عبور هادئ في معرض باريسي للفنانة السورية ريم يسّوف

رحلة تساؤلات وانتقال لم يتحرر بعد من سفر يحوم داخل الذات نفسها

النشرة الدولية –

العرب – ميموزا العراوي –

تدور الفنانة السورية ريم يسّوف في كنف تساؤلات لم تنفك تستفزها منذ أكثر من ثماني سنوات، فجعلتها تقيم المعرض تلو الآخر علّه يكون الإجابة الأخيرة عن الأفكار المتدافعة في عقلها، لكنها تجد نفسها في كل مرة ترسم شخوصا وأمكنة تنطق بما لا يمكن البوح به، وتضج بالألوان الصارخة والصريحة.

عبور. وحدها الكلمة تفتح على عدة معان شعرية وجغرافية وفلسفية، ونفسية، واجتماعية، وزمنية، وسياسية. كلمة باستطاعتها الإشارة إلى معلومات قد تصل إلى حد التناقض.

أما ما حضر في معرض الفنانة ريم يسّوف في صالة “كونسيبت 27” الباريسية فهو العبور من وإلى الذات في محاولة حثيثة للخروج من حالة القيظ التي غالبا ما يسبقها عبور وجودي الملامح إلى ضفة أخرى بغض النظر عن ماهيتها.

ويأتي معرض التشكيلية السورية بعد معرضها الذي قدمته سنة 2021 وحمل عنوان “العودة إلى الحياة”. معرض انطلقت منه الفنانة من صورة شخصية لها وهي في الخامسة من عمرها في بيتها مع عائلتها، إلى مجموعة صور ورسومات تناسلت من بعضها البعض واعتمدت فيها الفنانة على وسائط مختلفة.

معرض ريم يسّوف الجديد عبارة عن مجموعة أسئلة متصلة مع بعضها البعض قد تتسلل إلى قلب مُشاهد أعمالها الجديدة

ذكرت يومها الفنانة أن المعرض هو “مشروع يتناول علاقتنا مع ذكرياتنا عندما نفقدها أو عندما تبدأ تلك الذكريات في الارتباك في ذهن وكيان فتاة صغيرة قبعت هي وذاكرتها تحت سقف منزلها”.

معرضها الجديد يجيء أشبه باستكمال لم يصل إلى أوجه لرحلة عبور بدأتها الفنانة ليس منذ بدء مسيرتها الفنية، بل منذ أن تلقت اختباراتها الفنية الملونة زلزال الحرب السورية ليغلق فم الألوان معلنا بداية زمن تقشف لوني اعتمد حصريا على الأبيض، والأسود، والرمادي، والزرقة.

وشهدت “الحُمرة” لاحقا حق العودة إلى لوحاتها ولكن من خلال تماهيها مع الدم المتخثر في شبه قطرات وهيئات تشبه الدموع أو بتلات الورود التي مرّ عليها الزمن. تلك البقع الحمراء الداكنة والتي كانت تومض أحيانا في بعض حناياها لم تعلن بصراحة عن ماهيتها، ولكن ظلت تتأرجح بين الظهور على أنها “لون” وبين كونها قطرة دم جفت هنا أو هناك على سطح اللوحة، أو بصمة تحيل وتومئ دون أن تشير إلى صاحب أو صاحبة الدم المهدور الذي غالبا ما كان يخص طفلا من أطفال سوريا.

يمكن اعتبار معرض يسّوف الجديد “عبور” آخر حلقة حتى الآن من سلسلة معارض امتدت من 2014 (وهي ليست أول مرة تقدم فيها الفنانة معرضا فرديا) وصولا إلى معرض سنة 2018 الذي نوّد أن نعتبره مفصليا لأن منه يستطيع مُتابع سيرة الفنانة الإدراك أن ما تقدمه اليوم في الصالة الباريسية هو اختزال كبير لهيئات الأطفال الذين حضروا في لوحاتها في معرض بيروتيّ بعنوان “رسالة طفل”.

 

شخوص فنية تتحرك في دائرة الألم المشترك
شخوص فنية تتحرك في دائرة الألم المشترك

في هذا المعرض تحديدا وليس حصرا، لأن المعارض التي تلته لم تخرج عن سرديته، بل تابعته بلغة بصرية أكثر تطورا، أسست الفنانة لما ستصل إليه بعد عدة سنوات من العمل الفني.

شكل المعرض الذي تلا ذاك المعرض والذي أزخمته الفنانة بطيور السنونو التي حضرت سابقا في لوحاتها، وهو خلف غشاوة بيضاء تتخللها خيوط بالغة الدقة هي لشباك تبعد كل البعد عن فكرة الأسر، شكل محطة أساسية في تبلور الأشياء والشخوص والكائنات الطبيعية في أعمالها إلى رموز وإحالات مهدت للنص البصري الحالي.

معرض يسّوف الجديد عبارة عن مجموعة أسئلة متصلة مع بعضها البعض. أغلب الظن أن الكثير من الأسئلة قد تتسلل إلى قلب مُشاهد أعمالها الجديدة.

من هذه الأسئلة: أين ذهب أطفال، لا بل كائنات يسّوف الطفولية؟ من أي علو خارق قفز القط، الذي حضر في عدد كبير من لوحاتها كشاهد في ما يحصل أو كرفيق مؤنس رافق الطفل المفجوع بطفولته، ليختفي من مساحة اللوحة؟

كيف تكسرت قوالب الأحجار المرصوصة والمنزلقة حينا والمتكسرة والمتصدعة حينا آخر، والتي كانت تصعد منها تارة وتتسلق عليها وتتأرجح منها بحبال وهمية تارة أخرى، خيالات الأطفال وهم أبطال في مسرح ظل لا يرحم ولا يسرد قصصا لطيفة تحكى للأطفال قبل النوم؟ وللمفارقة كان هذا التعبير عنوانا لأحد معارض الفنانة “قصص ما قبل النوم”.

أما السؤال الأهم فقد يكون: ماذا حدث لطائرات الورق التي كانت تسبح في سماء لوحاتها أو تشد أصحابها وكأنها مرساة سماوية تنقذهم مما هم عليه من ضياع وألم؟

بناء على تلك الأسئلة ستنشأ سلسلة مشروعة من الافتراضات والاحتمالات وإن لم تخرج عن كونها هي الأخرى، أسئلة إضافية.

آلام لم تشف منها الفنانة
آلام لم تشف منها الفنانة

هل تحولت تلك الطائرات الورقية التي اعتدناها في أعمال الفنانة إلى أرحام، لا بل إلى “كمادات” شفافة ونظيفة تقبع خلفها المُختزلات “الحيّة”، أي أطفال الفنانة، وتغفو خلفها الحياة الطفولية التي عممتها الفنانة أمامنا سابقا ببساطتها ورهافتها في لوحاتها، والتي لا تتطلب اليوم أكثر بكثير من رفق بهيئة “بطانة شاشية” رقيقة ونظيفة وشديدة الحبك تحمي الطفولة من الخارج دون أن تعزلهم عنه، بل تحضرهم لمواجهته؟

مازال هؤلاء الأطفال حاضرين في لوحات يسّوف، كما كانوا من قبل، ولكن بصيغة بالغة الاختزال. مازالوا هناك كما كانوا ملوّحين بطحين القمر، لا بل اليوم أكثر من قبل، يتألقون بلونهم الأبيض. هؤلاء لم يعودوا في حاجة إلى الحبال والخيوط التي كانوا يسيرون سابقا في محاذاتها أو كانوا يستلقونها جسديا أو من خلال نظرات عيونهم. لقد حولتهم الفنانة إلى نواة كثيفة، لكنها نواة تشبه كثيرا بودرة الأطفال أو الطحين المتكور والمنفوش حينا والمتحجر حينا آخر في وسط فضاء، لا بل في كنف فضاء أبيض. نواة تحت ستارة بالغة الشفافية تنغلق عليهم جزئيا لتحمي حياتهم الهشة ولتتيح للناظر اختيار الزاوية التي يريد أن يتقفى منها أثر الكائن الحيّ خلفها.

من تلك اللوحات الأكثر إشارة إلى شخوص الفنانة هي تلك التي نلحظ فيها خطا رفيعا يختزل هيئة قدم امتدت خارج البصمة/الضمادة التي نكاد نشتم منها رائحة الكلوروفورم النافذة.

جراح وليست بجراح. حروق، ولكن ليست بحروق، آثار، ولكن أقوى من الحضور. إنها العبور من الآن إلى اليوم، من الذات إلى الذات ريثما يحين “زمن” يصبح فيه للعبور معنى واحد: الانطلاق والتحليق إلى مرحلة أكثر إشراقا بملامح وأحلام جديدة لم يقو عليها لا النار ولا الأسلاك ولم تقمع فيها روائح المُطهرات المُبلسمة عطر الحياة ولا رقرقة وتعددية الألوان التي هي ربما عائدة بعد طول عبور.

Thumbnail
Thumbnail
زر الذهاب إلى الأعلى