كأنه موتان… بيروت الحياة وجيزال خوري
بقلم: كارين اليان

واجهت في حياتها مصاعب كثيرة منها اغتيال زوجها الكاتب سمير قصير الذي عرف بمعارضته الشديدة للنظام الأمني اللبناني – السوري

النشرة الدولية –

اندبندنت عربية –

عن عمر 62 سنة أغمضت جيزال خوري عينيها، بهدوء وقبول لإرادة الله بعد صراع مع المرض الذي لم يفقدها يوماً إيجابيتها المعهودة، وعزمها على متابعة عملها الذي عشقته حتى اللحظة الأخيرة. خلال عامين ونصف العام لم تسمح للمرض بالسيطرة على حياتها، رافضة الاستسلام. لم تشعر أحداً بمعاناتها أو ضعفها، وبقي عملها الشغف الذي تمسكت به حتى النهاية.

مسيرة محورها الصمود

تركت الإعلامية جيزال خوري بصمة في الإعلام العربي بأسلوبها المميز في الحوار والحضور اللافت. من بداية مسيرتها المهنية في عام 1986 في المؤسسة اللبنانية للإرسال “أل بي سي آي”، استضافت أبرز الشخصيات السياسية والثقافية والفنية العربية والعالمية، خصوصاً في برنامجها الشهير “حوار العمر” الذي شكل نقطة تحول في مجال البرامج الحوارية طوال الفترة الممتدة بين عامي 1992 و2001. فكان من أبرز البرامج التي قدمتها في تلك الفترة، إضافة إلى مجموعة من البرامج الثقافية والوثائقية والسياسية. وحققت نجاحات وضعتها بين أبرز الصحافيات العربيات. رفعت جيزال راية بيروت ملتقى الثقافات وكانت جزءاً من انتفاضة المدينة في التسعينيات، بعد 15 سنة من دوامة الدمار التي عصفت بالعاصمة اللبنانية. قاومت جيزال لبيروت الحريات على رغم ما أصاب المدينة في السنوات الأخيرة من ذبول واختناق. كأن إعلاناً عن موتين حصلا في 15 أكتوبر (تشرين الأول) الجاري: بيروت الحياة وحياة جيزال.

في الحوار الأخير لها مع الإعلامي ريكاردو كرم قبيل أسبوعين من وفاتها، أشارت الإعلامية الراحلة إلى أن أغنيتها المفضلة للسيدة فيروز “منكمل بيللي بقيو” كونها تعكس كل معاني العنفوان والإصرار على متابعة الطريق على رغم الصعاب. ولعل كلمات الأغنية تشبه فعلاً حياتها وشخصيتها التي لا تعرف الهزيمة ولا الضعف. فحتى اللحظة الأخيرة، لم تفارق الابتسامة وجهها، وبقيت الوجه المشرق والمضيء لكل من عرفها، تزود كل من حولها بالإيجابية والتفاؤل، على رغم الألم والتحديات التي حفلت بها حياتها، هذا ما يؤكده صديقها المقرب من أيام الجامعة الذي رافقها في العمل في “أل بي سي آي” الصحافي عماد موسى، فيصفها بـ”امرأة التحديات”.

وعلى رغم علاقتهما المقربة طوال هذه السنوات، لم يشهد لها لحظات من الضعف، حتى في فترات المعاناة التي عاشتها في مراحل عديدة من حياتها. من مرض والدها ووفاته في سن مبكرة، ثم وفاة شقيقها الوحيد التي شكلت ضربة قاسية لها، وصولاً إلى مقتل رفيق دربها الكاتب سمير قصير الذي اغتيل بتفجير سيارته، لم تتهاون يوماً في أي ظرف من الظروف.

يستعيد عماد موسى رحلة من العمر المهني معها ويقول “تميزت جيزال بجمال الإطلالة على الشاشة. كانت الكاميرا تعشقها. وعلى رغم المرض كانت تقاوم بكل ما فيها من قوة، فتتحسن حالتها حيناً وتتراجع أحياناً، لكنها تمسكت بعملها كسلاح في مواجهة المرض. واستمرت بإجراء الحوارات التلفزيونية حتى تدهورت حالتها قبيل شهر من وفاتها، مما أرغمها على العودة نهائياً إلى لبنان، حيث رحلت محاطة بأفراد عائلتها، وبابنها مروان وابنتها رنا. علماً أن ظروف العمل كانت قد فرضت عليها العيش خارج لبنان من عام 2013، لكن بقيت حريصة على تنظيم جدول أعمالها بشكل يسمح لها القيام بزيارات مستمرة إلى بيروت التي كانت لها مكانة خاصة في قلبها”.

بقيت الإيجابية ميزة من ميزات جيزال خوري في مقابل شخصيتها الصلبة التي ميزتها في حياتها الخاصة كما في الإعلام. وهذا ما بدا واضحاً في مقابلاتها. منحتها فرنسا وسام جوقة الشرف من رتبة “فارس”، وكانت “أيقونة الشاشة” كما وصفتها قناة “أل بي سي آي” عندما نعتها في مقدمة نشرة الأخبار.

راية سمير قصير

مقتل رفيق دربها المعارض للنظام الأمني اللبناني – السوري سمير قصير لم يضعفها، بل على العكس زادت عزماً، ومدت كل من حولها بالقوة. بدت بعد اغتياله بعبوة ناسفة امرأة متماسكة وقوية ترفض الاستسلام للحزن واليأس. كانت لها قدرة لافتة على امتصاص الضغوط والمضي قدماً تاركة المآسي وراءها. واللافت أنها لم تتحدث يوماً وكأن سميراً قد رحل على رغم قسوة التجربة. وبعد رحيله تابعت المسيرة مدافعة عن الحريات في كل لحظة من حياتها. وأسست “مؤسسة سمير قصير” و”حديقة سمير قصير” ومركز “سكايز” للدفاع عن الحريات الإعلامية والثقافية.

بالنسبة إلى صديق العمر الصحافي جاد الأخوي، جيزال أكثر من أخت وصديقة وزميلة، ويعبر عن ألمه مع ما يخلفه ذلك من إحساس بالذنب، لأنه لم يتمكن من حمايتها، ليفي بالوعد لسمير قصير الذي أوصاه بها قبل وفاته، إذا ما أصابه مكروه. “في فترة المرض، كانت جيزال تبذل مجهوداً جباراً للعمل والسفر حتى في فترات العلاج. أرادت أن تستمر الحياة على رغم المرض الذي أنهكها وقد أعلنت عن إصابتها به للمقربين فقط. وحتى اللحظة الأخيرة، وأثناء وجودها في المستشفى، كانت تؤكد أنها ستخرج وتتابع حياتها، وإن كانت في الأيام الأخيرة قد أدركت أن النهاية اقتربت”.

يذكر الإعلامي يزبك وهبه أنه التقاها عندما انضم إلى أسرة “أل بي سي آي” في عام 2002، لكنها غادرت بعد نحو شهرين. يصفها بالقيمة الكبيرة وأن مهنيتها العالية تستحق أن تدرس في معاهد الإعلام. هي أول من أدخل مفهوم البرامج الثقافية إلى الإعلام في لبنان، واستضافت رؤساء وقادة في القنوات المختلفة التي عملت فيها وآخرها “سكاي نيوز عربية” في برنامجها “مع جيزال”، وفي برنامج “المشهد” على “بي بي سي”، و”بالعربي” و”استوديو بيروت” على قناة “العربية”. يقول يزبك وهبه “إن جيزال لا تعرف الحقد، وحرصت على محاورة الكل من دون تمييز”. وعندما التقاها للمرة الأخيرة في العام الماضي في جلسة مطولة في اليونان، كان بينهما حديث مطول عن دور الإعلام في لبنان. وكانت حينها تعاني المرض، لكنها آثرت عدم الحديث عنه، مصرة على الاستمرار بالعمل حتى اللحظة الأخيرة. ولعلها كانت تجد في عملها متنفساً لها فيعطيها دفعاً لتستمر في مكافحة المرض. “هي قدوة للإعلاميين كافة ولجيل المستقبل بمهنيتها واحترافيتها وصدقها وبساطتها وبحثها الدائم عن الحقيقة، وأيضاً بالاتزان الذي تميزت به، وعلى رغم النجاحات التي حققتها حافظت على تواضعها وقربها من الناس كافة”.

Back to top button