” الانفجار الهائل من مواد أُخرجتْ من الصالة بعد ترميمها وهي ردم إسمنتي ومعدني من الجدران، وألمنيوم من الشبابيك الذي كوّره عصف الانفجار، فأبقاه مُعلقا على “أجساد” الشبابيك بعد أو قبل أن تهوي أو تتحطّم كليا. وفي تلك الأعمال نجح الفنان في نقل ديناميكية الفعل الوحشي واستطاع أن يعلّق النفس على وقع اللحظة المأساوية.

Thumbnail

ShareWhatsAppTwitter

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى