الشّغور الرّئاسي في لبنان بين التّضليل الإعلامي والتّجهيل السّياسي
النشرة الدولية –
النهار العربي –
ليليان قربان عقل
في ظلّ تضارب الاجتهادات الدستوريّة والمواقف السّياسية من حالة الشّغور في رئاسة الجمهورية اللبنانية التي يشهدها لبنان، وسبق أن تكرّرت، يفرض الواقع الإعلامي أن يتمّ تسليط الضوء على دور الإعلام في التعاطي مع هذا الحدث – الأزمة، وكيفيّة رسم وسائل الإعلام الاستراتيجيّة الواجب اعتمادها في هذه المرحلة الاستثنائيّة في حياتنا السّياسية.
تطوّرت حالة الشّغور في رئاسة الجمهورية اللبنانية من حيث هي (حدث استثنائي) غريب عن الممارسة الديموقراطيّة التي تحكم الدستور اللبناني بنمطه التوافقي بين الجماعات الدينيّة، إلى (وضعيّة تتكرّر) موسمياً، ويتمّ التعايش معها مع كل أزمة سياسية تبرز في استحقاق انتخاب رئيس للجمهورية، الذي يخضع لتجاذبات سياسيّة تنعكس على هيبة الدولة وتعطّل انتظام الحياة الدستوريّة.
إن لرئاسة الجمهوريّة موقعها المتقدّم في الدستور، ولها رمزيّتها في الحياة السياسية اللبنانية، لأنّ الرئيس هو رأس الدولة وهو وحده بين الرؤساء الذي يحلف اليمين الدستورية، وبالتالي لا يمكن اعتبار مبدأ (تسيير المرفق العام) ينطبق على رئاسة الجمهوريّة، كما الحال مع تصريف الحكومة المُعتبرة مستقيلة للأعمال حرصاً على تسيير الأعمال وإدارة شؤون البلاد. في ظلّ الواقع السّياسي المأزوم الذي يعيشه لبنان في هذه الفترة، يُطرح السؤال: أي دور للتضليل الإعلامي في زمن الشّغور قبل وقوعه وبعد حدوثه وعيش معاناته؟ وأين تقع مسؤوليّة النوّاب والسّياسيين والإعلاميين في هذه القضيّة، إن في حال توصيفها أو الإسهام بتسعير نارها ومحاولة تناولها بموضوعيّة ومعالجتها برويّةٍ وتقديم قراءة واقعيّة لهذه المشكلة من منظور إعلامي ومقاربة دستوريّة خفيفة. وبالتوازي مع طرح ثنائيّة (التضليل والتجهيل)، يكون الإعلامي أمام تجهيل المسؤوليّة والتنصّل من الدور، خدمة لواقع الفوضى الدستوريّة التي تتوزّع بين خطر الشّغور وأخطار الفراغ.
حالات الشّغور الرّئاسي اللبناني
بين دستور 1926 وبعد الطائف
شهد لبنان ثلاث حالات شغور رئاسية قبل الطائف:
– الشّغور الأول حصل مع استقالة الرئيس بشارة الخوري، أوّل رئيس جمهوريّة بعد الاستقلال، وأقرن تنحّيه بمرسوم تأليف حكومة ثلاثيّة انتقاليّة برئاسة قائد الجيش آنذاك اللواء فؤاد شهاب، أنيط بها الإشراف على انتخاب خلف للرئيس المستقبل، وفي اليوم السادس من الاستقالة، أي في 23 أيلول (سبتمبر) عام 1952، انتخب مجلس النواب المحامي والنائب في البرلمان كميل شمعون رئيساً للجمهوريّة اللبنانية.
– الشّغور الثاني حصل مع استقالة الرئيس فؤاد شهاب من منصبه في 20 تموز (يوليو) عام 196،0 إلا أنّ هذه الاستقالة لم تدم أكثر من بضع ساعات، وعاد عنها الرئيس نتيجة ضغط وإلحاح من مختلف الأطراف السياسيّة في لبنان للبقاء في موقعه وإكمال ولايته.
– الشّغور الثالث كان حين انتهت ولاية الرئيس أمين الجميّل منتصف ليل 22 أيلول عام 1988 من دون انتخاب خلف له، فأصدر الرئيس مرسوم تأليف حكومة عسكريّة برئاسة قائد الجيش العماد ميشال عون ضمّت أعضاء المجلس العسكري في قيادة الجيش، وعُهِدت إليها صلاحيّات الرئاسة، إلا أن الضبّاط المسلمين في الحكومة العسكرية الجديدة ما لبثوا أن استقالوا، واستمرّت هذه الحكومة مبتورة في مواجهة حكومة أخرى قائمة يرأسها الدكتور سليم الحصّ.
بعدما قلّص اتّفاق الطائف من صلاحيّات رئيس الجمهوريّة، في المادة 62 المعدّلة بالقانون الدستوري الصادر في 21/09/1990 حول خلو سدّة الرئاسة لأي علّة، كانت تُناط صلاحيّات رئيس الجمهوريّة وكالةً بمجلس الوزراء فيما كانت في دستور 1926، قبل تعديلها: “في حال خلوّ سدّة الرئاسة لأي علّة كانت تُناط السلطة الإجرائيّة وكالة بمجلس الوزراء”.
الشّغور الرئاسي بعد الطائف:
– الشّغور الأوّل الذي حصل بعد اتفاق الطائف كان عام 2007 مع انتهاء ولاية الرئيس إميل لحّود ودام ستّة أشهر، إلى أن عُقِدَ مؤتمر الدوحة في قطر، وحصلت تسوية انْتُخِبَ على أثرها قائد الجيش في حينها ميشال سليمان في 25 أيّار (مايو) عام 2008، فكان الاختبار الأوّل للمادّة 62 المعدّلة مع حكومة الرئيس فؤاد السّنيورة.
– الشّغور الأكبر حصل عندما غادر الرئيس ميشال سليمان القصر الجمهوري في 25 أيّار عام 2014، وتسلّمت حكومة تمّام سلام صلاحيّات الرئاسة مكانه، تراوح الشّغور الرئاسي مدّة عامين ونصف عام، إلى أن حصلت تسوية وانتخب الرئيس ميشال عون رئيساً للبنان في 31 تشرين الأوّل (أكتوبر) عام 2016.
غالباً ما ترافقت أزمة الشّغور الرئاسي مع خلافات سياسيّة وتضارب صلاحيّات بحسب توازن القوى الموجودة على الأرض، وغالباً ما شهدت مبادرات محليّة سياسيّة وروحيّة وتدخّلات إقليميّة ودوليّة، ويدفع المواطن اللّبناني ثمن تداعياتها على حياته اليوميّة واستقراره المعيشي.
من هذا الواقع تُطرح مسؤوليّة الاستثمار في الفراغ؟ وهل الجدل القائم حول دستوريّة اجتماعات حكومة تصريف الأعمال يدخل في إطار التضليل السّياسي وتجهيل المسبّبين والمستثمرين في الشّغور؟
وهل سيؤدي الخلاف حول تحاشي الشغور وإنهاء حالته إلى إجراء تعديل دستوري، في ظلّ مخاوف قد تنتج وتتناول الانتقال من ميثاقيّة المناصفة إلى صيغة جديدة للحكم وتوزيع القوى سياسياً وطائفياً وديموغرافياً؟
هذه القراءة الإعلاميّة تصف وتنبّه وتحمّل عواقب الشّغور للمسؤولين المسبّبين والمستغلّين لحالته من أحزاب وكتل نيابيّة وسياسيّين. فليس المطلوب من الإعلام أن يقدّم حلولاً دستوريّة لتظهير هذه الأزمة وتداعياتها، لأنّ ذلك من مسؤوليّة القوى السياسيّة والتكتّلات النيابيّة وحدها ودور الإعلام في إدارة العمليّة الإعلاميّة في زمن الشغور، لا يعدو كونه عمليّة حثّ وتشجيع للخروج من الأزمة بعيداً من تقنيّات التضليل واستراتيجيّات التجهيل مع وجوب التركيز على:
أ. أدبيّات المهنة بعيداً من التضليل والتحدّث بما لا يدخل في اختصاصات الإعلاميين المعرفيّة، وتجهيل دور الذين يتسبّبون بالشّغور وإطالة مدّته.
ب. السّلوكات الإعلاميّة والالتزام الكامل بميثاق الأخلاق الإعلاميّة، وعدم البناء على افتراضات بهدف التعطيل والتضليل وتجهيل مفتعلي أزمة الشّغور والمستثمرين في أزماته.
ويفرض هذا الواقع السّياسي المأزوم طرح سؤال أو تساؤل حول المستفيدين من حالة الشّغور، ومن يتحكّم بوضعيّات الشّغور؟
وإلى متى يمكن أن يطول زمن الشّغور؟
وهل يتحوّل الشّغور أزمة نظام ومن ثم أزمة وطن؟
وهل كل مرّة يتمّ إنهاء حالة الشّغور الرئاسي بتسوية إقليميّة دوليّة، يستتبع ذلك تعديل الدستور لانتخابات رئيس للجمهوريّة، كحالة الرئيس ميشال سليمان 2008 والرئيس ميشال عون 2016 وما قبلهما من حالات منذ إعلان الدستور اللبناني 1926 وما رافقه من تعديلات؟
إنّ ما أردنا الإلفات إليه من خلال هذا الطرح هو التركيز على الدّور المطلوب من الإعلام للقيام به في زمن الأزمات والنزاعات، وما يجب أن يقوم به الإعلام كسلطة رقابيّة وتنويريّة من خطوات للحؤول دون تدارك قاس للأمور، تجعل من وضعيّة التعايش مع الشّغور وخطر الفراغ حالة يمكن التفاعل معها دستورياً وسياسياً واجتماعياً، في ظلّ مجتمع سياسي متنوّع الانتماءات والتوجّهات والرؤى، ومنقسم شعاعياً إلى خيارات وانحيازات متنوّعة.
فإلى أي مدى يمكن للإعلام اللّبناني بكلّ أنواعه وفنونه أن يواكب حالة الشّغور برؤية موضوعيّة وواقعيّة عقلانيّة بعيداً من التّضليل والتجهيل؟
د. ليليان قربان عقل
دكتوراه في علوم الإعلام والاتصال