فورين أفيرز: خريطة جديدة للشرق الأوسط يرسمها أهل المنطقة .. على واشنطن أن تتعلم قراءتها

النشرة الدولية –

دعت مجلة  ” فورين أفيرز” الادارة الامريكية  لاستيعاب ما وصفته بأنه  التغيير الاستراتيجي الأكبر  في الشرق الاوسط ، والذي  تبدّلت فيه الديناميكيات السياسية  والحقائق على الارض  بما جعل الخريطة القديمة للشرق الأوسط بالية لتأخذ مكانها  “خريطة  جديدة خاصة بأهل المنطقة ” لهم أن يتولوها.

وفي تقريراستراتيجي نشرته تحت عنوان “نهاية الشرق الأوسط”، عرض البروفيسور مارك لينش مدير مشروع العلوم السياسية في الشرق الأوسط  بجامعة ديوك، المحرر المشارك في الواشنطن بوست ،  شواهد من هذه التغييرات  التي تراكمت   على مدى 75 عاما فجعلت الخرائط  التقليدية للشرق كما  تعتمدها الخارجية الامريكية وتلك التي يعتمدها البنتاغون ايضا، مجافية للواقع وبما يوجب على  الادارة الامريكية أن  تختار وتقرر  مصلحتها للسنوات القادمة.

ويأتي هذا التقرير عن الخريطة الأخرى المستحقة للشرق الاوسط، في توقيت يتزامن مع التداعيات الاممية لحرب أوكرانيا، ومع الجولة الاخيرة لوزير الخارجية الامريكي انتوني بلينكن في المنطقة شارك فيها  بمؤتمر غير مسبوق في النقب وأعقبه بزيارة  للمغرب التقى خلالها ولي عهد ابو ظبي الشيخ محمد بن زايد.

يستهل لينش تقريره  عن  الخريطة  الجديدة  للشرق الاوسط ، باستذكار ما  حصل  في الحرب الاهلية الاثيوبية، أوائل كانون الأول (ديسمبر) 2021 ،عندما تراجعت الحكومة المركزية المدعومة من عدة دول شرق اوسطية ، تراجعا كبيرا أمام  المتمردين من منطقة تيغراي، والمدعومين من عدة دول وأطراف اقليمية أخرى.مشيرا في ذلك  الى  مجموعة حقائق  متحركة  يستوعبها الصراع في القرن الافريقي  وعلى امتداد مجرى نهر النيل، والذي  يتضمن  دخول دول مثل تركيا والصين  في   مسألة  تشارك  فيها ايضا دول عربية  وخليجية.

الشرق الاوسط كما تتعامل معه “المؤسسة” الامريكية

ولا تقتصر هذه التشابكات على إفريقيا، كما يقول التقرير. فوسط هذه الروابط المستمرة والمتنامية  والعابرة للأقاليم، تظل السياسة الخارجية للولايات المتحدة مرتبطة بخريطة ذهنية أخرى ضيقة جدا للشرق الأوسط.

فمنذ السنوات الأولى للحرب الباردة ، نظرت “المؤسسة” الامريكية  في واشنطن، إلى الشرق الأوسط على أنه العالم العربي  او الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية بالإضافة إلى إيران وإسرائيل وتركيا. وهذه المعلمات تبدو طبيعية للكثيرين، استنادًا إلى الاستمرارية الجغرافية اللشرق الأوسط  كما  تتناوله الجامعات الأمريكية ومراكز الفكر، وكذلك وزارة الخارجية الأمريكية.

لكن هذه الخريطة أصبحت قديمة على نحو متسارع. فالقوى الإقليمية الرائدة خارج الشرق الأوسط التقليدي ،تعمل بنفس الطريقة التي تعمل بها داخله ، والعديد من المنافسات الأكثر أهمية بالنسبة للمنطقة تلعب الآن خارج تلك الحدود المفترضة. و حتى إنشاء القيادة الأمريكية في إفريقيا في عام 2007 ، لم يشمل المنطقة التي تغطيها القيادة المركزية الأمريكية التي تتعامل مع الشرق الأوسط ، وهي مجاميع كانت دوما  على خلاف مباشر مع مفهوم  الشرق الأوسط الذي تتعامل به وزارة الخارجية.

ويشير التقرير  الى أن  هذا الاختلال الدراماتيكي في صنع السياسات والمؤسسات العسكرية الأمريكية يؤشر على  مخاطر التمسك بالنموذج القديم للمنطقة. فهو يتجلى  فيما يتجاوز السياسة الحالية والممارسة العسكرية ؛ كما أنه يعيق محاولات مواجهة العديد من أكبر التحديات اليوم ابتداء من أزمات اللاجئين المتسلسلة إلى حركات التمرد الجهادية.  ومن شأن  الاستمرار في بناء المنح الدراسية والسياسة على تعريف بائد للشرق الأوسط، أن  يهدد بتعمية إستراتيجية الولايات المتحدة عن الديناميكيات الفعلية التي تشكل المنطقة . والأسوأ من ذلك ، أنه يجعل واشنطن أكثر استعدادا لمواصلة ارتكاب أخطاء فادحة في هذا الاقليم.

الرسم التخطيطي للحرب الباردة

ويعرض التقرير كيف ان المفهوم الأمريكي للشرق الأوسط له القليل من الأسس في تاريخ ما قبل الحداثة. فطالما  كانت الولايات العربية في شمال إفريقيا والشام جزءًا من الإمبراطورية العثمانية الشاسعة متعددة الجنسيات.وكانت المجتمعات الساحلية للخليج مرتبطة عضوياً بالقرن الأفريقي عبر البحر الأحمر، فيما  ربطت الشبكات الإسلامية مصر وبقية شمال إفريقيا بمناطق عميقة في إفريقيا جنوب الصحراء.

ولكن بدلاً من ذلك  تبنت الولايات المتحدة نسختها الخاصة بالمنطقة من مصدر أحدث وهو  الاستعمار وسياسات القوة العظمى، فرنسا وبريطانيا ،في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.رسمت العنصرية نفسها حاجزًا صعبًا بين السكان المتشابهين ثقافيًا في حوض البحر الأبيض المتوسط ، مع تمييز جنوب أوروبا “الأبيض” بالقوة عن شعوب الشرق الأدنى عبر البحر في شمال إفريقيا وشبه الجزيرة العربية.

ومن جانبهم ، أطلق البريطانيون على المنطقة اسم “الشرق الأدنى” بسبب دورها كنقطة عبور على طول الطريق إلى مصالحهم الاستعمارية الأساسية في الهند و “الشرق الأقصى” أو آسيا. وبعد افتتاح قناة السويس عام 1869 ، اكتسبت المنطقة أهمية جديدة. ربطت المصالح الإمبراطورية البريطانية شبه الجزيرة العربية بمصر والشام ، مع تمييز تلك المناطق من النقاط الشمالية والشرقية والجنوبية، مما عزز الحدود الاستعمارية القديمة بعد فترة طويلة من بدء القوات الأخرى في إعادة تشكيل المنطقة.

وساعدت مجموعة من الافتراضات الأيديولوجية الغريبة حول العرب والفرس والأتراك، وهي النظرة التي أطلق عليها الباحث الأمريكي الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد ، “الاستشراق” ، وهو ما  شكّل  قناعات بأن هذه المنطقة الشاسعة تشترك في حضارة تعاني من النكوص.

وبعد الحرب العالمية الثانية ، عندما انغمست الولايات المتحدة في الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي ، قامت وزارة الخارجية الأمريكية بتكييف المفهوم الأنجلو-فرنسي للمنطقة لأغراضها الخاصة. كان مستوحى من أهداف صانعي السياسة وهي  إدامة الوصول إلى النفط في شبه الجزيرة العربية ، وحماية إسرائيل ، والحفاظ على  الإرثين البريطاني والفرنسي في شمال أفريقيا خارج دائرة النفوذ السوفياتي.

وخلال الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي ، ساعدت الأولويات الاقتصادية والسياسية للولايات المتحدة في إضفاء الطابع المؤسسي على هذه الخريطة في الدوائر الأكاديمية وصنع السياسات.

دور الناصرية والمسألة الفلسطينية

ترى الدراسة  انه في السنوات الأولى من الحرب الباردة ، عززت الدعوة الناصرية   للوحدة العربية فكرة الشرق الأوسط كوحدة ثقافية سياسية وليست بنية مصطنعة. وأدت القضية الفلسطينية والنضال من أجل إنهاء الاستعمار إلى تنشيط العالم العربي وتوحيده ، حيث حدد رؤساء الدول أنفسهم من خلال مواقفهم من إسرائيل والوحدة العربية.

وتذهبُ الى ان هذا المفهوم للشرق الأوسط شكّل أساسا لسلسلة من مدارس  السياسة الخارجية الأمريكية والتحالفات الأمنية ، وهي العلاقات التي – على الرغم من الاضطرابات مثل الثورة الإيرانية – عملت لعقود عديدة على الحفاظ على تدفق النفط وعلى الاستقرار. لكن  كانت هناك تكاليف  ، حيث الاستنتاجات  حول المنطقة  كانت  تتم دون مراعاة القوى الاجتماعية والسياسية العديدة التي تجاوزت حدودها.

وتعطي الدراسة  مثالا على ذلك  في هجمات الحادي عشر من سبتمبر والتي رأوها  بأنها كانت مدفوعة بأمراض معينة في الشرق الأوسط العربي.

وفي كل الحالات  ، كان المفهوم الأمريكي للشرق الأوسط في كثير من الأحيان قيدًا أكثر من كونه أحد أسس الحل، واستمرت السياسة الأمريكية في أن تكون مدفوعة بالنموذج القديم.

السياسة خارج الحدود

وتذهب الدراسة الى ان  التطورات السياسية في العديد من دول الشرق الأوسط جعلت الحدود التقليدية للمنطقة بلا معنى على نحو متزايد. وتعطي  أمثلة على ذلك في الذي حدث بالسودان  وفي  الحرب الأهلية الليبية ، بالاضافة الى ديناميكيات سياسية أخرى  من طرف ايران وفي سوريا واليمن  ، وجُلّها كشفت عن القيمة المحدودة لتعريف الشرق الأوسط كمنطقة جغرافية واحدة.

وكما أظهرت  الديناميكيات السياسية الأخيرة الخريطة القديمة للشرق الأوسط  بأنها بالية، كذلك فعلت  التغييرات الاجتماعية  والاعلامية واسعة النطاق.

تقول الدراسة  انه حتى عام 2011 ، كانت الفضائيات العربية تفعل الكثير لتشكيل ثقافة مشتركة على المستوى الشعبي. ولكن في العقد الأخير أصبح المشهد الإعلامي بلقانيًا ، مما يعكس الاستقطاب السياسي في المنطقة. فقد انتهى الوقت الذي  عملت فيه قناة الجزيرة كمنصة مشتركة في التسعينيات والسنوات الأولى من هذا القرن. وبعد عام 2011 ، أصبحت مجرد واحدة من بين العديد من المنصات الإعلامية المتحزّبة  التي  تتبنى كل واحدة منها  سرديّة ترفض من هم خارجها.

كما  ان وسائل التواصل الاجتماعي ، التي كانت ذات يوم قوة لتكامل الجمهور العربي ، تم تسليحها من خلال الاستخدام الواسع لجيوش الروبوت والرقابة  فتفتت إلى صوامع معادية.

تراجُع المسألة الفلسطينية في قائمة الاولويات

وطوال العقدين الماضيين، أعادت الأسواق المالية العالمية تشكيل توجهات بعض أغنى دول الشرق الأوسط . استثماراتهم العميقة في العقارات والأندية الرياضية الغربية ، وروابطهم الاقتصادية المتنامية مع آسيا ، واستضافتهم  للكثيرين  من عمال الخدمات غير العرب والمغتربين الغربيين ،جعل منطقة الخليج العربية  مراكز استقطاب  للاستثمارات  العالمية  وللتنفذ السياسي العابر للحدود

وفي المقابل، كما تقول الدراسة، تراجع الصراع الإسرائيلي الفلسطيني  في قائمة  الاولويات الاقليمية والعالمية، بشكل كبير، وهو الذي كان يومًا ما قوة موحدة في العالم العربي ،.

خريطتهم  وليست خريطتنا

على مدى 75 عامًا ، ظل  الشرق الأوسط جزءا من اولويات واشنطن، كما تُسجّل الدراسة. شكلت المذاهب الإستراتيجية للحرب الباردة التحالفات والتدخلات منذ أزمة السويس عام 1956 ، عندما أزاحت الولايات المتحدة فرنسا والمملكة المتحدة كقوة غربية أساسية في المنطقة ، مرورا بسقوط جدار برلين في عام 1989. وفي  حرب الخليج 1990- 91 ترسخ نظام إقليمي أمريكي بدا فيه أن كل الطرق تؤدي إلى واشنطن.  وفيه احتكرت الولايات المتحدة قيادة عملية السلام العربية الإسرائيلية ، من مؤتمر مدريد إلى اتفاقيات أوسلو ، واحتوت بشكل  مزدوج إيران والعراق  ضمن حدود الجغرافيا السياسية للخليج.

لكن الموقف العالمي للولايات المتحدة تراجع بسرعة ، وظهر بشكل متزايد  عدم الاتساق في تحديد المصالح الأمريكية. ومع اعتبار الولايات المتحدة في حالة تراجع، أكدت القوى الإقليمية تعريفاتها الخاصة للمنطقة: نظامٌ يتمحور حول المحيط الهندي لدول الخليج ، وتوجهٌ عبر الساحل لدول شمال إفريقيا. وهذا لا يعني أن مناطق الصراع التقليدية قد اختفت. فقد قامت إيران ، على سبيل المثال ، بنشر وكلائها المسلحين  في جميع أنحاء الدول الممزقة في العراق ولبنان وسوريا واليمن ، وهي الآن  تخوض منافسة متزايدة مع إسرائيل والمملكة العربية السعودية. كما كثفت أنشطتها في إفريقيا وبدأت في بناء شراكات مع دول في آسيا ، وخاصة الصين.

وبالنسبة للولايات المتحدة، فإن صعود حركات التمرد الجهادية في أفريقيا جنوب الصحراء جعل عقيدة مكافحة الإرهاب التي تركز على الشرق الأوسط وهي التي ظهرت بعد 11 سبتمبر / أيلول، وكأنها استراتيجية  عفا عليها الزمن. فعلى الرغم من انسحاب القوات الأمريكية من العراق وسوريا ، الا ان ضربات الطائرات بدون طيار الأمريكية مستمرة، ومثلها عمليات مكافحة الإرهاب  عبر  ساحل الصومال.  ورغم إشارات الولايات المتحدة إلى خروجها من الشرق الأوسط ، الا إنها تحافظ على نفس البنية العسكرية أو توسعها، في منطقة الساحل وشرق إفريقيا.

القوى الإقليمية تعيد تعريف الشرق الأوسط

والآن، يجب على الولايات المتحدة أيضًا أن تتعامل مع بكين، التي تفكر في الشرق الأوسط بشكل مختلف عما تفكر فيه واشنطن. فالصين كما تقول الدراسة تتبع مصالحها الإستراتيجية الخاصة ، وليس مصالح واشنطن. من خلال مبادرة الحزام والطريق ، وسعت بكين مصالحها في مجال الطاقة في الخليج ووجودها في إفريقيا. ووقعت سلسلة من الاتفاقيات مع دول الخليج لسد الفجوة بين إيران ودول الخليج العربي من خلال التقليل من أهمية السياسة والتركيز على البنية التحتية وموارد الطاقة. لقد فتح التدخل الصيني المتزايد آفاقًا جديدة لتحقيق الاستقرار في إنتاج النفط وأشكال أخرى من التعاون الإقليمي ، لكنه ضاعف أيضًا فرص سوء التفاهم الخطير ، حيث تسعى واشنطن إلى تحقيق التوازن بين مصالحها الإقليمية وتنافسها المتزايد مع الصين.

وتلاحظ الدراسة ان  العلماء والمحللين وصناع القرار الأمريكيون  بدأوا يتلمسون   الشرق الأوسط كمجموعة مرنة من الدول والسكان  أكثر مما هي منطقة جغرافية منفصلة . ومثل هذا التفكير المتقدم ستكون له أيضًا فوائد تحليلية واستراتيجية مباشرة لواشنطن ، ليس فقط لأنه يستلزم استعادة التاريخ المنسي ولكن لأنه سيؤدي أيضًا إلى فهم أفضل للواقع، سريع التغير على الأرض.فالنظر إلى المنطقة ضمن سياق عالمي أوسع يمكّن الولايات المتحدة وحلفائها أخيرًا من العمل بجدية  لتحقيق استقرار حقيقي  مستدام

و يخلص التقرير  الى تحذير الولايات المتحدة  من بقائها  عالقة في مفهومٍ للمنطقة عفا عليه الزمن، لأنها بذلك  ستخاطر بالاصطدام مع  اللاعبين الرئيسيين في الشرق الأوسط. فالديناميكيات المتغيرة للقوى العالمية والإقليمية  باتت هي التي تعيد سريعا توجيه العديد من الدول الرائدة في الشرق الأوسط، ولم تعد مرجعيتهم  خريطة واشنطن: “الخريطة تخصّهم  والأمر الآن متروك لواشنطن لتتعلم قراءته” كما يقول البروفيسور مارك لينش.

زر الذهاب إلى الأعلى