أزمة المياه في سوريا… جفاف وعطش

انخفض تدفق نهر الفرات شمال شرقي البلاد إلى أدنى مستوى على الإطلاق ما تسبب في أسوأ موجة جفاف منذ عام 1953

النشرة الدولية –

اندبندنت عربية –  سوسن مهنا –

عام 1987، وقّعت سوريا اتفاق تقاسم مياه مع تركيا تعهدت بموجبه أنقرة أن توفر لسوريا 500 متر مكعب في الثانية كمعدل سنوي.

هل يجف نهر الفرات؟

أينما توجد المياه توجد الحياة، لذا تسعى الدول لتأمين حاجتها من المياه لتضمن لشعوبها البقاء. من هنا، قد تكون حروب المياه حروب المستقبل، ولكن مع هذا، تتعدى دول على حصص دول أخرى ضاربة المعاهدات الدولية عرض الحائط عبر بناء السدود والقنوات وإنشاء البحيرات الصناعية، ما يعد خرقاً للقانون الدولي واستخدام المياه كسلاح للأضرار بالدول الجارة، وهو ما تمارسه تركيا الآن ضد سوريا والعراق، ببنائها السدود على نهري دجلة والفرات، ما يهدد البلدين بنقص حصصهما من المياه ويؤدى إلى الجفاف وزيادة نسبة التصحر وتغيير طبيعة المنطقة بيئياً. وتواجه الموارد المائية في سوريا عديداً من التحديات، وتتقاسم كلاً من الأنهار الرئيسة في البلاد مع دول الجوار، وتعتمد سوريا إلى حد كبير على تدفق المياه من تركيا عبر نهر الفرات وروافده، أضف إلى ذلك ارتفاع معدل النمو السكاني، وعوامل التلوث، على سبيل المثال، منطقة الغوطة قرب دمشق، التي تعد من أخصب بقاع العالم، وكان القدماء يعدونها من عجائب الدنيا، تشهد استنزافاً لمياهها الجوفية، إضافة إلى غياب السياسات المائية وضعف المؤسسات، وتركزت تلك السياسات على بناء السدود، وتطوير الزراعة المروية والتحويلات “interbasin” في بعض الأحيان، كمد خطوط أنابيب لتوفير المياه الصالحة للشرب، إضافة، وعلى وجه التحديد الحرب الدائرة منذ ما يزيد على 10 سنوات، والتي أدت إلى تدمير مرافق المياه في أنحاء البلاد، وهذا ما شكل تحدياً للحصول على مياه صالحة للشرب لملايين الناس في أنحاء سوريا.

في تقرير للجنة الدولية للصليب الأحمر نشر في أكتوبر (تشرين الأول) 2021، يقول إن سوريا تعاني نقصاً في مياه الشرب بنسبة تصل إلى 40 في المئة عما كانت عليه قبل عقد من الزمان، فقد أدى النزاع المستمر منذ أكثر من 10 سنوات إلى إعاقة إمكانات الحصول على الخدمات الأساسية إلى حد بعيد، بما في ذلك الوصول إلى المياه الصالحة للشرب. وقبل عام 2010، كان 98 في المئة من سكان المدن و92 في المئة من المجتمعات الريفية يتمتعون بسبل موثوقة للحصول على المياه الصالحة للشرب. أما اليوم فيختلف الوضع اختلافاً شاسعاً عما كان من قبل، إذ لا يعمل سوى 50 في المئة من أنظمة المياه والصرف الصحي بشكل صحيح في مختلف أنحاء البلاد، وإن آثار النزاع المستمر المباشرة وغير المباشرة، أدت إلى تضرر الأنظمة من جراء العنف، وتعذر إجراء الصيانة المناسبة، وفي بعض الحالات، فقدت المرافق ما بين 30 في المئة إلى 40 في المئة من الموظفين الفنيين والمهندسين للمحافظة على استمرار تشغيل هذه الأنظمة.

كما غادر الكثيرون البلاد، وتقاعد آخرون من دون أن يتمكنوا من تدريب أبناء الجيل الأصغر سناً ونقل ما اكتسبوه من معرفة إليهم. وترتبط الأنظمة المحلية التي تقدم الخدمات الأساسية مثل المياه والكهرباء والرعاية الصحية ببعضها، وأي تعطل في إحداها يؤثر على الأنظمة الأخرى. فعدم وجود الكهرباء يعرض الحصول على المياه للخطر، بينما تتأثر المرافق الصحية سلباً. وتعتمد البنية الأساسية العاملة لإمدادات المياه برمتها على الكهرباء في سياق تنخفض فيه قدرة توليد الطاقة بنسبة 60 في المئة إلى 70 في المئة. وأدت ندرة المياه إلى تفاقم حال عدم الاستقرار، لا سيما في المناطق التي تأثرت بشدة من جراء النزاع مثل شمال شرقي سوريا، وهي منطقة لا تزال تستضيف عدداً كبيراً من النازحين داخلياً الذين فروا من المناطق المتضررة من الأعمال العدائية، إضافة إلى اللاجئين من العراق منذ أمد بعيد، والنساء والأطفال الذين تقطعت بهم السبل من أكثر من 60 بلداً في المخيمات مثل مخيم الهول.

جفاف نهر الفرات

وينبع نهر الفرات، أطول أنهار غرب آسيا، من جبال طوروس في تركيا ويتدفق منها إلى سوريا، من مدينة جرابلس في ريف حلب الشمالي مروراً بمحافظة الرقة شمالاً ومنها إلى دير الزور شرقاً، وصولاً إلى العراق. من تركيا إلى سوريا فالعراق، يغطي النهر 2800 كيلومتر، ويلتقي في العراق بنهر دجلة ليشكلاً معاً شط العرب قبل أن يصب في مياه الخليج. وفي سوريا، بني سدان أساسيان على نهر الفرات هما سد تشرين في ريف حلب الشمالي، وسد الطبقة حيث تقع بحيرة الأسد الضخمة في ريف الرقة الشرقي، إضافة إلى سد البعث في محافظة الرقة. ويغطي السدان الطبقة وتشرين 90 في المئة من حاجات شمال شرقي سوريا من الكهرباء، بما فيها التيار اللازم لمحطات ضخ المياه. ويهدد تراجع منسوب المياه اليوم عملهما.

عام 1987، وقعت سوريا اتفاق تقاسم مياه مع تركيا تعهدت بموجبه أنقرة أن توفر لسوريا 500 متر مكعب في الثانية كمعدل سنوي، لكن هذه الكمية انخفضت بأكثر من النصف منذ أوائل 2021، ووصلت في فترات معينة إلى 200 متر مكعب في الثانية، وفق تقنيين. ويحذر مدير سد تشرين حمود الحماديين منذ 13 عاماً من “انخفاض تاريخي ومرعب” في منسوب المياه لم يشهده السد منذ بنائه عام 1999. ومنذ ديسمبر (كانون الأول) 2020، تراجع منسوب المياه في السد خمسة أمتار. وفي حال استمراره بالانخفاض سيصل إلى ما وصفه الحماديين بالمنسوب الميت، ما يعني أن تتوقف “العنفات (توربينات) بشكل كامل” عن العمل. وعدا عن تراجع إمداد المنطقة بالكهرباء، توقفت محطات ضخ مياه عدة عن العمل، وفق الحماديين الذي نبه إلى أن انخفاض منسوب المياه يهدد بارتفاع معدل التلوث ويعرض الثروة السمكية للخطر، وقال، “نحن نتجه إلى كارثة إنسانية وبيئية”.

سوريا تعاني كارثة مائية

في بحث نشره مركز Atlantic Council” ” بعنوان “سوريا تعاني كارثة مائية، وستستمر”، نشر بتاريخ 25 فبراير (شباط) الحالي، يقول في مايو (أيار) 2021، انخفض تدفق نهر الفرات في شمال شرقي سوريا إلى أدنى مستوى له على الإطلاق، مما تسبب في أسوأ موجة جفاف منذ عام 1953، وينقل عن الحماديين تحذيره “من تراجع تاريخي ومخيف في منسوب المياه”، نظراً لأن هذا النهر هو المصدر الرئيس للمياه للزراعة والاستهلاك المنزلي وإنتاج الكهرباء في شمال وشرق سوريا.

ويهدد الانخفاض الكبير في مخزون المياه في سدود الطبقة وتشرين والبعث على نهر الفرات على الإنتاج الزراعي على أكثر من 475 ألف فدان (200 ألف هكتار) من الأراضي المروية، وفقاً للبحث، وفقد المزارعون المحليون 80 في المئة من محصولهم. وفي محافظة الحسكة، أكثر من 90 في المئة من سلة الخبز في البلاد.

يذكر أنه منذ آلاف السنين، رعى نهر الفرات وأكبر رافده، نهر الخابور، الذي يمر عبر المحافظة، بعض أقدم المستوطنات الزراعية في العالم، لكن الأنهار تجف.

ويضطر المزارعون أيضاً إلى بيع مواشيهم بسبب نقص العلف، نظراً لندرة العشب، أو عدم قدرتهم على شرائه لزيادة التكلفة بنسبة 200 في المئة. موجة جديدة من الهجرة في سوريا من المناطق الريفية إلى المدن، والتي تضيف إلى مئات الآلاف من الأشخاص الذين هجروا مزارعهم نتيجة للجفاف أعوام 2006 و2008 و2010، ما أدى إلى زيادة إعداد الأحياء الفقيرة التي انتشرت حول المدن السورية الكبرى، بما في ذلك العاصمة دمشق.

إضافة إلى الإنتاج الزراعي، فإن توفير المياه الصالحة للشرب معرض للخطر أيضاً، ويتم تقنين مياه الشرب في مختلف أنحاء البلاد، ما يجبر الناس على الاعتماد على مصادر المياه غير الآمنة أو اختيار خدمات نقل المياه الخاصة المكلفة الشاحنات، إن نقص المياه المعقمة له عواقب مقلقة على الصحة العامة، تتفاقم أكثر بسبب جائحة كورونا.

ويضيف الباحثان أورورا سوتيمانو ونبيل سمان، أن السدود الثلاثة على الفرات توفر نحو 70 في المئة من الكهرباء المستهلكة في سوريا. حالياً، لا تعمل سوى أربعة توربينات من أصل ثمانية في سد الطبقة بسبب نقص المياه، نتيجة لنقص المياه منذ مايو 2021، ما انعكس بشكل سيئ على الشعب السوري. على سبيل المثال، تحصل بعض الأحياء في بلدة الحسكة في الشمال الشرقي وضواحي دمشق على ساعتين فقط من الكهرباء في اليوم، حتى أجزاء من وسط دمشق تعاني انقطاع التيار الكهربائي لمدة تصل إلى 18 ساعة في اليوم.

المياه عنصر استراتيجي للسيطرة

عندما بدأت الانتفاضة السورية عام 2011، كانت المياه عاملاً مهماً في إشعال الثورة لأن الجفاف أدى إلى تفاقم الضائقة الاجتماعية والاقتصادية القائمة، وأدت الحرب السورية إلى تضرر البنى التحتية بشكل كارثي، ما أثر على موارد المياه السورية، وتركت البنية التحتية المتضررة مناطق بأكملها من دون ري ومياه الشرب والطاقة الكهرومائية، ما جعلها معرضة بشكل متزايد للنشاط الزلزالي، علاوة على ذلك، فإن تجزئة سوريا تحت سيطرة الفصائل المتنافسة سمح لكل منها باستخدام المياه كسلاح لأهدافها العسكرية والسياسية. على سبيل المثال، استغل تنظيم “داعش” السيطرة على موارد سوريا المائية كتكتيك عسكري لكسر المقاومة ومصدر الدخل وأداة سياسية لتعزيز “دولته” من خلال توفير الخدمات لمناطق سيطرتها.

وأدى توسع القوات الكردية في الشمال وإخضاع أكبر ثلاثة سدود سورية لسيطرة الإدارة الذاتية التي يقودها الأكراد في شمال وشرق سوريا، إلى تدخل تركيا واحتلالها الفعلي أجزاءً من المنطقة الحدودية، بينما استعادت الحكومة السورية سيطرتها على الجزء الجنوبي من حوض الفرات، ومنذ ذلك الحين، واصل المسؤولون السوريون والأتراك ومسؤولو منطقة شمال شرقي سوريا تبادل الاتهامات بتعطيل خدمات المياه.

ومع ذلك، فقد أدى الصراع إلى تعاون عرضي وغير متوقع بين الأعداء الرسميين في إدارة خدمات المياه. على سبيل المثال، عام 2013، سمح “داعش” لمهندسي الحكومة السورية بإدارة السدود ومنشآت المياه حتى تتدفق المياه إلى العراق، ووردت تقارير عن ترتيبات مماثلة بين دمشق والسلطات الكردية، وتعكس هذه الممارسات مناورات تكتيكية من قبل الأطراف المتحاربة. لسوء الحظ، لم تضع أي من السلطات المتمردة خططاً لإصلاح وتحديث أنظمة المياه الخاصة بها، وبدلاً من ذلك، استمرت في دعم الوقود لمضخات المياه الجوفية.

السدود التركية

يشير تقرير “أتلانتيك كونسيل” إلى أن العقبة الحاسمة هي تحويل مجرى مياه نهر الفرات. وتتمتع تركيا، جارة سوريا في الشمال، بميزة جغرافية كبيرة تتمثل في تلقيها الأمطار والثلوج التي تشكل نهر الفرات وتجدده. ويسهم حوض تجميع المياه في تركيا البالغ مساحته 31788 ميلاً مربعاً (82330 كيلومتراً مربعاً) في 89 في المئة من التدفق السنوي للنهر، ويتدفق النهر 283 ميلاً (455 كيلومتراً) عبر تركيا قبل أن يتدفق عبر سوريا، ثم عبر العراق إلى الخليج، وتتعزز الميزة الجغرافية لتركيا من خلال قوتها الاقتصادية والعسكرية.

عام 1974، بدأت تركيا في بناء مشروع الأناضول العظيم، والذي سيشمل في النهاية 22 سداً و19 محطة لتوليد الطاقة الكهرومائية على طول نهري دجلة والفرات لري 4.2 مليون فدان (1.7 مليون هكتار) من الأراضي في منطقة حران التركية. ومنح بروتوكول التعاون الاقتصادي الموقع عام 1987 تركيا 50 في المئة من مياه نهر الفرات، ومن بين الـ50 في المئة المتبقية، والتي ستستمر عبر سوريا والعراق، كان من المفترض أن تتلقى سوريا ما معدله 17657 قدماً مكعبة في الثانية (500 متر مكعب في الثانية).

وكانت النتائج المجمعة للسياسات المائية التركية وتغير المناخ، الذي يؤثر على هطول الأمطار في تركيا أيضاً، بمثابة انخفاض بنسبة 40 في المئة تقريباً في تدفق المياه إلى سوريا. في الوقت الحالي، يبلغ تدفق المياه نحو 7062 قدماً مكعباً في الثانية (200 متر مكعب في الثانية)، أقل من النصف المتفق عليه في البروتوكول. وهذا سبب رئيس للجفاف غير المسبوق، والذي أدى بدوره إلى تراجع إنتاج الكهرباء وإمدادات المياه الصالحة للشرب، فضلاً عن تلوث المياه في شمال سوريا.

ومن المرجح أن يؤدي تركيز الملوثات في المياه التي تصرفها السدود، عند اقترانها بارتفاع درجة الحرارة وتكاثر الطحالب والتبخر، إلى تدمير النظام البيئي لشمال سوريا. وأحصت الأمم المتحدة انقطاع المياه عن محطة “علوك” 24 مرة منذ عام 2019، ما ينعكس على حياة 460 ألف شخص يستفيدون منها في محافظة الحسكة. حتى وإن كانت الكارثة التي تهدد شمال سوريا وشمال شرقها ناتجة عن تراجع مستوى الأمطار، فإن تركيا قادرة على الاستفادة من الأمر لمصالحها الجيوسياسية، وفق ما يرى الخبير في الشأن السوري فابريس بالانش الذي يقول أيضاً، “خلال فترات الجفاف، تستخدم تركيا ما تحتاج من المياه وتترك الفضلات للأكراد وإن كانت على معرفة كاملة بالتداعيات”. ويضيف أن الهدف هو “خنق شمال شرقي سوريا اقتصادياً”.

في 25 أغسطس (آب) 2021، نشرت وكالة الفضاء الأوروبية صوراً ساتلية لبحيرة الأسد وسد تشرين وسد الطبقة في سوريا، توضح تغيراً ملحوظاً في مستويات المياه، ما ينذر بموجات من الجفاف تصيب المناطق الشمالية من سوريا. وكشف تقريران أعدّتهما منظمات دولية متخصصة عن أن العراق سيخسر واردات نهري الفرات ودجلة بالكامل بحلول عام 2040. وأدى الجمع بين تغير المناخ وسوء الإدارة المحلية والمنافسة والصراع الإقليمي إلى وضع قضية المياه على رأس جدول الأعمال السياسي للجهات الفاعلة المحلية والإقليمية، وعندما أصبح نهر الفرات حداً سياسياً بين الفصائل المتحاربة، تحولت ندرة المياه إلى قضية أمنية إقليمية رئيسة.

الافتقار إلى التعاون بين دول نهر الفرات، العراق وسوريا وتركيا، يواجه بصراع محتمل جديد في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، أما على صعيد الداخل السوري، فمن شأن الإصلاح الشامل والمستمر، لسياسات المياه التي تعالج التفاوتات الاجتماعية والجيوسياسية، أن يساعد في تجفيف المستنقع الذي يولد الاضطرابات الاجتماعية.

Back to top button