خرْق التاريخ في المكان الغلط
بقلم: مصطفى أبو لبدة
إرم نيوز –
لو لم يكن جاريد كوشنر صهرًا للرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، ولولا أنه كان ذات يوم في صباه تخلى عن سريره وانتقل إلى الطابق السفلي في منزل والده، تشارلز كوشنر، لكي يبيت لديهم بنيامين نتنياهو، لكان يمكن لكتاب ”خَرْق التاريخ“ الذي سينشره كوشنر في الثالث والعشرين من الشهر الحالي (وجرى تسريبه وتعميمه ”بي دي أف“) قبل أيام، أن يوصف بأنه شهادة نموذجية في تمسيخ الرجلين، ترامب ونتنياهو.
فيه عرض كوشنر كيف أن العلاقة بين الرجلين بدأت بتحالف غذّته خصومة نتنياهو المعروفة مع باراك أوباما، لينتهي هذا التحالف بعد 4 سنوات بقطيعة شخصية لم يتورّع فيها ترامب عن أنْ يرشق نتنياهو بشتيمة الحروف الأربعة، كونها الأكثر شيوعًا في اللغة السوقية الأمريكية.
قصة الخلاف بين ترامب ونتنياهو، كما وثقّها كوشنر، هي قصة ”صفقة القرن“، التي كان يحلم ترامب بأنها ستخلّده كصانع للمعجزة وكاسر للتاريخ، لكنها انتهت بحيازة العدد القياسي من الأوصاف السلبية الشائنة.
في التفاصيل الجديدة التي يكشفها كوشنر، باعتبار أنه كان المفوّض الرئاسي بالإشراف على صياغة خطة التسوية في الشرق الأوسط المسماة ”السلام من أجل الرفاه“، نقطتان تنتهيان عند القناعة التي تتجدد مع طيّ كلّ مشروع سلام إقليمي، وهي أن الشرق الأوسط أكثر وأعقد من مجرد عملية حسابية تتم بالجمع والطرح والضرب والتقسيم.
في المعلومة الجديدة الأولى، أن الرئيس الأمريكي ترامب كان على وشك إلغاء قراره الذي أصدره، في 6 ديسمبر 2017، واعترف فيه بالقدس عاصمة لإسرائيل، بسبب عدم مبالاة نتنياهو رئيس الوزراء الاسرائيلي بهذه الخطوة.
يروي كوشنر أن مكالمة هاتفية متوترة جرت بين ترامب ونتنياهو قبل يوم من إعلان القرار..
في الحديث قال ترامب إنه سينقل السفارة الأمريكية للقدس، ليأتيه جواب نتنياهو باردًا: ”إذا اخترتَ ذلك سأؤيدك“، وهو جواب صدم ترامب كونه أقل حماسة مما كان يتوقع، وجعله يشكّ بأن نتنياهو لم يفهم تمامًا تداعيات نقل السفارة واعتراف الولايات المتحدة بالقدس عاصمة لإسرائيل.
مرة أخرى ردّ نتنياهو على عرض ترامب بحماس أقل من المتوقع، وهو ما جعل كوشنر يتصور أن ترامب أصيب يومها بإحباط جعله لاحقًا يقول لنتنياهو: ”أنت شخصيًا جزء من المشكلة.. مشكلتنا في الشرق الأوسط“.
لم يعرض كوشنر تفسيرًا متماسكًا للذي حصل بشأن موضوع القدس. لكنه توسع في أكثر من موقع من مذكراته بسرد تفاصيل ما حصل بشأن صفقة القرن، وكيف أنها شهدت – منذ لحظة إعلانها – استقواءً من طرف نتنياهو حاول به توظيف المبادرة الأمريكية لأجندات معظمها شخصي تتعلق بالانتخابات وبعضها رفضٌ إيديولوجي لفكرة الدولة الفلسطينية حتى وإن كانت دولة شكلية.
ويكشف كوشنر كيف أن السفير الأمريكي في إسرائيل ديفيد فريدمان، كان يتصرف وكأنه يمثل نتنياهو أكثر مما يمثل ترامب.
ذروة المفارقة السياسية في الخلل الذي قتل صفقة القرن من لحظتها الأولى، عرضه كوشنر في تفاصيل ما حصل في لقاء البيت الأبيض الذي ظهر فيه ترامب ونتنياهو، يوم 29 يناير 2020، وتحدثا عن مشروع السلام الذي تبرع نتنياهو بوصفه ”صفقة القرن“.
يروي كوشنر أن خطة السلام التي كان أعدّها هو، وعرض ترامب في اللقاء بعض تفاصيلها، تمنح إسرائيل السيطرة الكاملة على المستوطنات والقدس كعاصمة غير مقسّمة، لكنها تتضمن دولة فلسطينية كان كوشنر يشعر سلفًا أن رئاسة السلطة الفلسطينية سترفضها وأنها اشترطت للتفاوض عليها بمرونة، أن تتسلم من إسرائيل خريطة جغرافية بشأن الدولة المقترحة.
لكن الذي حصل في المؤتمر الصحفي بالبيت الأبيض وسمّم ”الصفقة“ منذ اللحظة الأولى، هو أن نتنياهو تصرف وتحدث عن خطته هو لضم الضفة الغربية ووادي الأردن والمستوطنات، وفعل ذلك دون دعم البيت الأبيض.
يروي كوشنر كيف أنه كان يشدّ بقبضة يده على الكرسي وهو جالس يستمع لنتنياهو يعرض ما يريده هو وليس ما تم الاتفاق عليه مع الولايات المتحدة..
ويضيف أن ترامب، الذي خرج غاضبًا من المؤتمر، وصف خطاب نتنياهو بأنه ”بيان انتخابي يشيع الإحساس بالقذارة“، وسأل إن كان على واشنطن أن تردّ على نتنياهو بدعم منافسه في الانتخابات، بيني غانتس.
يقول كوشنر إن خطة السلام الأمريكية كانت تتضمن إقامة دولة فلسطينية منزوعة السلاح وفق جدول زمني على مدى 4 سنوات، لكن نتنياهو ألغى الجدول الزمني من خطابه، وماطل في تنفيذ الخريطة المشتركة المفترضة للمناطق التي سيجري ضمها، كما مضى منفردًا في موضوع الضم على نحو هددت معه واشنطن بتأييد أي إدانة وعقوبات دولية على إسرائيل في الأمم المتحدة.
عند هذه النقطة من تحمير العين الأمريكية، شعر نتنياهو أن الضم ّسيكون مكلفًا للغاية بالنسبة له؛ فقد تبين أن الولايات المتحدة لم تكن وحدها التي هددت نتنياهو بالعقوبات الدولية، بريطانيا أيضًا حذرت من أنها ستعترف بفلسطين كدولة ذات سيادة إذا حدث الضم، وهو سر أيّده كوشنر..
لكن المفاجأة – كما عرضها في مذكراته – تمثّلت في أنه ردّ على التهديد البريطاني لإسرائيل بأن عاود شخصيا الدفاع عن ضم تل أبيب للأراضي الفلسطينية وبرر هذا التذبذب والمراوحة بأنه كان محاولة لمنع المسؤولين البريطانيين من معرفة شيء عن المحادثات السرية التي كانت تجري بشأن الاتفاق الإبراهيمي.
عرض كوشنر أيضًا كيف أن الاتفاق الابراهيمي الذي كانت أحد شروطه العربية أن يتخلى نتنياهو عن ضم الأراضي الفلسطينية، هو الذي شكّل نهاية إجرائية لما كان بقي من صفقة القرن التي وصفتها مجلة ”إيكونوميست“ بـ“سرقة القرن“.
ملاحظتان أقرب للطرافة تحتسبان لمناقبية كوشنر، تضمّنتهما مذكراته التي ربما حمّلها أكثر مما تحتمل عندما وصفها بأنها ”خرق للتاريخ“، فقد جاءت المذكرات وكأنها أقرب لأن توصف بالخرق في المكان الغلط.
في الأولى كشف كوشنر أن ترامب فضح ابنته إيفانكا بالقول إنها كانت على علاقة مع نجم كرة القدم المشهور توم بريدي..
روى أنه عندما اتصل بترامب ليبلغه رغبته بالزواج من إيفانكا، كان جواب ”العم ترامب“ أن الصبية على علاقة مع شخص آخر، وكان غرض ترامب من فضح هذا السر العائلي ترهيب كوشنر قبل أن يصبح جزءًا من الأسرة.
في الملاحظة الثانية يعترف كوشنر أن طبقة السياسيين في الولايات المتحدة، وفي مقدمتهم الرؤساء، تمتهن إفساد البلاد، لكن بدرجات متفاوتة.
يروي في مذكراته أنه عندما أطلق ترامب حملته الانتخابية، العام 2015، تعرض لانتقاد متجدد من قطب الإعلام اليميني، روبرت ميردوخ، مالك مؤسسة ”نيوز كروب“ التي تحوز قناة ”فوكس نيوز“ وصحيفة ”وول ستريت جورنال“.. ولأن معاداة ميردوخ شيء لا يحتمله ترامب، فقد تبرع صهره كوشنر أن يتوسط بينهما، وبطريقة تستحق التسجيل.
يروي أنه في جلسة المصالحة مع ميردوخ لم يجد أفضل من أن يكون صريحًا واضحًا حد الاختراق، حيث قال لميردوخ: ”اسمع.. ترامب يريد أن يكون رئيسًا، هو لايحتاج لطائرة أفضل، فلديه طائرة جميلة، لا يحتاج إلى منزل أجمل، لا يحتاج إلى أي شيء.. لقد سئم ترامب من مشاهدة السياسيين وهم يفسدون في البلاد، ويعتقد أن بإمكانه فعل ذلك بطريقة أفضل“.
كوشنر في مذكراته صوّر ”صفقة القرن“ بأنها كانت محاولة في سياقات خرق التاريخ، لكنه اعترف بأن الخرق جاء في المكان الغلط.