الفرد حر باختيار الشكل والمظهر في الصور الجماعية على الإنترنت

إحدى المشكلات الكبيرة في الـ "سيلفي" أنها تظهر كسبب أو نتيجة للنرجسية

النشرة الدولية –

اندبندنت عربية

لا بد من أنك واجهت موقفاً أو أكثر مع صور تؤخذ لك أو تأخذها أنت شخصياً، ربما بحسب نوعية الهاتف الذكي أو “الفلتر” الملقن له بشكل تلقائي، ولكنك تستغرب أو تنزعج من النتيجة، هذا ما حصل عندما حاولت ابنة أختي البالغة من العمر 16 سنة أن تحشرني معها وأمها داخل إطار شاشة هاتفها الجديد لالتقاط “سيلفي”، وكم استغربت شكلي عندما رأيت بشرتي أقرب إلى اللون البرتقالي، وأصبحت تفاصيل وجهي أنعم، وذقني طويلة مستدقة، فسارعت بطلبي منها أن تمسحها حالاً، صور كثيرة تنشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ولكن قليلاً منها، إذا لم يكن نادراً، الصور التي لم تخضع للتعديل، وتلك حرية شخصية، لكن، أخيراً، نشرت صورة لشخصية إعلامية على وسائل التواصل، يبدو فيها الإعلامي بعمر أحفاده، طبعاً لم يكن هو من نشر تلك الصورة، بل إحدى المراسلات، أيضاً نشرت إحدى الصحافيات صورة لها مع سياسي وكان وجه السياسي ملوناً بالماكياج. بطبيعة الحال، تعرضت تلك الصور لشتى أنواع التهكم والتعليقات من قبل رواد وسائل التواصل، وهذه الأحداث نماذج يومية لنشر الصور “المعدلة”.

سوسن مهنا

ماذا لو استعمل “الفيلتر” لصورة شخص من دون موافقته؟

ألا يحق للشخص أن يتمتع بصورته كما يراها في المرآة من دون تعديل، وأليس من المفروض أن تتمتع الصورة الشخصية بحقوق الملكية الخاصة، تماماً كما حقوق الملكية الفردية، هذا ما حصل مع المغنية البريطانية أديل، التي لم تستطع إخفاء رعبها بعد أن قامت إحدى المعجبات بوضع “فلتر” تجميلي عليها أثناء تصوير فيديو في مقر إقامتها في لاس فيغاس، وعبرت بالقول “يا إلهي، ماذا فعلت بوجهي؟ هذا ليس شكلي الحقيقي يا عزيزتي!”.

وماذا لو قام أحدهم بنشر صورة لك خاضعة لـ “فلترة” من دون موافقتك؟ تقول الباحثة والكاتبة وأستاذة علم النفس في الجامعة اللبنانية منى فياض إن “من الواجب على من يستعمل “الفلتر” في صورة جماعية، أن يخبر الآخرين المتواجدين في الصورة نفسها كي يبقوا على حريتهم في استعماله من عدمه. وعملياً الناس يغيرون أشكالهم في الواقع عبر عمليات التجميل وهم أحرار في ذلك، ولكن أن تلتقط صورة للأخرين وتعدل بها بما يتناسب مع مقاييسك، فهذا خطأ، بل تعد شخصي على الحرية الفردية، ونوع من السرقة”، واعتبرت أنها لو كانت في موقع قانوني قد تدعي عليهم أمام القضاء “لا يحق لأحد التصرف بصورة الآخرين من دون موافقة الشخص المعني على نتيجة التعديل”، ولا تعتبر أستاذة علم النفس أن الذكاء الاصطناعي ذكاء، لأن هذا الذكاء يخضع لعقل مصممه في أي تطبيق، إذاً هو مجموعة أفكار لأشخاص يعملون على تطبيقات بحسب أذواقهم ومفاهيمهم الخاصة.

ثقافة الـ “سيلفي”

صحيح أن مفهوم الجمال غير مادي وغير محدد بزمن، ولكن مع بدء ثورة الذكاء الاصطناعي انقلبت المقاييس وتحددت عبر الهاتف الشخصي المحمول وتطبيقات التواصل الاجتماعي، ويحتفل عشاق شبكات التواصل الاجتماعي في 21 يونيو (حزيران) من كل عام بيوم “السيلفي” العالمي، وتجتاح المواقع قصص ومنشورات توثق احتفالهم بالمناسبة بصور “سيلفي”.

وطُورت بعض التطبيقات المخصصة لتحسين صورة الـ “سيلفي”، وبعضها لتركيب صور مخصصة لـ “السيلفي”، إذ يمكنك التقاط صورة لك مع الرئيس الأميركي دونالد ترمب من دون الحاجة لوجوده إلى جانبك، من خلال تطبيق  Selfie with Trump، ومن الحوادث المضحكة صورة “سيلفي” لقرد التقطها لنفسه، وفتحت الصورة الجدل حول ملكية هذه الصورة ولمن تعود، ولكن أيضاً وقعت حوادث مأسوية بسبب التقاط صورة “سيلفي”، وبحسب صحيفة “ذا صن” في  10 مارس (آذار) 2021، بعنوان Killed by A Selfie، تقول إنه، على مدار العقد الماضي حدثت وفيات مأساوية، بما في ذلك سقوط أشخاص من المنحدرات أو صعقهم بالكهرباء أو غرقهم لسبب قد لا يتوقعه كثيرون وهو التقاط الصورة المثالية، ووفقاً للصحيفة أيضاً، أودى الشغف المميت بصور “السيلفي” بحياة 330 شخصاً في مختلف أنحاء العالم بحلول عام 2021، ما دفع العلماء إلى المطالبة بـ”مناطق حظر التقاط صور سيلفي” في محاولة لخفض عدد الوفيات، وعام 2013، أعلنت قواميس “أكسفورد” عن كلمتها السنوية “Selfie”، التي عرفها على أنها “صورة يلتقطها المرء لنفسه، وعادة ما يتم التقاطها بهاتف ذكي أو كاميرا ويب وتحميلها على أحد مواقع التواصل الاجتماعي”. وعلى رغم أن الانتشار الواسع لهذه التقنية قد يعد حديثاً إلا أن صورة “السيلفي” بحسب تعريف “أكسفورد”، بعيدة كل البعد من كونها ظاهرة حديثة تماماً.

في الواقع، التقطت الصورة التي اعتبرها كثيرون أول صورة “سيلفي” فوتوغرافية على الإطلاق عام 1839، بواسطة الكيميائي والمصور الفوتوغرافي من فيلادلفيا الأميركية، يدعى روبرت كورنيليوس الذي قام بتركيب كاميرته في الجزء الخلفي من متجر العائلة في فيلادلفيا، والتقط الصورة من طريق إزالة غطاء العدسة، ثم الركض إلى الإطار، إذ جلس لمدة دقيقة قبل أن تغلق العدسة مرة أخرى، وكتب على خلفية الصورة “أول صورة ضوئية  التقطت على الإطلاق 1839”.

إذاً عمر الـ “سيلفي” يبلغ 183 عاماً تقريباً، ولمع مصطلح selfitis  للمرة الأولى كجزء من مقال صحافي ساخر عام 2014، ويقول المقال إن المؤسسة الأميركية للطب النفسي تعتبر هوس التقاط الصور الذاتية خللاً عقلياً، فقام الباحثون بدراسة هذه الظاهرة بعد أن درسوا الاضطرابات الأخرى المتعلقة بالتكنولوجيا من ضمنها “نوموفوبيا” أو Nomophobia، رهاب فقدان الهاتف المحمول أو الخوف من عدم امتلاك الشخص هاتفه الجوال في يده.

وفقاً لموقع Psychology Today، تعتقد أستاذة علم النفس باميلا روتليدج، أن صور “السيلفي تسمح للشباب بالتعبير عن حالاتهم المزاجية ومشاركة التجارب المهمة”، وأنها يمكن أن تعزز الثقة من خلال إظهار أفضل ما لديك للآخرين وتفاعلهم معك، كما أن صور “السيلفي” تحتفظ بالذكريات المهمة، لكن لا تزال هناك جوانب سلبية كثيرة لها، فقد وجدت دراسة أوروبية أن الوقت الذي يقضيه الشخص في النظر إلى صور “السيلفي” على وسائل التواصل الاجتماعي مرتبط بأفكار سلبية عن صورة الجسد بين الشابات بحسب “بي بي سي”.

أما عالمة النفس جويندولين سيدمان فتعتبر أن هناك رابطاً بين النرجسية وهذه الصور، وتستشهد بدراستين فحصتا انتشار صور “السيلفي” على “فيسبوك”، في عينة تضم أكثر من 1000 شخص، وكان الرجال في العينة الذين نشروا عدداً أكبر من صور “السيلفي” أكثر عرضة لإظهار دليل على النرجسية، أما عند النساء فكانت مشاركة الصور الشخصية مرتبطة بنوع من النرجسية المسماة “طلب الإعجاب”، التي تعرف على أنها “الشعور بأنك تستحق وضعاً خاصاً أو امتيازات معينة والشعور بالتفوق على الآخرين”. وهذا بدوره يدفع كثيرين للمخاطرة بالتقاط الصور الشخصية في مواقف أو أماكن خطرة، سعياً لنيل الإعجاب وإظهار التميز، والتأكيد لأنفسهم وللآخرين أنهم الأفضل، ويبدو أن إحدى المشكلات الكبيرة في صور “السيلفي” هي أنها تظهر كسبب أو نتيجة للنرجسية.

 

لا معايير محددة للجمال

وفي تقييمها للجمال تقول أستاذة علم النفس منى فياض إنه “مسألة خاصة ولا توجد معايير محددة له”. هذا الجمال خاضع للتغيير، أحياناً تكون المرأة النحيفة هي معيار للجمال والأنوثة، وأحياناً أخرى الممتلئة، وتتغير هذه المقاييس تبعاً للحقبات التاريخية والمجتمعات والثقافة السائدة، وترى فياض أنه “في عصر العولمة الحالية هناك نماذج عالمية تفرض نفسها، وهذا ما يدفع الناس لتقليدها”، وتعطي كمثال مطرب البوب العالمي مايكل جاكسون الذي خضع لعمليات عديدة كي يصبح أقرب إلى الصورة المثالية للرجل الأبيض الذي فرض نفسه في “هوليوود”، وتتابع “أن أكون جميلة هي نزعة نفسية طبيعية، وقبول الآخرين لنا، مطلب الجميع”، وتشير إلى أنه يوجد الأن عديد من المشاهير الذين يصرحون أنهم ليسوا بالجمال الذي يبدون به في الصورة، ويعترفون أن ذلك يعود للماكياج والإضاءة والفوتوشوب أحياناً، ولكن هؤلاء قلة. “ومن يؤثر فعلاً هم أمثال كيم كارداشيان التي برزت كمؤثرة من دون أن نعلم لماذا، بالتالي، الإعلانات والتسويق هما سببان رئيسان لشهرة أحدهم”، وتعتبر أن مقاييس الجمال لدى الذكاء الاصطناعي ليست جميلة، “الجمال يبرز من خلال التعابير، من هنا الجمال مسألة جداً معقدة وتخضع لعوامل عديدة”، وترى فياض أن عمليات التجميل للتشبه بالفنانات والمشاهير لا تغدو كونها تبسيطاً وتسطيحاً لمفهوم الجمال، والأمر غير ناجح، ويصل عند بعض الناس إلى حد تشويه أشكالهم الحقيقية.

نسخة جديدة من “الأنا”

رموش أطول، فك أكثر عرضاً، ابتسامة ناصعة، أنف أنحف، بشرة صافية، هي بعض المعايير الجمالية التي يسعى كثيرون للحصول عليها من خلال “فلاتر” الوجه، وقد يؤدي استخدام فلاتر “سناب شات” المخصصة لالتقاط صور “السيلفي” إلى فقدان المستخدمين النظرة الواقعية، الأمر الذي يخلِق توقعات بأنه يتوجب عليهم أن يكونوا مثاليين على الدوام Snapchat dysmorphia  وهو مصطلح ظهر في مقالة نشرت في المجلة الطبية JAMA Facial Plastic Surgery  في 15 نوفمبر (تشرين الثاني) 2018، على يد باحثين من قسم طب الأمراض الجلدية في جامعة “بوسطن”، وهو مرض نفسي يصيب الرجال والنساء، ويصاب معه المريض بقلق دائم ووسواس حول شكله وعيوب جسمه، وكيف يمكن تغييرها، ومع دخول التكنولوجيا وتطبيقات مثل “سناب شات”، فإن هؤلاء المرضى أصبحوا يلجأون إلى جراحي التجميل لتغيير أشكالهم بما يشبه أشكالهم على فلاتر “سناب شات”.

في الماضي، كانت التكنولوجيا المستخدمة لتعديل الصور بين أيدي المشاهير فقط، إذ كان من المفترض أن يكون ظهور الأشخاص الآتين من عالم الموضة والأزياء والفن بشكل متقن ومثالي في الإعلانات وعلى أغلفة المجلات في حين أن عامة الناس كانوا بمنأى عن هذه التقنيات المتطورة، أما اليوم، ومع بعض التطبيقات مثل “سناب شات” وfacetune، فإن معيار الكمال لم يعد محصوراً فقط بالمشاهير وبالشخصيات التي تعمل تحت الضوء بل أصبح الوصول إلى “الجمال المثالي” من ناحية إتقان الشكل الخارجي متاحاً للجميع من دون استثناء وفي غضون دقائق معدودة.

في هذا الصدد تتناول المقالة الجانب المظلم من ظاهرة “فلترة الصور” وانخراطها في مجال التجميل، مشيراً إلى أن هذا الاتجاه “مثير للقلق” ويمكن أن يفسد عقولنا ويغذي بعض الأفكار السلبية حول ما نراه حقاً في المرآة وعلى هواتفنا، لكون صور “السيلفي” المعدلة تقدم في كثير من الأحيان نظرة غير قابلة للتحقيق، كما أنها تطمس الخط الفاصل بين الواقع والخيال، وأن الوصول الفوري إلى “الكمال” هو الذي يقود ظاهرة snapchat dysmorphia  ويقف وراءها.

ووفق مكتب الإحصاءات الأميركي لعام 2015، أن 25 في المئة من الذين يستخدمون مواقع التواصل أكثر من ثلاث ساعات هم أكثر الناس استخداماً لـ “الفلاتر”، وهذه النسبة ارتفعت عام 2018 لتصل إلى ما يقارب 24 ساعة أي طوال اليوم، وخصوصاً من يظهرون ببث مباشر على تطبيق “تيك توك”، ويصل عدد مستخدمي تطبيقات التواصل الاجتماعي إلى ما يقارب 100 مليون مستخدم تتراوح أعمارهم ما بين 18 و24 سنة، كما تشير الدراسات إلى أن مستخدمي التطبيقات يقومون بإرسال حوالى 700 مليون صورة أو فيديو يومياً.

 

وتعتبر طبيبة التجميل رنا العمادي في حديث مع “بي بي سي” أنها تفكر الآن بشكل جدي بتوظيف أخصائية أمراض نفسية في عيادتها في البحرين كي تتحدث مع الأشخاص الذين يزورون عيادتها، لأنها تشعر أن لديهم نوعاً من النظرة الدونية لأنفسهم، وتضيف “كثيرون منهم لا يشعرون بالسعادة بسبب بعض ملامح وجوههم وأصبحت لديهم توقعات غير منطقية للشكل الذي يريدون أن يبدو عليه”. من هنا، وفي محاولة لمحاربة معايير الجمال غير الواقعية، وخوفاً من تعرض الشباب لاضطرابات نفسية، أصدرت الحكومة النرويجية قانوناً يلزم المشاهير الاعتراف بأي تعديل أو “فلتر” في صورهم، ويأتي هذا القرار بعد نتائج دراسة أجريت ووجدوا أن فئة الشباب تصاب باضطرابات نفسية عدة كاضطراب صورة الجسد والخجل من أشكالهم الحقيقية بعد رؤية صور المشاهير التي ربما خضعت لتعديلات كثيرة.

زر الذهاب إلى الأعلى