الحزب التقدمي الأشتراكي!! إلى أين؟؟؟
اكرم كمال سريوي

النشرة الدولية –

الثائر

عندما تأسّس الحزب التقدمي الاشتراكي عام ١٩٤٩ كان المؤسّسون من مختلف الطوائف اللبنانية، حتى أن عدد الأعضاء المسيحيين كان أكثر من المسلمين، وهم جميعاً نخبة من المفكرين والشخصيات اللبنانية البارعة، التقت مع كمال جنبلاط حول قضايا سياسية وفكرية واجتماعية، تمت صياغتها في مبادىء الحزب، الداعية إلى تطوير النظام السياسي اللبناني، على أسس العلمانية والتقدمية الأشتراكية، والتي هي وفق مفهوم مؤسس الحزب كمال جنبلاط، تختلف كثيراً عن الاشتراكية الشيوعية، وهذا ما أوضحه لاحقاً في كتابه “نحو اشتراكية أكثر إنسانية”

 

في عام ١٩٥١ أسّس كمال جنبلاط مع حزب الكتلة الوطنية “الجبهة الاشتراكية الوطنية” التي انضمّ إليها، كميل شمعون، وغسان التويني، وإميل البستاني وعبدالله الحاج ووضعت الجبهة أول برنامج للإصلاح في لبنان، كانت أبرز النقاط فيه، إصلاح النظام الاقتصادي والمالي والتربوي والإداري والانتخابي، واستقلال القضاء وإلغاء الطائفية السياسية، وتنظيم الضمان الاجتماعي، وإعطاء العمال حقوقهم. وأراد جنبلاط أن يؤكد على هذه النقطة المركزية في نضال حزبه، فجعل يوم تأسيسه في الأول من أيار، عيد العمال العالمي.

 

لم يبق لبنان بمنآى عن الصراع الدولي الذي نشب بعد الحرب العالمية الثانية بين الشرق والغرب، وكذلك بين اليسار واليمين، وبين التيار العروبي المعادي لإسرائيل، والذي قاده جمال عبد الناصر وسانده فيه كمال جنبلاط، وتيار القومية اللبنانية، من دُعاة الفينيقية، الذين تبنّوا فكرة حياد لبنان، حتى في الصراع العربي مع إسرائيل، وكان أبرز منظّري هذه الفكرة، فؤاد أفرام البستاني، والمفكّر اللبناني، (تلميذ الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر)، شارل مالك، الذي كتب ديباجة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ودقق كامل نصوصه، ثم أسّسا لاحقاً الجبهة اللبنانية، مع كميل شمعون، وبيار الجميل.

 

في تلك الحقبة من تاريخ لبنان والعالم، كان الصراع الفكري على أشدّه، ومن أهم أسلحة الحرب الباردة بين معسكري الشيوعية والرأسمالية، حيث سعى كل فريق للترويج لأفكاره، فركّزت الدول الرأسمالية، على الدعوة إلى الليبرالية والأنفتاح ونظام السوق وتعميم القيم الديمقراطية، في حين ركّز السوفيات على حقوق العمال، ومحاربة الأستغلال وجماعة رؤوس الأموال المتحكّمين بالسلطة، والتي أطلق عليهم لينين اسم “الإمبريالية” ، وساند السوفيات الثورات التحررية في العالم، ودعموا حركات الاستقلال في وجه الدول المُستعمِرة كبريطانيا وفرنسا، ونادوا بحقوق الشعوب في تقرير مصيرها.

 

تزعم كمال جنبلاط التيار العروبي واليساري في لبنان، وكان يكفي أن يكون أحد المرشحين من الطوائف؛ المسيحية او السنّية أو الشيعية على اسم جنبلاط في الانتخابات، في بيروت أو طرابلس أو صور أو بعلبك لينال عدداً كبيراً من الأصوات، وحتى ليفوز بمقعد نيابي، ولم يكن بالإمكان مواجهة جنبلاط من قِبل أخصامه سياسياً أو في دعوته لإصلاح النظام، سوى عن طريق استثارة العواطف الطائفية، فكيف يمكن أن يتخلّى المسيحي المثقف والعلماني عن فكر كمال جنبلاط، وما يطرحه من إصلاحات للنظام والقوانين في لبنان؟؟؟

 

وحدها الفتنة الطائفية استطاعت أن تفعل ذلك، وفي مجتمع مثل لبنان، يحفل بكمٍّ كبير من الصراع المذهبي والضغائن الدفينة، كان من السهل جداً استحضار الماضي، وبث شعور الخوف والقلق على مصير الطائفة، وكل الطوائف في لبنان هي عبارة عن أقلّيات، وحتى المنهاج التربوي تم فيه ترسيخ الأحداث الدموية والمأساوية بين الطوائف، بهدف إبقائها حاضرة في الأذهان والنفوس، بغية استخدامها عند الحاجة لتأليب اللبنانين بعضهم على بعض، في خدمة استمرار سلطة أمراء الطوائف ومُحتكريها ومُستغلّيها.

 

اندلعت الحرب عام ١٩٧٥ لعدة أسباب، وتحوّلت بسرعة، من صراع وطني وفكري حول إصلاح الدولة والنظام، إلى حرب طائفية تقودها الغرائز والخوف على مصير الجماعة. وهكذا خسر جنبلاط معركته السياسية في وجه التعصب الطائفي والراديكالية اليمينية، ثم خسر حياته في مواجهة خطط حزب البعث، وأطماع حافظ الأسد بالسيطرة على لبنان، فقضى شهيداً في ١٦ آذار ١٩٧٦.

 

استلم وليد جنبلاط زعامة الحزب في أصعب الظروف، ولم يكن لديه وقت للعمل الحزبي بمعناه السياسي الفعلي، والمدى الفكري والتنظيمي، وكانت الأولوية لمعالجة وقيادة الحرب الدائرة.

نجح في قيادة الحرب بالتعاون مع الأحزاب اليسارية، ومنظمة التحرير الفلسطينية، وحجر الزاوية في هذا كله كان التفاهم مع السوريين، الذين بات جيشهم يسيطر يومها على معظم الأراضي اللبنانية، وبغطاء عربي وأوروبي وأمريكي.

 

خاض وليد جنبلاط حرب الجبل دفاعاً عن وجوده كفريق سياسي وعن طائفته الدرزية، وبعد انتهاء الحرب سارع فوراً إلى إنهاء ذيولها، فعقد مصالحة بالتعاون مع البطريرك صفير، لِعِلمه أن استمرار الصراع الطائفي هو انتحار للحزب التقدمي الاشتراكي ومشروعه الإصلاحي.

 

بعد انتهاء الحرب خرج جنبلاط قائداً متمرّساً، يعرف كيف يخطط لمعاركه السياسية، فهو يجيد المناورة، ويتحلّى بمرونة عالية، ويعرف جيداً متى وكيف وأين يهاجم، ومتى وكيف وأين يدافع، ويتقن التحرك حتى داخل حقول الألغام، ويبرع في تخطّي الكمائن، وهذا جعله دائماً يخرج رابحاً، في كل جولات الصراع، حتى قِيل أنه “بيضة قبّان السياسة في لبنان”.

 

لكن رغم ذلك واجه جنبلاط مشاكل عديدة، فالحزب تحول خلال سنوات الحرب إلى مؤسسة شبه عسكرية، وبرز فيها قادة عسكريون، قدّموا تضحيات كبيرة خلال الحرب، وكانوا في الواجهة، لكنهم غير متمرسين كفاية في العمل الحزبي والسياسي والتنظيمي، فخلال سنوات الحرب كانت الكلمة الفصل للمدفع وليس للعمل الأكاديمي والنقاش الفكري، وفجأة وجد هؤلاء أنفسهم في مواجهة واقع جديد، يشبه الإحالة على التقاعد بدون راتب أو تعويض، فبدأوا المطالبة بدور ما يعوضّهم عن حالة الإحباط تلك .

 

نجح بعضهم في التقرّب من وليد جنبلاط، خاصة أولئك الذين أوكل إليهم دوراً ما في الحزب، أو كافأهم بوظيفة داخل الدولة، وبعض الكفاءات لعبت دوراً مهماً في تثبيت دور الحزب كقوة سياسية وشعبية.

لكن بعض من اعتاد أن يظهر أمام الناس بصورة القائد والمسؤول، لم يتقبّل تراجع أو انتهاء دوره، وإذا أضفنا هذا الشعور، إلى شغف اللبناني بالتباهي وطبع الغرور والفوقية والتسلط، نجد أن بعضهم حَرِدَ واعتكف، وقسم آخر تحولوا إلى حرس أبيض، يشبه ربوتات، تُحركها الغرائز والبرمجيات، وأصبح جُلّ همهم الدفاع عن مكانتهم بالقرب من الزعيم، والحفاظ عليها لأطول مدة ممكنة، لذا تراهم مستعدّين للأنقضاض على أي شخص يحاول الزعيم إدخاله إلى الدائرة الصغرى، خوفاً من أن يهدد هذا الطارئ الجديد مكانتهم، ويفتح باباً للزعيم للأستغناء عن خدماتهم واستبدالهم، وهكذا حافظ القديم على قِدمه، وتم استبعاد عدد من الكفاءآت الشابة الجديدة، ما خلا من كان مطواعاً و ضعيفاً، أو قوياً لكن لا يُشكّل خطراً عليهم.

 

رغم نجاحه كزعيم سياسي، ورغم تمسّكه بالعلمانية وانفتاحه على باقي الطوائف، الأمر الذي مارسه عملياً على الصعيد الشخصي والعائلي، عبر زواجه وزواج أولاده، الذي حطم به الحواجز الطائفية بين العائلات اللبنانية، لكن وليد جنبلاط لم ينجح في إعادة الحزب إلى سابق مجده، فالحزب دخل إلى البوتقة الطائفية وغرق فيها، وأصبح غالبية أعضائه من الدروز، وبات يطغى على خطاب رئيس الحزب ومسؤوليه، الكلام المذهبي، والدفاع عن مصالح الطائفة، حتى أن خطاباتهم في الانتخابات الأخيرة ركّزت على العاطفة واستثارة الغرائز ولم تخاطب العقول بالمستوى الذي يليق بها، وهذا الخطاب مكّن جنبلاط من الحفاظ على الزعامة الدرزية، ورأى فيه الدروز قائدا قوياً في مواجهة زعماء الطوائف الأخرى، الذين ما انفكّوا كل يوم، يذكّرون الدروز بأنهم أقلية، ويحاولون إضعافهم وتهميشهم. لكن المشكلة أن الحزب خسر بنسبة كبيرة مؤيّديه من الطوائف الأُخرى، وتضاءلت شعبيته في غالبية المناطق اللبنانية، خاصة خارج مناطق النفوذ الدرزي، وحتى داخل الطائفة.

 

هكذا أصبح الحزب الاشتراكي مثل كافة الأحزاب اللبنانية، التي تراجعت لديها المصلحة الوطنية إلى مرتبة ثانوية، فباتت مؤسسة ترعى جماعة معينة، وتقاتل لتحصيل حقوقها. وهذه الجماعة باتت تُطالب الحزب بتأمين الوظائف والخدمات، من طبابة وتعليم وتأمين فرص عمل وتقديم مساعدات عينية، ورغم سخاء جنبلاط، لكن يبقى أن الحزب أضعف من أن يلبي حاجات الجميع، وشيئاً فشيئاً مع الأزمة الاقتصادية، تتراجع إمكانيات الحزب، فيما يزداد الطلب، والحزب الآن بات غير قادر على تلبية كل الطلبات، أما جمهور المحازبين، فقسم كبير منهم اعتاد أن يتعاطى مع الحزب، وفق مقياس تلبية الحزب لحاجاته ومطالبه الشخصية، أي أن المنفعة الخاصة باتت في صلب العمل والانتماء والعلاقة الحزبية.

 

لقد تحوّل الحزب لدى غالبية مناصريه، إلى ما يشبه المؤسسة الخيرية، أو بالأصح إلى طريقة عمل “الدكنجي” الذي يؤمن للناس خدمات ويبيعهم سلع معيّنة، مقابل أن يعطوه هم تفويض التحدث باسمهم، ويصوِّتون له في الانتخابات.

وانطلاقاً من ذلك، بات اختيار المسؤولين في الحزب، وحتى لوظائف الدولة المحسوبة عليه، يأخذ في الاعتبار مُراضاة العائلات والقرى والمناطق، وبحسب التبعية والطاعة العمياء، وتراجع الاهتمام بالكفاءة الأكاديمية والحزبية، وقدرة الفرد على المساهمة في العمل، والقيام بدور فاعل في تنشيط الحزب، أو في إداء واجباته الوظيفية، فوصل إلى مراكز المسؤولية، بعض الأشخاص الذين أساؤوا التصرف وشوّهوا صورة الحزب.

 

حتى عندما تم استبدال بعض القيادات الحزبية القديمة، والتي كانت قد اكتسبت خبرة في العمل الحزبي والسياسي، لم تكن الخطوة التغييرية ناجحة، فالذين تمت إزاحتهم، ومحاولة إرضائهم بمناصب فخرية، يشعرون أنه تم التخلص منهم، والمشكلة الأكبر أن الذين تم تعيينهم مكان هؤلاء، لم ينجحوا في أدائهم، ورغم مرور مدة لا بأس بها على استلام مهامهم الجديدة، ما زالوا في حالة ضعف، ولم يثبتوا كفاءتهم، وهذا خلق امتعاضاً لدى العناصر والقيادات الحزبية، وهو يدل على مشكلة بنيوية داخل الحزب، خاصة لجهة التنظيم، وإعداد القيادات الكفوءة للمستقبل.

 

هذا الواقع جعل الحزب يعاني من حلقة مفقودة، خاصّةً في التواصل، مع الذين يعجز عن تقديم خدمات لهم، أو أولئك الذين هم ليسوا بحاجة إلى تلك الخدمات، وكذلك جيل الشباب الذي بات يفكّر بطريقة مختلفة عن جيل الحرب.

وعد جنبلاط أكثر من مرة بإجراء إصلاحات داخل الحزب، لكنه اصطدم بعقبات عديدة، أولها: واقع المجتمع اللبناني، المؤدلج طائفياً ومناطقياً، وثانياً: صعوبة التخلي عن الرفاق القدامى، الذين ضحّوا وكانوا إلى جانبه في أصعب الأوقات، وهم لا يُبدون حتى الآن أي رغبة في التنحي، وإفساح المجال لجيل جديد، وثالثاً: قلة عدد البديل الكفوء، الذي يمكن أن يأتمنهم جنبلاط على مستقبل الحزب، فالحزب لم يعمل خلال السنوات الماضية بشكل منتظم، لإعداد قيادات مستقبلية.

 

لا يُمكن لأي حزب أن يُقنع الشعب، بأنه يعمل؛ لإصلاح النظام، وتحقيق العدالة والديمقراطية والمساواة، واحترام مبدأ الكفاءة، وإيصال النخبة إلى الحكم، إذا كان لا يطبق كل ذلك في ممارساته اليومية، وعلى عناصره بالذات؟؟؟

 

هذه مشكلة عامة لدى كافة الأحزاب اللبنانية، حيث باتت بغالبيتها عبارة عن جماعات طائفية، يغلب عليها التعصب، ويحكمها شخص واحد، يحيط به غالباً اتباع من المنتفعين، لا يملكون الحد الكافي من ثقافة العمل الحزبي والمؤسساتي، الذي يرتكز بالدرجة الأولى إلى؛ توعية الجماهير، وإعداد القيادات والنخب الكفوءة، لتتولى المسؤوليات، في السعي والنضال بجد واجتهاد، لتحقيق أهداف الحزب، التي هي بجوهرها ترتكز على تحقيق المصلحة الوطنية العامة، وليس على تقديم المنافع الشخصية، لاتباع الحزب.

 

لقد قال كمال جنبلاط مرةً: «من هو معنا عن قناعة سيبقى معنا، ومن يأتي من أجل منفعة شخصية، سيتركنا عندما تنتفي مصلحته، والأفضل لنا أن لا ندع هؤلاء المنتفعين يدخلون إلى صفوف الحزب»

 

الأحزاب هي ضرورة لانتظام عمل الأفراد، الذين يتلاقون حول مبادئ وأفكار معيّنة، ولتوحيد جهودهم من أجل تحقيق أهداف الحزب، التي يجب أن تخدم مصلحة الشعب، ومصلحة الوطن العليا. ولا يمكن لمجتمع أن يتطوّر من دون وجود الأحزاب، لكن إذا تحوّلت الأحزاب إلى مُجرّد جماعات، تقوم على ايديولوجية التعصب الطائفي أو العرقي أو القومي، وتحوّلت إلى فئات متناحرة من أجل الوصول إلى السلطة والسيطرة على الحكم، تصبح حين ذاك وبالاً على الشعب والوطن، وهذا هو حال غالبية الأحزاب في لبنان.

 

فهل يمكن لأحزاب لبنان أن تخرج من شرنقة الطائفية؟؟؟ وأن تبدأ ورشة إصلاح الذات، قبل أن تصمّ آذاننا بالمحاضرات عن العفة وإصلاح النظام والدولة؟؟

الفعل أصدق من الكلام والخطابات، ولم يعد ممكناً خداع الناس بشعارات الإصلاح لمدة طويلة، فمن يريد الإصلاح عليه أن يبدأ بنفسه وحزبه أولاً، وليعطِ المثل للشعب، وعندها سيجد الناس تسير خلفه، عن قناعة، وبكل نشاط وإخلاص ووفاء، فالجيل الجديد كان واضحاً بالتعبير عن تبدّل مزاجه، عندما خرج إلى الساحات وطالب بالخروج من نفق التبعية العمياء، والتعصب الطائفي، وأراد مساحة أوسع لإبداء الرأي والمشاركة في القرار.

 

أما إذا أردتم معرفة الجواب على سؤال الحزب التقدمي الإشتراكي إلى أين؟؟ أو مصير أي حزب لبناني آخر، فهو واضح جداً:

من يزرع بذرة صالحة يجني ثمراً نافعاً، ومن يزرع بذرة سيئة يحصد السوس الذي يأكل الغلّة ويهدم بيته.

زر الذهاب إلى الأعلى