غسان حنا “الأعمى” لم تشفع له شهاداته… اعتبره سائق التاكسي”مشكلة” ونُصح بتعلّم “تقشيش الكراسي”
النشرة الدولية –
نداء الوطن – غادة حلاوي –
عندما دخل الدكتور غسان حنا قاعة التدريس في جامعة الحكمة، كان يتوقّع ردود فعل متفاوتة من الطلاب الذين سيجدون أنفسهم في مواجهة أستاذ “أعمى”. هذا ما اختبره على إمتداد ٢٤ عاماً من فقدان البصر الكامل في مجتمع يتقصّد تهميش ذوي الاحتياجات الخاصة. لكن أستاذ مادة التعاون الدولي الاقتصادي والاجتماعي كان واثقاً من قدرته على التأثير في الطلاب فانخرط عدد منهم في العمل التطوعي لمساعدة ذوي الاحتياجات الخاصة… من دون ان ينجح في تغيير شيء في سياسة الدولة تجاه هذه الفئة من المواطنين.
بهدوء يجلس الشاب الأربعيني منتظراً ضيوفه. نظاراته السوداء الداكنة لا تحجب طيب الملقى وسلاسة المحادثة. حتى الحديث عن همومه ومشاكل حياته يغلفه بإبتسامة. فقدانه للنظر لم يفقده إيمانه واصراره على العيش باحثاً عن الأمل في كومة تعقيدات اجتماعية وقانونية.
أن يفقد غسان حنا نظره في بداية شبابه فهذا يعني ان نضاله سيكون على جبهات متعددة: التعايش مع عالمه، والتعايش مع مجتمع يتقصد تهميشه لمجرد انه من ذوي الاحتياجات الخاصة.
لم تشفع له شهاداته الجامعية المتراكمة ليحجز له مكاناً مرموقاً في المجتمع. الحائز على شهادة دكتوراه وسبع شهادات دراسات عليا وثلاث اجازات كان ممنوعاً عليه ادراج سيرته الذاتية بين سير المتقدمين للوظائف، والسبب انه من ذوي الاحتياجات الخاصة.
ولد غسان حنا كأي طفل عادي لولا خطأ طبي جعله يفقد نظره على مرحلتين ويخضع لخمس عشرة عملية جراحية.
كان في السابعة من عمره يوم بدأ كابوس فقدان النظر يقلق حياته “كنت أخجل من نظاراتي وزجاجاتها السميكة والتي بسببها كنت عرضة للتنمّر من رفاقي في المدرسة ما تسبب لي بأزمة نفسية في سن مبكرة”.
انتبه لعيونك
أزمة غسان النفسية لم تنحصر في رفاق المدرسة، وبداياتها كانت من الاهل والمحيط وعبارة “انتبه لعيونك” التي حاصرته وحالت دون ممارسته هواياته المفضلة في لعب كرة القدم “كله ما بيسوى، ما بيسوى، كدت اشعر بالاختناق”.
كل ما اختزنته ذاكرته عن عمر الطفولة يشعره بالضيق “كنت انزعج من فكرة الجلوس دائماً في المقاعد الأمامية في الصف بسبب نظري الضعيف، لم تكن لي حرية الاختيار. لكن الموقف الأقسى ساعة سمعت مسؤول المدرسة يبلغ والدتي بضرورة انتقالي الى مدرسة اخرى لأتكيف مع ضعف نظري”.
أما القصة الأكثر تأثيراً في حياته فتبقى تلك المتعلقة بالرجل الضرير الذي كان يمرّ بقربه في الشارع وهو صغير “كان اهلي يخيفونني به ويرددون على مسمعي كلما مرّ امامي اذا لم تنتبه لنفسك ستصبح مثله… كفيفاً”. وقع العبارة القاسية تلك جعله يستطلع عالم الرجل بنفسه “في اللاوعي أردت ان اعرف ما الذي ينتظرني، كأن صوتاً باطنياً كان يطلب مني التعرف على حياة ذاك الرجل وطريقة عيشه، مشيت معه الى منزله وهو يضع يده على كتفي، دهشت انه بينما يعيش وحيداً فهو قادر على إدارة كل امور حياته بدون مساعدة، منزله مرتب وحياته منظمة”.
الولد الذي كانت مجرد فكرة فقدانه النظر تزعجه، وتجعله يتصبب عرقاً وهو الذي يختنق من الظلمة ويخافها، اخذ درسه الاول من تجربة ذاك الرجل “الحياة ستكمل مهما كانت الاعاقة وعلينا المواجهة”. بعدها حاول اكثر من مرة التدرب على مصيره بالسير مغمض العينين وكان يصطدم بالاشياء من حوله ويقول “مستحيل ان أعيش”. لكن وللمفارقة فمنذ فقد غسان نظره قبل 24 عاماً ولغاية اليوم، لم يصطدم بشيء ولم يقع في حياته.
كان في الحادية والعشرين من عمره يوم فقد نظره كاملاً. كان يلعب الكرة ساعة تعرض لضربة قوية على رأسه سرّعت في فقدانه نظره نهائياً “أذكر ذلك النهار جيداً، آخر ما رأيته كان وجه والدتي وهي تصرخ فيما يحاول أخي الإمساك بها، أما الطبيب فكان يضرب على رأسه ويصرخ شو عملت بحالك يا غسان”.
يرى ما لا يراه كثيرون
هنا بدأت رحلة الشقاء في حياة الشاب الطموح الذي حاول تعويض خسارته بالإنكباب على طلب العلم “كان البعد الاكاديمي متاحاً كي اثبت نفسي واستطيع ان اواجه المجتمع لأكون فاعلاً فيه”. لكن كلما تضاعفت شهاداته، كلما زادت العقبات التي اعترضت مسيرة حياته “لغاية اليوم لا ازال اعاني من عدم ايجاد عمل ثابت على الرغم من كل الشهادات التي نلتها” يقول غسان “نحن في بلد لم يطبق فيه القرار 2020/2001 الذي يلزم المؤسسات ايجاد فرص عمل لذوي الاحتياجات الخاصة”.
كلما طرق باباً طلباً للوظيفة كانت الاحكام المسبقة تسبقه “كانت نظرة من التقي بهم تتوزع بين الشفقة لأني شاب كفيف، او الحكم المسبق بعدم قدرتي على ممارسة العمل الذي أتقدم له. مشكلة المؤسسات تكمن في عدم استيعابها ان شخصاً من ذوي الاحتياجات الخاصة بامكانه ان يتجاوز مشكلته ويشكل قيمة مضافة للمؤسسة اكثر من شخص يتمتع بنظره”. يسلم غسان بواقعه ويقول”نعم انا كفيف ولكن انجازاتي تفوق انجازات غيري ممن نالوا فرصهم في الحياة”.
اكثر ما يترك أثراً في قلبه ان بعض المؤسسات التي تقدم بطلب للعمل فيها كانت تتجنب ادراج سيرته الذاتية بين غيرها من السير لانه كفيف. يقول: “أصدقائي قالوا لي لا تتأمل لانهم لن يختاروك. مزقوا ملفك. تصوري!”. مثل هذا السلوك لا يزال متبعاً في العديد من مؤسسات الدولة او تلك الخاصة حيث يرفض هؤلاء ان يشاركهم الكفيف تجاربهم الوظيفية.
وليس تعاطي المؤسسات الرسمية افضل، وشرط التواصل معهم ان يحوز على “واسطة”. هذه حصيلة تجربة غسان معهم: “حاولت اكثر من مرة، تقدمت بطلب توظيف من مؤسسة رسمية ولم ألق اي تجاوب لاني لم اكن من المحظيين ممن يدعم وصولهم احد النافذين في السلطة”.
كل ما خطط له غسان في حياته فشل الى ان شاءت الصدفة ان يستفسر استاذه الجامعي عن وضعه ويعرض عليه التعليم في الجامعة لينطلق مشواره الوظيفي قبل سبع سنوات هي من أجمل أيام حياته وأفضلها “طلبت من الادارة ان تبلغ الطلاب بوضعي تجنباً للاحراج. دخلت في اليوم الاول برفقة مساعدي وبدأت بالتحدث الى الطلاب عن وضعي وعن الشهادات التي نلتها. كان بينهم من انزعج للواقع وبينهم من ضحك لقسوة التجربة، وهناك ومن لم يبال. لكنهم صارحوني بانهم وقعوا في حيرة من امرهم كيف سيتعاطون مع استاذ أعمى”.
خلال احدى المحاضرات دخلت طالبة متأخرة الى القاعة وما هي الا لحظات حتى سمعت ضجة وهرجاً ومرجاً في القاعة واحد الطلاب يغادر بسرعة، فعلمت بعدها انها غادرت اذ لم تستطع أن تتماسك وتمنع نفسها من البكاء بعدما علمت بوضعي”.
مع مرور الوقت، تقبل الطلاب حالة غسان وصاروا سنداً له، ومنهم من تطوع في جمعيات لمساعدة ذوي الاحتياجات الخاصة بينما بقي المسؤولون على عنادهم. وهل ينسى الشاب الطموح نصيحة احدهم بتعلم صناعة تقشيش الكراسي كمهنة بدلاً من التعليم “قال لي صراحة من غير الممكن ان تستمر في التعليم فسألته وما خياراتي البديلة فنصحني ان أتعلم “تقشيش” الكراسي فقلت له سبق وان حاولت تعلمها وفشلت”. يشكو كيف ان تعاطي بعض الناس لا يزال أسير الافكار المسبقة “البعض لا يعرف كيف يتعاطى معي ولا يستوعب اني فاقد للنظر، احياناً ليس عن سوء نية ولكن لجهلهم بطريقة التعاطي. لا احد يفهم سر الالم الا حين يعيشه”.
في قرارة نفسه يتمنى غسان لو يتفهم المجتمع وضعية الكفيف فلا يعتبره صاحب التاكسي “مشكلة” اذا احتاج لمساعدته، ويعترف الاهل بواقعه قبل غيرهم ويتعاطون معه على هذا الاساس.
في حالتين يتمنى غسان لو كان نظره سليماً، عندما يتحدث اليه الآخرون عن جمال الطبيعة، او عند وصف احدهم لفتاة جميلة. والاخيرة تلك يتمنى غسان لو يصادفها يوماً لتكون شريكة حياته. فحياته العاطفية لم تكن بافضل منها على المستويين المهني والاجتماعي فالاستاذ الجامعي اصطدم مشروع ارتباطه مرات عدة برفض أهل الفتاة التي احب لكونه من ذوي الاحتياجات الخاصة “لا ألوم الاهل وربما لو كنت أباً لرفضت مبدأ ارتباط ابنتي بشخص من ذوي الاحتياجات الخاصة” لكن ربما كان السبب الاضافي ان وضع غسان غير مستقر اجتماعياً فهو لا يتقاضى دخلاً ثابتاً ولا منزل لديه، ومستقبله كمستقبل الكثيرين من ابناء جيله رهن المجهول مع فارق “اني بمقدوري ان أكفي نفسي وشريكة حياتي ولا بد ان اجد تلك الانسانة التي تجعلني ارتب حياتي بطريقة مختلفة”.
كل امنيات غسان يختصرها بوجود دولة تحترم شعبها ومن بينهم ذوي الاحتياجات الخاصة وتؤمن لهم مقومات الحياة الاساسية، ومجتمع يتفهم ان ذوي الاحتياجات الخاصة ليسوا مهمشين.
المحامي في الاحوال الشخصية والمتخصص بعلمي النفس والاجتماع له ثلاثة مؤلفات ويعمل على اعداد الرابع، مؤلف وموسيقي وله عشرات الاغاني عبر اليوتيوب على امل ان يحظى بشركة انتاج تساعده في اطلاق اعماله وانتشارها لعله يجد في ذلك تعويضاً عن غبن طويل لحق به.