مزارع الرياح البحرية بين السياسة والواقع
بقلم: أنس بن فيصل الحجي

خسائرها تعد بالمليارات وكثير منها أغلق ومتخصصون يعلنون انهيار الصناعة

النشرة الدولية –

كما ذكرت في مقالات سابقة العالم بحاجة إلى كل مصادر الطاقة بما في ذلك الطاقة المتجددة، وكل أنواع التقنية التي تسهم في زيادة الكفاءة في إنتاج الطاقة واستهلاكها، وكل تقنيات المواصلات بما في ذلك السيارات الكهربائية والهيدروجينية.

 

وتشير دلائل كثيرة إلا أن أكبر خطر على أمن الطاقة في أي بلد هو تدخل السياسيين واختيار التقنية التي يريدون بغض النظر عن إمكان تطبيقها على نطاق واسع أو تكاليفها وبغض النظر عن آثارها السلبية.

 

ونتج من تدخل الساسة والدعم الحكومي الضخم لتقنيات معينة أن الصناعة المعنية أخذت جزءاً من الدعم الحكومي وأنفقته على لوبيات ومجموعات دعم كي يستمر الدعم الحكومي، وهذا تطلب تكوين لوبيات مهمتها مهاجمة صناعة النفط والغاز والطاقة النووية!

 

هنا لا بد من الإشارة إلى أن الطاقة المتجددة تتلقى أكبر دعم حكومي ضمن كل مصادر الطاقة الأخرى، وأن تقارير صندوق النقد الدولي عن الدعم الحكومي الهائل للنفط والغاز والفحم (أو ما يسمى خطأ وإجحافاً الوقود الأحفوري) تقارير مضللة لأنها تفترض أنه يجب فرض ضرائب كبيرة على هذه الأنواع من الوقود، ولكنها غير موجودة ومن ثم تعتبرها إعانات.

 

بعبارة أخرى، هم اخترعوا ضريبة بناء على تقديراتهم، وبما أن هذه الضريبة لم تفرض فهي إعانة، وتناسوا حقيقتين مهمتين وهي أن الضرائب التي تدفعها صناعة النفط العالمية للحكومات تبلغ مئات المليارات سنوياً، بينما تحصل صناعة الطاقة المتجددة على إعانات من دون دفع ضرائب لأنها تخسر ولا تحقق أرباحاً.

 

الحقيقة الثانية أن كل الدول المتقدمة تفرض ضرائب عالية جداً على استهلاك الوقود، بخاصة البنزين والديزل، وتحصل هذه الحكومات على أكثر من 500 مليار دولار سنوياً. باختصار، صناعة الطاقة المتجددة تستنزف ميزانيات الدول بينما يدعم النفط والغاز والفحم هذه الميزانيات.

 

وفي هذا السياق لا بد من ذكر أن النرويج تتوسع في إنتاج النفط والغاز وتحقق إيرادات ضخمة تستخدمها في دعم الطاقة المتجددة والسيارات الكهربائية، كما قامت بريطانيا بفرض ضرائب أرباح استثنائية على شركات النفط في بريطانيا لاستخدام تلك الأرباح في تقديم الإعانات لاستهلاك الطاقة.

 

مشكلات مزارع العنفات الهوائية

 

قدمت كثير من الدول الغربية دعماً ضخماً لمزارع طاقة الرياح لدرجة أنها انتشرت انتشاراً كبيراً في بعض المناطق، وأصبحت تفي بجزء كبير من الطلب على الكهرباء، ونتج من ذلك نمو مطرد في أعداد الشركات وأحجامها، وتشكلت شركات عالمية متخصصة في هذا المجال.

 

مع التوسع الكبير في طاقة الرياح توسع تعارض المصالح في استخدام الأراضي، ففي الوقت الذي ترغب فيه شركات طاقة الرياح تحويل أراض زراعية إلى مزارع رياح، يرفض المزارعون التخلي عنها، أو يرفض أصحاب مزارع الأبقار التخلي عنها، أو تتعارض مع مصالح شركات العقار، كما رفض سكان مئات القرى والمدن في أميركا الشمالية وأوروبا بناء مزارع رياح بالقرب من منازلهم بسبب منظرها غير المناسب أو أصواتها أو اهتزازها، كما انخفضت أسعار البيوت والمزارع القريبة من مزارع الرياح.

 

نتج من المعارضة الشديدة لمزارع الرياح لجوء الشركات والحكومات لبنائها في البحار، بعيداً من الأراضي وكل السلبيات التي اشتكى منها الناس، وتم بناء مزارع ضخمة في عدد من الدول، وفجأة، انهار كل شيء.

 

في الأسبوع الماضي أعلنت شركة “أورستيد” النرويجية عن خسائر بقيمة أربعة مليارات دولار في الأشهر التسعة الأولى من هذا العام بعد انسحابها من مزرعتين لطاقة الرياح في البحر أمام ولاية نيوجرسي، وحسب الخطة، كان من المفروض أو يولد كلا المشروعين كهرباء تكفي لمليون منزل.

اقرأ المزيد

ونتج من هذه الخسائر انخفاض أسهم الشركة بنحو 60 في المئة من أعلى مستوى لها إلى أكثر مستوى انخفاض لها هذا العام. وهناك احتمال كبير أن تقوم شركات تصنيف الائتمان بتخفيض تصنيف الشركة، الأمر الذي قد يزيد من صعوبة الحصول على تمويل أو ارتفاع تكاليف التمويل.

 

كما أقرت شركتا “بي بي” البريطانية و”إكوانور” خسائر تتعلق بمشاريعها البحرية الأميركية. شركة “بي بي” انسحبت من ثلاثة مشاريع بحرية أمام ولاية نيويورك وقررت احتساب خسائر بـ540 مليون دولار، و”إكوانو”ر كانت شريكة لـ”بي بي” في أحد المشروعين وقررت خصم 300 مليون دولار كخسائر.

 

في الشهر الماضي قررت شركة “أفان غريد”، التابعة لشركة “إبردرولا” الإسبانية، الانسحاب من مشروع مقابل شواطئ ولاية كينيتيكت الأميركية وألغت عقد بيع الكهرباء لعدم جدوى المشروع، كما ألغت شركة “ساوث ويست ويند” مشروعاً آخر وعقداً مع ولاية ماساتشوستس لبيع الكهرباء من المشروع.

 

في بريطانيا، توقفت شركة “فتن فول” السويدية عن بناء مزرعة رياح بحرية. كما عانت شركة “سيمنس” الألمانية خسائر فادحة قد تصل إلى خمسة مليارات دولار بسبب مشكلات في العنفات التي صنعتها الشركة، وعلى رغم  أن هذا مرتبط بالعنفات البرية، إلا أنه أثر بشكل غير مباشر في الاستثمار بتصنيع العنفات البحرية.

 

أسباب التراجع

 

اعتبر بعض الخبراء ما حدث انهياراً للصناعة، ويعتقدون أن الحكومات، بخاصة إدارة بايدن، ستقوم بدعم الشركات لمنعها من الإفلاس، ولكن نجاح بعض المشاريع يجعلنا نشير إليه على أنه تراجع عن الخطط.

 

الإشكالية الأساسية المتعلقة بالطاقة المتجددة بشكل عام هي رغبة السياسيين نقل نجاح المشاريع الصغيرة إلى نظيرتها ضخمة، ولكن ليس كل التقنيات يمكن استخدامها بهذا الشكل، وهناك حجم أمثل لبعض المشاريع يتطلب أن تكون هذه المشاريع صغيرة، إذا الخلاف ليس على جدوى مزارع الرياح، ولكن على إمكان توسعتها وتكبيرها من جهة، ووضعها في أماكن مختلفة من جهة أخرى. عرفنا أعلاه أن مشكلة شركة “سيمنس” فنية تتعلق بالتصنيع، وهذا يؤكد الفكرة أن هناك حدوداً تقنية لا تخضع للسياسة.

 

هناك ثلاث مشكلات أساسية أدت إلى التراجع أعلاه:

 

1- وقعت أغلب هذه العقود قبل فترة كورونا والإغلاقات التي نتجت منها. وعندما عادت الشركات بعد الانفتاح لبناء هذه المشاريع كانت هناك مشكلات كبيرة في سلسلة الإمدادات فارتفعت التكاليف بشكل كبير.

 

2- نتج من عمليات الإنقاذ الاقتصادي الضخمة وزيادة الإنفاق الحكومي وتقديم إعانات جديدة ارتفاع مستويات التضخم، في وقت كان فيه نقص في المعروض بسبب مشكلات في سلاسل الإمداد أو توافر العمالة الماهرة.  نتج من هذا ارتفاع كبير في التكاليف لم يكن محسوباً من قبل.

 

3- نتج من الارتفاع الكبير في معدلات التضخم قيام البنوك المركزية، بخاصة الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، برفع أسعار الفائدة بشكل كبير.  العقود الأصلية كانت تفترض أسعار فائدة منخفضة، وما كانت تنوي توقيعه أو المخطط له لم يعد مجدياً في ضوء أسعار الفائدة الجديدة. هذا أيضاً أسهم في رفع التكاليف بشكل كبير، وهو الذي أجبر الشركات المذكورة أعلاه على المطالبة بتغيير العقود، ورفع أسعار الكهرباء بشكل كبير، وهو الأمر الذي رفضه صانعو السياسات في هذه الولايات، فانسحبت الشركات.

 

خلاصة الأمر أن سياسات التغير المناخي تضخمية وتكاليف إنتاج الكهرباء من الطاقة المتجددة أعلى بكثير من المعلن، والسبب الرئيس أن الخسائر المذكورة أعلاه لا تحسب ضمن تكاليف المشاريع المتبقية، كما أن أي إعانات حكومية لمنع هذه الشركات من الإفلاس، لا تحسب أيضاً.  ونظراً لفشل المشاريع البحرية أو تأخرها، فإن الطلب على الغاز والفحم سيزيد الأمر الذي يحتم تبني الطاقة النووية.

زر الذهاب إلى الأعلى