في الذكرى العشرين لغزو العراق.. حسبة تكاليف
بقلم: مصطفى أبو لبدة

إرم نيوز –

بوش لم يكن متحمسًا للحرب، وغزو العراق لم يكن أمرًا واقعيًا، ومع ذلك كان الرئيس مقتنعًا.

ملفين ليفلر، كتاب “مواجهة صدام حسين.. جورج بوش وغزو العراق”

في الذكرى العشرين للغزو الأمريكي للعراق (آذار 2003)، وصل إلى المنطقة وزير الدفاع الأمريكي مسبوقًا برئيس هيئة الأركان ليبلغا كلّ مَن يعنيه الأمر، أن التحشيد العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط “مستمر وله مبرره”، رغم ما يحدث في أوكرانيا وما استجد على أولويات واشنطن حول الصين في شرق آسيا.

تعبير الاهتمام الأمريكي بالمنطقة لمواجهة الإرهاب، كما استخدمه رئيس الأركان الأمريكي، له ترجمة رقمية على الأرض، تتمثل بانتشار حوالي 60 ألف جندي (بحسب آخر إحصائيات رسمية) يُشكّلون أحد مكوّنات نظام أمن إقليمي جديد يتزامن الحديث فيه مع زيارة وزير الدفاع الأمريكي، وهي التي سبقتها زيارات متتالية لثلاث قيادات أولى للأمن القومي، والاستخبارات، والسياسة الخارجية في إدارة الرئيس جو بايدن.

خلال السنوات العشرين الماضية، قِيل الكثير في توصيف الاحتلال الأمريكي للعراق، بدءًا من أنه حربٌ عالمية على الإرهاب، وتحريرٌ للشعب العراقي من الديكتاتورية، مرورًا بأنه كان استعراضًا للقوة لتعزيز موقع الولايات المتحدة كقطب أوحد للنظام العالمي، وصولًا إلى تقييم أدائه وتداعياته بأنها ذروة قائمة الإخفاقات الإستراتيجية في تاريخ العلاقات الخارجية الأمريكية.

جديدُ هذه السرديات والتقييمات، توثيقٌ أكاديمي للمؤرخ البارز للسياسة الخارجية الأمريكية، ملفين ليفلر صدر، الشهر الماضي، بعنوان “مواجهة صدام حسين.. جورج بوش وغزو العراق”.

في هذا الجهد الاستقصائي الذي استغرق عدة سنوات وتوسع في أسباب اختيار الولايات المتحدة العراق لشن الحرب عليها، ومَن كان المسؤول الأكبر عن القرار الذي نُفّذ بشكل مرتبك، عرض الباحث، وبتفاصيل ضافية “كيف قاد رئيسٌ متهورٌ ساذجٌ جاهل، (ويقصد جورج بوش الابن) بلده في طريق مدمّر؟”.

رسم الكتاب صورة ثقيلة الوطء للرئيس العراقي صدام حسين، بكونه ديكتاتورًا في العدوان والعناد، وجعلها جزءًا من التعقيدات النفسية التي كانت تطارد الرئيس بوش، وتؤثر على حساباته وعلى الإجراءات التي سار فيها قرار الاحتلال الذي كرر وصفه بأنه نتج عن مزيج الخوف والقوة مع الغطرسة التي تصنع الثقة بقدرة أمريكا على إحداث التغيير الإقليمي انطلاقًا من العراق.

توصية من بيرنز تقول إنه بعد 10 سنوات على حرب تحرير الكويت، واتفاقيات أوسلو، استهلكت واشنطن رصيدها في الشرق الأوسط، وباتت بحاجة لإعادة بناء الثقة بها.

 

ويضيف من الإضاءات الجديدة أن بوش لم يكن متحمسًا للحرب، وأن غزو العراق لم يكن أمرًا واقعيًا، ومع ذلك كان الرئيس مقتنعًا”. ويورد المؤلف في تعزيز هذه التركيبة النفس – سياسية، كيف أن وزير الدفاع دونالد رامسفيلد كان منذ اللحظة الأولى لحادث 11 سبتمبر الذي استهدف أبراج نيورك والبنتاغون، يفكر باتجاه واحد وهو غزو العراق، رغم أن كل الشواهد الاتهامية تذهب صوب تنظيم القاعدة، مقره أفغانستان.. يقول: “كان تفكير رامسفيلد يتجه مباشرة إلى صدام حسين، ويريد هدفًا واحدًا في المدى القريب، وهو “كُن جامحًا هائلًا واكتسح كل شيء.. هذا هو الشيء الوحيد الذي نحتاج تحقيقه”.

لكن بوش لم يكن يوافق على هذا التفكير، ورفض ضغوط وزير الدفاع ونائبه بول وولفويتز لملاحقة العراق في الردّ الفوري الذي كان الجميع يرونه ضروريًا لهيبة الولايات المتحدة.

ويعرض الكتاب صورة فاجعة لما وصف بالارتباك الأمريكي في التخطيط لما بعد الحرب التي دامت 8 سنوات، والتنفيذ غير الكفؤ لسياسة الاحتلال، متضمنًا تفكيك الجيش العراقي، وملاحقة حزب البعث، وإنشاء سلطة عراقية مؤقتة، وما رافق ذلك من ترتيبات طائفية وعشائرية سمَّمت العراق بديناميكيات أنتجت دولة موسومة بالفشل، ونظامًا يستنزف نفسه في التبعية القسرية لإيران التي شكل لها الغزو الأمريكي للعراق نقطة تحول حاسمة لطموحاتها الإقليمية.

كتاب “مواجهة صدام حسين”، لم يكن السردية الجديدة الوحيدة التي توجب إعادة قراءة غزو العراق، العام 2003؛ فقد نشرت مؤسسة كارنيجي الأمريكية وثائق سرية جرى الإفراج عنها تؤكد أن مؤسسة الحكم الأمريكية كانت، مع مطالع القرن العشرين، تستشعر الحاجة إلى عمل ما، تعيد فيه بناء رصيدها في الشرق الأوسط، وهو الذي كان تآكل بعد فشلها في حل القضية الفلسطينية، وفي إجبار إسرائيل على الامتثال التنفيذي لاتفاقيات أوسلو.

ومن بين تلك الوثائق السرية المفرج عنها ورقة عمل لرئيس المخابرات المركزية الحالي وليام بيرنز، الذي كان أيام حوادث سبتمبر مساعدًا لوزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط.

في تلك الورقة كانت توصية من بيرنز تقول إنه بعد 10 سنوات على حرب تحرير الكويت، واتفاقيات أوسلو، استهلكت واشنطن رصيدها في الشرق الأوسط، وباتت بحاجة لإعادة بناء الثقة بها من موقع القوة التي قال إن العرب يحترمونها وينقادون لها.

في أرقام تداعيات ما فعلته الولايات المتحدة بالعراق أن حجم الفساد في عهد النظام السياسي الذي استحدثته بلغ حتى الآن حوالي 350 مليار دولار، بموجب تقديرات رسمية.

وكان تقدير بيرنز أن المنطقة في مطالع القرن الحالي باتت منقادة للأنظمة المتشددة، وفي طليعتها نظام صدام حسين، وأنه في غياب نظام أمن إقليمي، فإن واشنطن محتاجة إلى مسار جديد تصنعه ويكون فيه العراق طرفًا أساسيًا. رؤية بيرنز، في حينه، لم تكن بعيدة كثيرًا عن دعاوى المحافظين الجدد الذين كان لمؤرخهم المعروف مايكل ليدن نظريته بأن “الولايات المتحدة تحتاج كل 10 أو 20 سنة إلى التقاط بلد صغير مجنون ورميها على الحائط.. ليس لشيء إلا لتُظهر واشنطن للعالم أنها تتابع شغلها كما يجب”.

كان خيار المحافظين الجدد مع أحداث 11 سبتمبر أن يكون العراق، والعراق تحديدًا، هو” البلد الصغير المجنون الذي جاء دوره ليرمى على الحائط”.

وقد دافع عن هذه النظرية، مباشرة بعد أحداث سبتمبر، أشهر صحفيي المحافظين الجدد، جوناه غولد برغ، الذي كتب في “ناشيونال ريفيو”، يقول إن الولايات المتحدة بحاجة إلى خوض حرب مع العراق، لأنه الطرف الشرق أوسطي الأكثر قابلية ومنطقًا لذلك.

كانت دعاوى المحافظين الجدد، كما كتبها غولدبرغ هي أن احتلال العراق سيحرره ويطلق فعالياته ليصبح يابان الشرق الأوسط، لكن الذي حصل وتراكم، على مدى السنوات العشرين الماضية، كان النقيض المطلق لكل تلك الدعاوى؛ عدد القتلى في الحرب زاد على 4700 جندي أمريكي وحلفاء، وأكثر من 100 ألف مدني عراقي، وتكاليف الصراع وصلت 800 مليار دولار من وزارة الخزانة الأمريكية، فيما لم تتوافر تقديرات متماسكة للدمار والتهجير والإنهاك الاقتصادي والاجتماعي الذي تعاقب على المنطقة بعد احتلال العراق، بما في ذلك إرهاب داعش، وفوضى الربيع العربي، التي ما زالت تتفاعل في الشمال العربي لأفريقيا.

وفي أرقام تداعيات ما فعلته الولايات المتحدة في العراق أن حجم الفساد في عهد النظام السياسي الذي استحدثته بلغ حتى الآن حوالي 350 مليار دولار، بموجب تقديرات رسمية.

وفي أرقام تداعيات ما فعلته الولايات المتحدة في العراق أن حجم الفساد في عهد النظام السياسي الذي استحدثته بلغ حتى الآن حوالي 350 مليار دولار، بموجب تقديرات رسمية.

كل هذا الذي حصل، يمكن فهمه في سياقاته، التي تجعله احتلالًا سوّغ للروس ما يفعلونه الآن في أوكرانيا.

لكن ذروة المفارقة في الذكرى العشرين لاحتلالٍ بررته واشنطن بأنه لتحرير العراق، ونشر الديمقراطية والتعددية، والتسامح في المنطقة، صدر قرار بمنع صنع أو استيراد المشروبات الكحولية، فكان اجتراحًا – بالنسبة للذين يعرفون الكيمياء العراقية، هو الأول من نوعه في التاريخ الاجتماعي والثقافي للرافدين.

Back to top button