التزام أميركي لا يتزحزح تجاه إسرائيل
بقلم: د. سنية الحسيني

النشرة الدولية –

رغم إقدام تحالف نتنياهو على إقرار التشريع الأول في التعديلات القضائية، التي أجّجت موجة احتجاج غير مألوفة ضده وحكومته في “إسرائيل”، وعلى الرغم من رفض إدارة الرئيس بايدن المعلنة لتوجه هذه الحكومة اليمينية بإجراء تلك التعديلات القضائية، إلا أن تطور الأحداث الحالية يؤكد عدم نية ورغبة وقدرة واشنطن على مقاطعة أو ردع حكومة نتنياهو أو أي حكومة قادمة في “إسرائيل”، في ظل اعتبارات إستراتيجية حساسة تحكم علاقة واشنطن بها عموماً، وفي الشرق الأوسط على وجه الخصوص، في هذه الحقبة الزمنية. وكانت واشنطن قد هددت “إسرائيل” مطلع تسعينيات القرن الماضي، في عهد الرئيس جورج بوش الأب، بقطع المساعدات عنها، لإجبارها على المشاركة في مؤتمر مدريد للسلام ووقف الاستيطان، وخضع رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق شامير في حينه للضغوط الأميركية، فواشنطن تمتلك من أدوات القوة، في ظل علاقة تحالف صلبة وبنيوية مع “إسرائيل” ما يمكّنها من ردع سياساتها إن رغبت.

 

لم تخف واشنطن استياءها من تركيبة الحكومة الجديدة في “إسرائيل”، ومن توجهاتها وسياساتها الداخلية بعد ذلك، والتي اعتبرتها مضرة لمستقبل البلاد. وتتكون حكومة نتنياهو الحالية السادسة من متدينين متشددين وقوميين متطرفين، من أتباع التيارات الدينية الشرقية والغربية والمستوطنين، والبعيدة عن النخب السياسية التقليدية في “إسرائيل” من سياسيين واقتصاديين وعسكريين، ما دفع المفكر الإسرائيلي يوفال نوح هراري لاعتبار أن تلك الحكومة ستحوّل البلاد إلى “أكبر دولة معادية للسامية في العالم”، وستنتج “منظومة ديكتاتورية” من الصعب التعايش معها، على حد تعبيره. ويطرح ائتلاف نتنياهو منذ توليه الحكم مطلع العام الجاري خطة لإصلاح القضاء، قام بتأجيل إقرارها في الكنيست، بعد انفجار الاحتجاجات في الشارع الإسرائيلي بعد الإعلان عنها مباشرة. إلا أن الائتلاف الحاكم قام، الأسبوع الماضي، في الكنيست، وقبل دخوله في عطلته الصيفية، بإقرار إلغاء “حجة المعقولية”، التي تقيّد صراحة من صلاحيات القضاء في إبطال تشريعات صادرة عن الكنيست أو رفض قرارات للحكومة، تتناقض مع روح القانون، مثل تعيين موظفين متهمين بالفساد، الأمر الذي دفع يائير لابيد زعيم المعارضة للإعلان عن نيته التوجه لمحكمة العدل العليا لإلغاء القرار، وأجّج حدة التظاهرات ووسّع رقعة انتشارها وتصادمها مع الشرطة. واستعارت إسرائيل في تسعينيات القرن الماضي بند المعقولية من التشريع البريطاني، والذي يسمح للمحكمة العليا بإلغاء تشريعات أو قرارات صدرت عن الهيئة التشريعية والتنفيذية.

 

أدت سياسات الحكومة الإسرائيلية الجديدة، وخصوصاً خطة الإصلاح القضائي، إلى اضطرابات خطيرة في “إسرائيل”، أثرت على الاستقرار السياسي والأمني والاقتصادي. ففي خضم الاحتجاجات الشعبية على تلك السياسات أعلن رجال أعمال واقتصاديون وسياسيون وأكاديميون وأطباء ورجال أمن إسرائيليون الإضراب، وصرح جنود الاحتياط بأنهم سيتوقفون عن التطوع للخدمة، ووصلت حدة الاحتجاجات بالدعوات لعصيان مدني وعدم دفع الضرائب ورفض الخدمة. وشارك موظفو شركات التكنولوجيا الفائقة وروّاد الأعمال بدور نشط في الاحتجاجات، وأعلن بعضهم نيتهم إخراج نشاطهم التجاري من البلاد. وكان من أبرز نتائج تلك التطورات أن فقد الائتلاف الحكومي حوالى ٢٠ في المائة من مكانته الشعبية في استطلاعات الرأي الأخيرة، وأعلن آلاف الجنود في الاحتياط عدم مثولهم للأوامر، وخروج آخرين من الخدمة الميدانية الجوية وأجهزة المخابرات والسايبر، وربط محافظ بنك إسرائيل ضعف الشيكل في سوق العملات الأجنبية الدولي اليوم بالأحداث الداخلية في “إسرائيل”. وتشير استطلاعات الرأي الأخيرة إلى أن ثلث الإسرائيليين باتوا يفكرون بالهجرة ونصفهم قلق من حرب أهلية واضطراب في الأوضاع الأمنية والاقتصادية. وقد يكون أهم ما ميز المسيرات الاحتجاجية الأخيرة بعد إقرار الكنيست إلغاء حجة المعقولية مطالبتها لأول مرة واشنطن بقطع مساعداتها عن “إسرائيل”، في تطور يعد نوعياً، وفي رسالة لواشنطن تدعوها للتدخل لإرغام الحكومة على التراجع، في ظل عدم نجاح التحرك الشعبي في ذلك حتى الآن.

 

لم تأت الدعوة لواشنطن بوقف المساعدات العسكرية لإسرائيل لردع سياسات الحكومة الإسرائيلية الحالية من قبل المحتجين فقط في الشارع الإسرائيلي، بل جاءت أيضاً من مخضرمين سياسيين أمريكيين، يعملون دون مواربة لصالح “إسرائيل”، بعد أن تصاعد استياء واضح من مشرعين ديمقراطيين وقيادات يهودية أميركية من سياسات حكومة نتنياهو، فيما يتعلق بالإصلاحات القضائية. ومن بين تصريحات مشابهة عديدة أخرى، طالب مارتن إنديك ودان كيرتزر، وهما سفيران سابقان للولايات المتحدة في إسرائيل، ويهوديان، بلادهما بإعادة النظر في تقديم المساعدة العسكرية لإسرائيل، حيث اعتبر كيرتزر أن هذه المساعدات لا تعطي نفوذاً لواشنطن لدى إسرائيل. كما طالب كاتب العمود الأميركي المعروف في صحيفة “نيويورك تايمز”، نيكولاس كريستوف، بلاده بالأمر نفسه الأسبوع الماضي. وتعد “إسرائيل” أهم شريك لأميركا في الشرق الأوسط، بعد أن كانت أول دولة تعترف بها في العام ١٩٤٨. وتقدم الولايات المتحدة لشريكتها وحليفتها أكثر من ثلاث مليارات دولار سنوياً كمساعدات عسكرية فقط، ناهيك عن التعاون العسكري في مجال التدريب والبحوث وتطوير الأسلحة، كما تعد أكبر شريك تجاري لها.

 

ويفصح تعامل إدارة بايدن وسياستها تجاه حكومة نتنياهو الحالية خلال تطورات أزمتها الأخيرة عن استراتيجية واشنطن وحدود سياستها في التعامل مع “إسرائيل”. فواصلت الإدارة الأميركية التزاماتها وتعاملاتها مع “إسرائيل”، وفي جميع المجالات، مع اتخاذ مواقف إعلامية وتصريحات علنية تظهر استياءها من سياسات حكومة نتنياهو خصوصا تلك المتعلقة بالإصلاح القضائي، كتلك التي اعتبر فيها بايدن حكومة نتنياهو بـ “الأكثر تطرفاً في تاريخ حكومات إسرائيل”، واعتباره أن نتنياهو بات يشكل خطراً على “إسرائيل”، وأن بعض الوزراء في ائتلافه يعتبرون جزء من المشكلة. ورغم ذلك الموقف الإعلامي، أجرت القيادة المركزية الأميركية مطلع العام الجاري أكبر مناورة مشتركة مع إسرائيل في المنطقة، مرسلة من خلالها رسالة لدول المنطقة تؤكد فيها عملياً التزامها بأمن “إسرائيل” في الشرق الأوسط، واعتمادها على وجودها فيها بشكل رئيس. كما قام بايدن قبيل زيارة الرئيس الإسرائيلي إلى واشنطن، بإجراء اتصال مع نتنياهو يمهد فيه للقاء محتمل بينهما، مؤكداً أنه صديق مدى الحياة لـ “إسرائيل”. وبعد إقرار إلغاء “حجة المعقولية”، واصل بايدن تأكيده أن حبه لإسرائيل “عميق الجذور وطويل الأمد”.

 

لم تكتف إدارة بايدن بمواصلة دعمها العسكري والاقتصادي لـ “إسرائيل”، فواصلت أيضاً دعمها السياسي لهذه الحكومة اليمينية المتطرفة، رغم تصريحاتها المتكررة عن استيائها من سياسة حكومة نتنياهو الحالية، بما فيها التوسع الاستيطاني الملفت وزيادة التعامل الهمجي مع الفلسطينيين. ويحلم نتنياهو بتحقيق انجاز جديد في إتفاقيات التطبيع مع الدول العربية، والتي دشنتها إدارة ترامب، فأعلن نتنياهو في أول اجتماع لحكومته الجديدة مطلع العام الجاري رغبته بتحقيق التطبيع مع المملكة العربية السعودية، معتبراً أن ذلك الهدف سيعدّ إنجازاً مهماً باتجاه حل الصراع العربي الإسرائيلي، في تجاهل تام لحل القضية الفلسطينية. ويعد تطبيع العلاقات بين “إسرائيل” المملكة مهماً لدولة الاحتلال، لأنه يعد مقدمة لتطبيع علاقات مع دول أخرى عربية وإسلامية، في ظل المكانة الخاصة التي تمتلكها المملكة على المستوى الديني والسياسي بين الدول العربية وفي منطقة الشرق الأوسط، بالإضافة إلى موقعها الاقتصادي، كأكبر اقتصاد في الشرق الأوسط، ناهيك عن موقعها المتقدم في مجال الطاقة. اعتبر بايدن يوم الجمعة الماضي، أن اتفاقاً قد يكون في الطريق بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية، في ظل مساعٍ تبذلها إدارته لتطبيع العلاقات بين البلدين. وكان مستشار الأمن القومي الأميركي جاك سوليفان، ومبعوث الشرق الأوسط بريت ماكغورك، في جدة قبل أيام لمناقشة إمكانية التوصل لمثل هذا الاتفاق. وأشار سوليفان إلى أن الولايات المتحدة لديها مصلحة في إحراز ذلك التطبيع وتعمل على تحقيقه. وفي الشهر الماضي أكد وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن في أعقاب زيارته للمملكة أن الإدارة منخرطة في محاولة إحراز تقدم لعملية التطبيع الإسرائيلية السعودية، وفي الشهر الذي سبقه عينت الإدارة الأميركية دان شابيرو، سفير الولايات المتحدة السابق لدى إسرائيل، مستشاراً خاصاً للتكامل الإقليمي.

 

اعتبر الكاتب الأمريكي اليهودي البارز توماس فرديمان في مقال له نشرت مؤخراً في صحيفة نيويورك تايمز، أن سياسة حكومة نتنياهو للإصلاحات القضائية ستحطم “الديمقراطية الإسرائيلية” والعلاقات مع الديموقراطية الأميركية. والحقيقة أن دعم الولايات المتحدة لإسرائيل يأتي في ظل تجاهل فظ لمبادئ الديمقراطية التي تتغنى بها أميركا، وتجعلها بوصلة محددة في تعاملاتها وارتباطاتها وعلاقاتها السياسية، والتي  تأتي بشكل انتقائي تبعاً لدرجة التحالف والصداقة مع واشنطن، وغير ثابتة تبعاً لتبدل حدود المصلحة معها، كما حدث مؤخرا مع المملكة العربية السعودية نفسها. ورغم تطلع المملكة لتحقيق مكاسب من واشنطن، والتي طالما اعتبرت إسرائيل مفتاحاً مهماً من مفاتيحها، كتطوير برنامجها النووي السلمي، والحصول على أسلحة أميركية نوعية، ورغم وجود تغير تدريجي في سياساتها تجاه إسرائيل وفق ذلك الاعتبار، كسماحها للطائرات الإسرائيلية بالتحليق في سمائها وللحجاج الفلسطينيين القدوم من “إسرائيل”، إلا أن مشروع واشنطن لتطبيع العلاقات بين المملكة و”إسرائيل” من الصعب أن يمر دون الفلسطينيين، وهو ما تؤكده تصريحات المسؤولين السعوديين وتطور معادلات القوى في المنطقة. فأكد ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان خلال العام الجاري أن “القضية الفلسطينية على رأس جدول أعمال المملكة”، وشدّد وزير الدولة للشؤون الخارجية عادل الجبير، العام الماضي، أن السلام يأتي في نهاية العملية وليس في بدايتها”. كما أن التطورات السياسية في منطقة الشرق الأوسط وتغير معادلات القوة فيها يعد مؤشراً آخر على عدم اضطرار المملكة لتطبيع علاقاتها مع “إسرائيل”، في ظل دخول قوى قطبية جديدة أخرى مؤثرة في المنطقة إلى جانب الولايات المتحدة. ونجحت الصين خلال السنوات القليلة الماضية في بناء تحالفات استراتيجية مع معظم دول المنطقة على رأسها إيران والسعودية، الأمر الذي مكنها من تطبيع العلاقات مؤخراً بين البلدين، وقلب معادلة الصراع في المنطقة، والتي عملت الولايات المتحدة وإسرائيل على ترسيخها خلال العقدين الماضيين. وتأتي تصريحات المملكة الأخيرة التي تؤكد على سياساتها المنبثقة من مصالحها، وقراراتها التي تبتعد عن الانصياع لطلبات واشنطن، يجعل ضغط واشنطن لتجاهل القضية الفلسطينية أكثر صعوبة.

 

 

Back to top button