هل تشكل التسريبات المقصودة إحدى وسائل اللعبة السياسية؟

عالم أصبحت الصورة فيه أحياناً كل المعلومة والقذافي كان يقوم بتسجيل كل ما يحدث في خيمته

اندبندنت عربية  – سوسن مهنا –

النشرة الدولية –

قد يظن البعض أنه مع ظهور شبكة الإنترنت بدأت موجة ما يسمى بـ”التسريبات السياسية” مع ما تتيحه تلك الشبكة من سهولة تنزيل وتخزين ملايين الوثائق في دقائق أو ثوانٍ معدودة، لكن التسريبات ليست حديثة العهد، إن لأسباب سياسية أو استراتيجية، بل قد تكون بدأت منذ أيام بنجامين فرانكلين (أحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة الأميركية)، حتى العصر الحالي مع تسريبات جوليان أسانج مؤسس موقع “ويكيليكس”، (الذي سمح القضاء البريطاني رسمياً بتسليمه إلى الولايات المتحدة، التي تريد محاكمته بسبب التجسس، وذلك بعد سنوات من النزاع القانوني، 20 أبريل (نيسان) الحالي، كما تتهمه بنشر أكثر من 700 ألف وثيقة سرية اعتباراً من عام 2010 تتعلق بأنشطة عسكرية ودبلوماسية أميركية، لا سيما في العراق وأفغانستان)، وإدوارد سنودن الموظف لدى وكالة الاستخبارات الأميركية، الذي سرّب تفاصيل برنامج التجسس الرقمي الأميركي “بريسم” PRISM والمصنف سري للغاية، يونيو (حزيران) 2013، والمشغل من قبل وكالة الأمن القومي الأميركية، إلى صحيفة “الغارديان” البريطانية وصحيفة “واشنطن بوست”.

أيضاً، وفي أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، نشر الاتحاد الدولي للصحافة الاستقصائية أشمل تحقيق حول السرية المالية حتى الآن بناء على ملايين الوثائق المسربة من مختلف أنحاء العالم، أطلق عليه “وثائق باندورا”، وهو ثمرة عمل أكثر من 600 صحافي في 117 دولة، وورط التحقيق العديد من زعماء الدول والحكومات بينهم ملك الأردن ورئيس وزراء التشيك ورئيسا كينيا والإكوادور، ويتهمهم بإخفاء ملايين الدولارات عبر شركات خارجية لا سيما لأغراض التهرب الضريبي.

عربياً، جاءت تسريبات خيمة الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي الذي كان يقوم بتسجيل كل ما يحدث في خيمته، لكل من تردد على تلك الخيمة، بما عرف بـ”تسريبات القذافي”، وبسبب تلك التسريبات، كانت دولة الكويت قد حكمت بالسجن المؤبد على رئيس حزب الأمة، حاكم عبيسان المطيري، في قضية تحولت إلى قضية أمن دولة، بعدما أدين المطيري بتهم أبرزها “قلب نظام الحكم” و”التخابر لصالح ليبيا ضد الكويت”.

الإعلام و”الواقع المفرط”

في عالم أصبح إنتاج المحتوى الإعلامي والعمل الإخباري معقداً، والذي يمكن تلخيصه باستفسارات دقيقة هي التالية: ماذا؟ من؟ متى؟ أين؟ ولماذا؟ وفي عالم إعلامي أصبحت الصورة أحياناً هي كل المعلومة، والتي تنقلها الهواتف الذكية والأجهزة اللوحية، ومنصات التواصل الاجتماعي، بما بات يعرف بـ”ثقافة الشاشات”، وفي عالم أصبحت المعلومات متوفرة ومتدفقة بسرعة، مبرمجة بخوارزميات، حيث لا احتمال لتفسير ذاتي لتلك المعلومات، ولا يستطيع معها المتلقي أن يحدد الخبر الكاذب من الصحيح، وهذا ما يشكل تحدياً أمام الإعلام التقليدي والإعلام الجديد، في أمور تقنية عديدة منها الانتشار، والتواصل، وتقييم البيانات، والدقة، والتأكد من صحة المعلومة، وأهم من كل هذا من يحقق السبق الصحافي، أي سرعة إيصال الخبر، ويأتي هنا دور “المصادر” أو “التسريبات”، ومن ثم جمع تلك الأخبار والمعلومات  لـ”خلق” القصة، وأحياناً تكون هذه القصة نفسها مروية من وجهات نظر متعددة، حتى تبدو معها المعلومات متناقضة، وأكثر من ذلك قد تكون مختلفة جداً، حسب وجهة نظر الناقل أو المصدر أو المتلقي، مع أن أدوات القصة هي نفسها، وهذا ما يدخل المشاهد في حالة حيرة، لكن تعمل كل وسائل الإعلام على استقطاب الجمهور، بحيث لا يتردد بعض الإعلام باختلاق الوقائع وتسيِيقها (أي وضعها في سياق معين)، عبر حملة إعلامية مبرمجة كما يقول عالم الاجتماع الفرنسي، جان بودريار، الذي يسأل عما تبقى “من الواقع المادي ونحن نشهد في كل مكان حقناً هائلاً ومتواصلاً للواقع بالصورة والمتخيل والافتراضي”، ويتابع “إن الواقع  الحقيقي لم يعد ما كان عليه من قبل، وأثرت وسائل التكنولوجيا في تشكيل الوعي الاجتماعي الجديد في العصر الحاضر، ومع تطور وسائل الاتصال والثورة التكنولوجية التي شهدها عصر ما بعد الحداثة أصبحت وسائل الإعلام تمارس دوراً جوهرياً في إثارة اهتمام الجمهور بالقضايا والمشكلات المطروحة”، وذهب بودريار إلى أن المعلومات والاتصالات، أصبحت يستعاض عنها بما يعرف بـ(الواقع المفرط)، الذي يحاكي الواقع الفعلي من خلال الإثارة واختراع الأكاذيب التي تجعل منه حقيقة، وذلك عند نقطة تحول حاسمة من خلال الانتقال من الإشارات التي غطت على الأشياء، إلى علامات تخفي وجود هذه الأشياء، وعلى ذلك، أصبح الواقع المفرط يعرف بأنه ثقافة مليئة بالنماذج الحقيقية التي لم تكن موجودة، ما تترتب عليه عواقب بفقدان “التمييز بين الحقيقي والمتخيل”.

ما الهدف من وراء “التسريبات”؟

بحسب الموسوعة الصحافية، التسريبات هي “عندما يكشف عنصر داخلي معلومات سرية لصحافي، هذه المعلومات يمكن أن يكون مصدرها حكومياً أو مالياً وحتى من أفراد عاديين، ولكل هؤلاء أسباب مختلفة للكشف عن معلومات ليس لهم الحق في الكشف عنها، ومن بين هذه الأسباب، الإيمان بحق الرأي العام في المعلومة، أو الحصول على تعويض مادي أو إزعاج جهة أو شخصية معينة”. وتضيف الموسوعة أن بعض الموظفين الحكوميين يلجأون إلى تسريب المعطيات لتنبيه الرأي العام إلى قرار خطير قادم، أو من أجل جس النبض، أو التأثير في طريقة التغطية الإعلامية لحدث معين، إذاً قد لا يكون الهدف من وراء التسريبات دائماً تنوير الرأي العام، أو القناعة بالحق في الوصول إلى المعلومة، ولكن قد تكون هناك دوافع شخصية وسياسية ومالية للقيام بهذه العملية، وهنا يأتي دور الصحافي في التحقق من صحة التسريبات، كيلا تقع على عاتقه مهمة تضليل الرأي العام، مع أن عبارة “سري للغاية” تشكل إغراء لأي صحافي يبحث عن السبق الصحافي، ولعل ما قام به جوليان أسانج كان حدثاً صاعقاً وفضيحة من الطراز الأول على صعيد دولي، وأثبت أنه لا يوجد ما هو بمنأى عن الكشف والخروج إلى العلن، سواء كان “عملاً قبيحاً” حسب توصيف العمليات الأمنية القذرة، أو دبلوماسية خادعة هدفها تضليل الآخر، أو عرض خدمات شخصية لمسؤولين، أو إيصال رسالة حكومية أو خاصة، فكل شيء أصبح معرضاً لأن يكون غداً تحت ضوء الشمس، بعد تسريبات “ويكيليكس”، التي أزاحت الستار عن صندوق المعلومات السري الأسود والأسرار الدولية.

أهم 10 تسريبات لوثائق سرية سياسية منذ 200 عام

 

في مارس (آذار) 2017 قام موقع “History” بنشر تقرير بعنوان “التاريخ الطويل والمعقد للتسريبات السياسية”، يتضمن أبرز عشرة تسريبات لوثائق سرية لأسباب سياسية أو استراتيجية، بعضها يعود بالزمن إلى مئات السنين.

رسائل “هتشنسون”

في ديسمبر (كانون الأول) 1772، تلقى بنجامين فرانكلين الذي كان آنذاك مديراً عاماً للبريد التابع لبريطانيا في المستعمرات الأميركية، مجموعة مرسلها مجهول، لكن كاتبها هو توماس هتشنسون، حاكم ماساتشوستس، لمسؤول بريطاني، مضمون الرسائل أن توماس هتشنسون كان يحث بريطانيا على إرسال المزيد من القوات الإضافية لردع المستعمرين المتمردين في بوسطن، ونشر فرانكلين هذه الرسائل في الأوساط الخاصة، إلا أن جون آدمز، قام بنشرها في صحيفة “بوسطن جازيت”، عام 1773، ما أثار فضيحة أجبرت توماس هتشنسون على الفرار من البلاد، وأذكت نيران التوترات التي قادت إلى حرب الاستقلال، وحين اتهم ثلاثة رجال أبرياء بتسريب الرسائل، اعترف فرانكلين بدوره في هذه القضية، ما أدى إلى توبيخه رسمياً في البرلمان، وإقالته من منصب المدير العام للبريد.

معاهدة “غوادالوبي هيدالغو”

عام 1848، نشر الصحافي جون نوغنت نسخة غير موقّعة من معاهدة “غوادالوبي هيدالغو”، في صحيفة “نيويورك هيرالد”، وهي المعاهدة التي كان من المفترض أن تنهي الحرب المكسيكية الأميركية التي استمرت عامين.

“أوراق البنتاغون”

نشرت صحيفة “نيويورك تايمز”، يونيو 1971 سلسلة مقتطفات من تقرير سري للغاية، صادر عن وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) حول تدخل الولايات المتحدة في فيتنام خلال الفترة من 1945 إلى 1967، وكانت هذه الوثائق جزءاً من المراجعة التي كُلّف بإجرائها وزير الدفاع آنذاك روبرت مكنمارا، وكشفت هذه الوثائق التي عُرفت بـ”أوراق البنتاغون”، أن أربع إدارات رئاسية متعاقبة ضللت الكونغرس والرأي العام الأميركي عمداً، في ما يتعلق بنطاق حرب فيتنام وأهدافها وتقدمها.

“ووترغيت”

منتصف 1972، اعتُقل خمسة رجال لاقتحامهم مقر الحزب الديمقراطي، بفندق “ووترغيت” في واشنطن، ومحاولتهم زرع أجهزة تنصت، لاحقاً، تمكن بوب وودورد وكارل برنشتاين، صحافيان في “واشنطن بوست”، من كشف علاقة مباشرة بين حادثة الاقتحام، وإدارة ريتشارد نيكسون، ما أفضى إلى سلسلة من جلسات الاستماع أمام مجلس الشيوخ، أدت في نهاية المطاف إلى استقالة نيكسون عام 1974.

قضية “فاليري بليم”

في يوليو (تموز) 2003، نشر جوزيف ويلسون، مبعوث المخابرات المركزية الأميركية إلى النيجر، مقالاً في صحيفة “نيويورك تايمز”، ذكر فيه أن ادعاء جورج بوش الابن، أن العراق حاول شراء اليورانيوم من النيجر، هو “مجرد ادعاء استخدمه بوش لتبرير الحرب، وأنه لا أساس له من الصحة”، وبعد أقل من أسبوعين، كتب روبرت نوفاك مقالاً في “واشنطن بوست”، كشف فيه أن فاليري بليم، زوجة ويلسون، هي عميلة للمخابرات المركزية الأميركية، وبكشف هويتها، تعرض عملها مع الوكالة للخطر، واتهم ويلسون البيت الأبيض بتسريب هويتها عقاباً له، بعد ذلك بسنوات، أُنتج فيلم سينمائي عن قصة بليم وزوجها ويلسون (Fair Game) 2010.

سجلات حرب العراق

في أكتوبر 2010، نشرت “ويكيليكس” ما يقرب من 400 ألف وثيقة عسكرية سرية، تتعلق بغزو العراق، مثلت مخزوناً هائلاً من المعلومات التي قللت من أهمية نشر 77 ألف وثيقة عن الحرب في أفغانستان، قبل أشهر عدة، من بين أبرز الوثائق المسربة مذكرة “داونينغ ستريت” التي أثبتت أن بوش وبلير كذبا بشأن أسلحة الدمار الشامل لتبرير غزو العراق. وقام أسانج الصحافي الأسترالي، بمشاركة الوثائق مع الصحافة، ومن بينها “نيويورك تايمز” و”دير شبيغل”، و”الغارديان”. ومن بين ما كشفت تلك التسريبات الدليل أن الجيش الأميركي تجاهل عن عمد إساءة معاملة المعتقلين على يد حلفائه من العراقيين وأنه كان هناك بالفعل 15 ألفاً من الضحايا المدنيين أكثر مما كان معترفاً به من قبل، ووصف معارضو الحرب مذكرة “داونينغ ستريت”، بأنها دليل دامغ على أن بوش وبلير، قررا سراً غزو العراق وتلاعبا بالاستخبارات لدعم ذلك القرار.

تسريبات إدوارد سنودن

كشفت المعلومات عام 2013، التي حصل عليها إدوارد سنودن أثناء عمله كمتعاقد مع وكالة الأمن القومي في هاواي عن أن وكالة الأمن القومي ومكتب التحقيقات الفيدرالي كانا يجمعان بيانات تتضمن البريد الإلكتروني والمحادثات والفيديوهات والصور ومعلومات الشبكات الاجتماعية، من مستخدمي الإنترنت العاديين داخل الولايات المتحدة وخارجها، ونتيجة للانتقادات بسبب انتهاك الخصوصية، دافعت إدارة الرئيس باراك أوباما عن برنامج المراقبة، زاعمة أنه ساعد على منع الهجمات الإرهابية. وعلى الرغم من تنديد البعض بسنودن على أنه خائن، فقد ساند كثيرون ما قام به، وبعد أن وجّه المدعون الفيدراليون التهم إلى سنودن، بموجب قانون التجسس، منحته روسيا اللجوء، وبقي هناك بعد فشل محاولات الحصول على عفو رئاسي.

وثائق بنما

في أبريل عام 2016، كشف تسريب عما يقرب من 11.5 مليون ملف من قاعدة بيانات مكتب موساك فونسيكا في بنما، رابع أكبر شركات المحاماة الخارجية في العالم، عن معلومات مالية شخصية عن آلاف الأثرياء والمسؤولين الحكوميين من حول العالم، وشاركت صحيفة “زوددويتشه تسايتونغ” الألمانية، التي حصلت على الملفات من مصدر مجهول، هذه الوثائق مع الاتحاد الدولي للمحققين الصحافيين (ICIJ)، ومررت هذه المنظمة الملفات إلى شبكة كبيرة من الوسائل الإخبارية الدولية، منها “بي بي سي”، و”الغارديان”.

وثائق “باردايس”

احتوت هذه الوثائق السرية المسربة، التي بلغ عددها 13.4 مليون وثيقة سرية، على ذكر العديد من الشخصيات والكيانات البارزة مثل ملكة بريطانيا إليزابيث الثانية، وويلبر روس وزير التجارة الأميركي السابق، وشركات كبرى مثل “فيسبوك” و”نايك”، وقد سربت هذه الوثائق من مكتب المحاماة “أبليبي”، وأُرسلت للصحيفة الألمانية “زوددويتشه تسايتونغ” وكشفت هذه الوثائق عن نحو عشرة تريليونات دولار من الاستثمارات الخارجية المستخدمة لإخفاء الثروات والأرباح، وللتهرب الضريبي، ومن ضمن المعلومات الصادمة المذكورة في هذه الوثائق، امتلاك ويلبر روس، حصة في إحدى شركات الشحن الخارجية، والمرتبطة مباشرة بصهر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

زر الذهاب إلى الأعلى