الكبرياء الصيني» .. رحلة السعي لبناء الذات

النشرة الدولية –

الاقتصادية – أميرة حمادة –

تدفعنا الحاجة في كثير من الأحيان إلى متنفس آخر، وسبر أغوار عوالم جديدة، لم ننتم إليها يوما وإن كانت قد أسهمت بشكل أو بآخر في بناء شخصيتنا وصقلها. وربما هذا ما دفع المخرج المصري خيري بشارة إلى ولوج عالم الكتابة وإصدار أول أعماله الروائية بعد مسيرة استمرت أكثر من نصف قرن، وقف فيها خلف عدسات الكاميرا مخرجا لأهم وأعظم الأفلام المصرية الراسخة في ذاكرة السينما العربية. “الكبرياء الصيني” الصادرة عن دار الشروق، رواية مستلهمة من أحداث حقيقية بإضافة بعض التوابل الخيالية، ساعدت خبرة الكاتب السينمائية الطويلة على كيفية ابتكار الشخصيات ورسم ملامحها، وتزاوج الأحداث بين مصر والصين في تراتبية تجمع الواقع بالخيال، رواية تصلح أن تتحول إلى عمل سينمائي، فخيري بشارة الروائي تماهى بخيري بشارة المخرج وقدم لنا قصة بسيطة واقعية وسلسلة، تدور حول قدوم “يونغ” بطل صيني إلى مصر بالمصادفة، والمراحل التي عاشها خلال وجوده على أرض الفراعنة، وكيف تطورت شخصيته وتحولت من شخص هرب من الفقر، وخاض في مصر عديدا من المغامرات العاطفية والسياسية واختبر مغامرات كثيرة قبل أن ينتهي به الحال هاربا إلى التشرد من جديد باحثا عن ذاته التي أضاعتها الأعوام.

من الصين إلى مصر

تتعدد الشخصيات في هذه الرواية ويسهم حضورها في تشكيل وبناء الشخصية المحورية التي تدور القصة حولها وهي شخصية “كونغ يونغ”، الشاب الصيني الفقير الذي هجر قريته النائية وأسرته المعدمة، وسافر فوق دراجة هوائية إلى شنغهاي بحثا عن حبيبته “لونغ هو”، أول فتاة عرفها كرجل في حياته، وكانت تسعى لأن تكون نجمة أفلام أمريكية، قبل أن تختفي بطريقة غامضة، ليكتشف بعدها أنها راحت ضحية العصابة الخضراء التي قدمت جثتها وجبة لذيذة لنمر جائع. يترك “يونغ” كل ما يذكره بماضيه ويقرر الرحيل، يترك عائلته وقريته وحتى زوجته “ينغ بي” وهي في شهور حملها الأولى، بعد أن تزوج منها ليجنبها العبودية، ويقرر الهجرة إلى أميركا.

يلتقي بالصحافية “روشي” التي بدورها تنوي السفر إلى فرنسا لكي تتمكن من كتابة ما يحدث في الصين، ويصعد معها إلى ظهر الباخرة بعد أن يشترط عليه قائد السفينة القيام بأداء الأعمال الخدمية مقابل السماح له بالسفر. تخبره “روشي” بأن أمريكا أغلقت أبواب الهجرة أمام الصينيين، وحين تصل السفينة إلى بور سعيد في مصر يقرر “يونغ” التخلي عن صحبة “روشي” والنزول إلى أرض الفراعنة، لا يملك أوراقا ثبوتية ولا مالا، كل ما في جعبته، رسالة من امرأة مجهولة قابلها مصادفة في ميناء شنغهاي، وطلبت منه أن يوصل رسالتها إلى زوجها في مصر الذي انقطعت أخباره ولم تعرف عنه شيئا. وخلال رحلة بحثه عن صاحب الرسالة يتم القبض عليه وترحيله إلى القاهرة، وبعد مساعدة شاب صيني يعمل في الأزهر ينجح في استخراج أوراق هوية وتبدأ رحلته الجديدة في مصر.

المرأة في حياة «يونغ»

لعبت المرأة دورا مهما في حياة بطل الرواية وكانت سببا في هروبه من الصين كما في نجاحه في مصر، بدءا من زوجته التي تركها حبلى دون أن يعرف مصير مولوده، مرورا بالصحافية روشي التي اصطحبته معها على متن الباخرة ثم تاليا يانوفسكي ابنة تاجر التحف، وصولا إلى روزانا المصرية من أصل لبناني التي اعتنقت المسيحية من أجل الزواج بها.

يبدأ يونغ سلسلة من العلاقات أولاها مع امرأة تعمل لمصلحة الجيش الألماني، ومن خلالها يجد عملا في صالون نسائي ثم يتحول إلى تجارة التحف الصينية ثم تجارة الحرير، وتدريجيا يتعامل مع وجوه من الأرستقراطية المصرية، وطوال رحلته يتحول إلى “دونجوان” فاعل في مجتمع يعيش تحولات الانتقال من الملكية إلى الجمهورية دون أن تتفكك شبكاته القديمة تماما. وبفضل مهاراته وامتلاكه كبرياء نادرا يحظى “الأمي” الصيني بكثير من فرص النجاح وحالات الحب حيث تلعب المرأة الدور الأكبر في رسم مساراته.

الصين في عيون الكاتب

خيري بشارة لم يزر الصين يوما، لكن وأنت تتصفح روايته “الكبرياء الصيني”، تشعر كأنك ترى هذا البلد من خلال وصفه مبانيها وشوارعها ومواطنيها بشكل تفصيلي، وتطلب هذا منه جهدا كبيرا، فقد استغرق أربعة أعوام في كتابة روايته، اهتم كثيرا بالبحث والدراسة وقراءة كل ما أتيح أمامه عن تاريخ وجغرافيا الصين وعاداتها وتقاليدها، بحيث بدت روايته أكثر واقعية ونجح في نقل صورة التقطها من قراءاته عن بلد يختلف عنا في كل شيء، ما ساعده على المزج بين ثقافتين مختلفتين بأسلوب واقعي وحقيقي ينقل القارئ إلى مكان الأحداث فيشعر أنه يعرف هذا البلد جيدا ويزوره بالكلمة والقصة قبل أن يزوره بالفعل.

يتحرك خيري بشارة في روايته الأولى “الكبرياء الصيني” في فضاء جغرافي لم يقاربه السرد الروائي العربي من قبل، إذ يتخذ من الصين مكانا رئيسا لكثير من أحداثها التي تتقاطع مع وقائع رئيسة في التاريخ المصري المعاصر.

أسلوب بسيط

استفاد خيري بشارة من دراسته الأدب الإنجليزي في جامعة الأزهر بمعرفة الشروط الفنية اللازمة لكتابة رواية لجهة البناء أو القدرة على رسم الشخوص وإيجاد مبررات ودوافع تبرر أفعالها، استنادا إلى ماضيها الدرامي، ما ساعده على تقديم عمل مشوق بأسلوب سرد عادي ومبسط وهادئ. فصول الرواية كثيرة، لكنها قصيرة، وهذا مريح في القراءة. الشخصيات كثيرة أيضا، وبعضها منتم إلى السينما، كليلى مراد وفطين عبد الوهاب وبروس لي، وكان هناك تحديد دقيق للأفلام التي عرضت خلال الحقبة التي تضمنت فصول الرسالة بتواريخها، فضلا عن تفصيله المرحلة السياسية والحكم خلال تلك الحقبة وما عرفه المجتمع المصري من فساد وقتل وجرائم وقمع وعنف، وكل هذا أسهم في بناء نص جاذب وماتع يقدم معلومات بإطار روائي خيالي ينبثق من حقائق ووقائع.

الهروب إلى التشرد

بعد النجاح التجاري الكبير الذي يحققه “يونغ” ودخوله صومعة الطبقة الحاكمة بحكم عمله في بيع التحف، يطلب منه العودة إلى الصين لدعم نظام ماوتسي تونغ، وهناك يزور عائلته الأولى ويكتشف أن لديه ابنا شابا يحتل مركزا حزبيا مرموقا في إحدى القرى الصينية، لكن هذا الابن يرفض التواصل معه، ولا يسامحه على تركه والدته حبلى والهرب إلى حياة جديدة. يعود “يونغ” إلى مصر وفي رأسه أسئلة كثيرة عن الهوية والانتماء ما يدفعه ذات يوم إلى الخروج من منزله هائما على وجهه، مرتديا البيجاما والقبقاب، منطلقا في شوارع القاهرة لا يتحدث سوى لغته الأصلية الصينية قبل أن تعثر عليه عائلته، وهي في حالة من التشرد والهذيان والضياع أقرب إلى الجنون، مستعيدا شخصية ذلك المتسم بكبرياء نادر الذي اختار الابتعاد بحثا عن فرصة يحقق فيها ذاته ويبلغ آماله في العدل والحرية.

تنقل رواية “الكبرياء الصيني” خبرة إنسانية فريدة لمعنى الطموح، والسعي لبناء الذات، وتحمل هواجسها المثقلة بتساؤلات كثيرة عن الإيمان والعدل والحرية، وحق الناس في أن يعيشوا سعداء.

Back to top button