آه يا ابن خلدون ..العالم ينتحر
بقلم: صالح الراشد
النشرة الدولية –
ضبابية تلف العالم تنشر الجنون، ففي هذا العصر اختفى العقلاء ولم يعد لصوت العقل مكان، فيما تتردد أصداء رغبات قاتلة هدفها زيادة تفكك العالم ومصادرة كل مقدراته، لتصب في معين واحدة يسيطر عليه قتلة مأجورون، ففي عصر التفاهة والتخلف الفكري يلوذ العقلاء بالصمت، كون صرخاتهم لا تصل للآخرين في ظل سيطرة الإعلام المُسير والمأجور على محطات العالم الفضائية، وزاد من خطورة الأمور ما حذر منه أسطورة العرب الفيلسوف المؤرخ ومؤسس علم الإجتماع ابن خلدون قبل ستة قرون.
فهذا العربي القابع في مركز العلم العالمي في ذلك الوقت، ألف كتاب أطلق عليه ” كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر”، وهو إسم طويل يعبر عن رؤيا عميقة حين كتب فيه: “عندما تنهار الدول يكثر المنجمون والمتسولون والمنافقون والمدّعون والكتابة والقوالون والمغنون النشاز، والشعراء النّظامون والمتصعلكون، وضاربوا المنّدل وقارعوا الطبول والمتفقهون، وقارئوا الكف والطالع والمتسيّسون والمدّاحون والهجائون وعابروا السبيل والانتهازيون”.
هي كلمات نشاهدها كأفعال على أرض الواقع حالياً، فقد ظهر المنجمون ليقودون العالم متسلحين بإعلام جاهل حد الغباء المُطلق، حين حول الإعلام المنجمون إلى قادة مجتمع فكري ومنارات للعلم والمعرفة، وروج لهم على أن خزعبلاتهم حق يقين، وأنهم مطلعون على الغيب وبدأ الإعلام الجاهل المُجهل باستضافتهم للحديث عن القضايا السياسية وطرق حلها ومَنْ وكيف ومتى سيتم حلها، والغريب العجيب ان الإعلاميين يُظهرون نوع من القداسة لهؤلاء ويرتعبون وهم يحاورونهم، مما منح بعض المنجمين نوع من الرهبة.
وفي الحرب الروسية الأوكرانية أعاد حمقى الإعلام مجموعة من المنجمين للواجهة من جديد، وإن لم يكن بحضورهم الشخصي فمن خلال استعادة خزعبلاتهم والتعامل معها على أنها أمر واقع يجب أن يصدقه المشاهدون، فشاهدنا العديد من قنوات الظلام تُعيد ما قاله ميشيل حايك ، نوستراداموس، ابو علي الشيباني، ليلى عبداللطيف وتاتيانا بورش، بخصوص نهاية العالم والحرب الروسية الأوكرانية، وشعرنا بأننا نسكن في عصور سحيقة حين تم تداول قصيدة التبع اليماني في حضرة كُليب قبل مقتله على أنها واقع حقيقي، وبالذات ما قاله عن القرن العشرين والحادي والعشرين من نبوءات تحققت، لنجد ان الإعلاميين لا يقرءاون وأنهم مجرد أدوات لنشر المزيد من الجهل.
وحتى ندرك قدرات ابن خلدون وقصور رؤى المنجمين، وما يتبعهم من جهلة الإعلام علينا أن نُعيد قراءة كلماته ونقارنها بما يجري في العالم حالياً، وسندرك أنه قد أجاد وصف ما يجري بفضل رؤيته الإستشرافية الحقيقية، ومنها حين قال: ” ويضيع صوت الحكماء في ضجيج الخطباء والمزايدات على الانتماء، ومفهوم القومية والوطنية والعقيدة وأصول الدين، ويتقاذف أهل البيت الواحد التّهم بالعمّالة والخيانة، وتسري الإشاعات عن هروب كبير وتحاك الدسائس والمؤامرات، وتكثر النصائح من القاصي والداني، وتطرح المبادرات من القريب والبعيد، ويتدبر المقتدر أمر رحيله والغني أمر ثروته ويصبح الكل في حالة تأهب وانتظار، ويتحول الوضع إلى مشروعات مهاجرين يتحول الوطن إلى محطة سفر والمراتع التي نعيش فيها إلى حقائب، والبيوت إلى ذكريات والذكريات إلى حكايات”.
وبعد كل هذا لا زال البعض يعتقد أننا ذاهبون صوب الأفضل، فالعالم يحترق رودياً رويدا، وبعد أشهر من الحرب إن لم تتوقف وفي ظل التزايد المجنون للأسعار فإن الفقر سينتشر والمجاعات ستضرب العديد من الدول، وعندها سنضل طريق العودة في بحر من الدماء الهائجة التي ستغرق الجميع، وقد يكون نهايتها بصدى صاروخ نووي يُنهي حُمقُ سياسي العالم وللأبد.