آلام النيبالية «رادهات»
بقلم: أحمد الصراف

النشرة الدولية –

كانت «رادهات» جالسة على مصطبة صغيرة وهي تعجن خبزاً لوضعه في التنور الذي أمامها، وابنتها الصغيرة، ووالدها المريض، بانتظارها.

ينفتح باب البيت المهترئ فجأة، والذي لا يتحمل وضع أية أقفال عليه، ويدخل صبي بأسمال بالية ويصيح بملء فمه: رادهات… رادهات… لقد ورد خبر لمكتب البريد بأن زوجك قتل في حادث انهيار جليدي على الهمالايا.

لم تسمع رادهات ما قاله الصبي، وقامت بغير إدراك برمي كل العجين في التنور، وانهارت باكية بصوت صامت يقطع نياط القلوب، بعد أن أسودت الدنيا في عينيها! وأخذت تلطم وتتساءل من بين دموعها ومخاطها، ماذا سأفعل الآن؟ من سيرعاني ويطعم أبي وابنتي؟ من سيسدد مصاريف الكهرباء والماء؟ كيف سأدبر ثمن الدواء لوالدي؟ أين زوجي؟ أعيدوا لي زوجي!! وقعت مغشياً عليها على الأرض، ووالدها وابنتها بجانبها لا قدرة لهما على فعل شيء، ولا علم لهما بكيفية مساعدتها في مأساتها!

***

مر أسبوع على وفاة الزوج، ولا تزال رادهات ضائعة وحائرة في ما يجب عليها القيام به، بعد أن أوشكت النقود القليلة التي تبقت لديها من آخر راتب تلقاه زوجها بالنفاد، كما أوشك حزنها أن يشل عزيمتها على العمل.

بعد ما يقارب الشهر تقريباً انفتح باب البيت الصغير بقوة، كما حدث في ذلك اليوم الكئيب، ودخل نفس الصبي لاهثاً طالباً من رادهات، بحركة استعجال من يده، أن تقوم فوراً وتتبعه لمكتب البريد، فهناك من يبحث عمن يود العمل في الكويت.

***

وصلت رادهات إلى مطار الكويت في الثالثة فجراً بعد رحلة طويلة ومتعبة جداً، وبرفقتها أكثر من خمسين من مواطناتها، وبعد يومين من التنقل من القرية الجبلية سيراً على الأقدام لساعات، وبعدها على ظهور البغال إلى المدينة القريبة، ومنها بالحافلة لمطار العاصمة «كتمندو» والكويت عن طريق دبي.

كان مندوب الشركة بانتظارهن في المطار، حيث قام بتخليص معاملاتهن ببطء شديد، زاد من آلام السفر ومشقته عليهن.

بعد ثلاث ساعات وجدن أنفسهن في عمارة عرفت تالياً أنها تقع في «المهبولة»، ووجدت أنه ستشارك أربع نسوة أخريات غرفة نوم واحدة، مع حمام لكل خمس غرف.

في صباح اليوم التالي بدأن العمل، وكان الاتفاق أن تدفع لهن شركة مقاولات النظافة 75 ديناراً راتباً شهرياً، مع السكن.

كان يوم قبض الراتب عيداً خفف شيئاً من آلامها، وقلقها على صحة والدها، وشوقها لابنتها الصغيرة، التي تركتها عند شقيقتها الوحيدة، والتي أرسلت لها كل راتبها، إلا ما يكفيها لشراء القليل من الطعام لشهر كامل، وطلبت من شقيقتها سداد جزء من الدين الذي اقترضته للقدوم إلى الكويت، مقابل رهن بيتها المتهالك لكي تدفع ما يعادل الألف دولار عمولة للسمسار الذي دبر لها العمل.

كانت رادهات تعمل يومياً 9 ساعات متواصلة، وكان الانتقال لمكان العمل، في وزارة تعنى بأمور الدين، والعودة للسكن، يستغرق عادة ما يقارب الساعتين، وكان ذلك يستنزف قواهن، ولكن ما تركنه جميعاً من ديون خلفهن كان يدفعهن إلى العمل بإصرار وصبر غريبين، ولم يكن أحد، بطبيعة الحال، يرحم أوضاعهن، ولا سوء طعامهن ولا صعوبة عيشهن، والحكومة تعرف ذلك، ولكنها مجبرة على القبول بأقل عروض المقاولين، الجشعين في أغلبيتهم والمتاجرين بالبشر، أمام سمع ونظر… الجميع!

***

مرت الأشهر الستة الأولى ببطء شديد، وإرهاق أشد، ولكنها كانت صابرة من أجل ابنتها وأبيها، فقلقها عليهما كان يقل يوماً عن يوم وهي تسمع بتحسن صحة والدها، وانشغال ابنتها عنها بما كانت تشتريه لها خالتها من لعب ساذجة، وكانت تراقب كل ذلك من خلال هاتف «الواتس أب» الذي اشتركت مع زميلاتها في شرائه. كما نجحت مع نهاية الشهر السادس من سداد ما يقارب نصف قرض رهن بيتها.

***

كان يوماً «كسيفاً» يوم أخبرهن رئيس العمال بأن رواتبهن سيتم تخفيضها مع بداية الشهر التالي، وأن المبلغ المخصوم سيتم جمعه ودفعه في نهاية خدمة السنتين، ومن لا تقبل بتوقيع أوراق بهذا الخصوص، وباللغة العربية، فسينهى عقدها وترحّل إلى بلدها!

جاء راتب الشهر السابع ناقصاً، ثم توقف دفع الرواتب كلياً.

لم تستطع «رادهات»، ولا زميلاتها، التوقف عن العمل، ومرت أربعة أشهر وهن يعملن من دون مقابل، ليس في الأفق أمل في انفراجة، قريبة، وبدا الجوع يعضهن بنابه. ولم يكن أمامهن في النهاية غير التوقف عن العمل، ونصحهن عامل زميل بالانضمام إليه واللجوء إلى هيئة القوى العاملة.

نظرت الهيئة بصورة مستعجلة في الشكوى، وأحالت أصحاب الشركة إلى النيابة، وقامت بالاتصال فوراً بجمعية الصداقة الإنسانية تطلب تدخلها السريع وتوفير الغذاء لأكثر من 500 عاملة وعامل، معظمهم من دون رواتب منذ أشهر عدة ، ومن دون طعام.

كيف يحدث هذا في بلد لديه عشرات المؤسسات المتخمة بالأموال؟

لماذا لا تقوم الجهات المعنية بطلب بوليصة تأمين من شركات استقدام العمالة أو غيرها، بحيث يمكن لعمالها الاستفادة منها في شراء متطلباتهم الضرورية، إن توقفت الشركة عن دفع رواتبهم؟

إلى متى يستمر هذا الانتهاك الصارخ لحقوق هؤلاء؟ ولماذا لا يود أحد التحرك لوضع حد لجشع بعض الشركات التي تخصصت في المتاجرة في البشر وأكل حقوقهم؟

ومن يساعد رادهات، التي تواضعت أحلامها وانحصرت في الحصول على جوازها، وثمن تذكرة لتعود لابنتها الصغيرة وأبيها العليل؟!

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى