توتر العلاقات الأميركية السعودية: واشنطن تقع في شر أعمالها
بقلم: د. سنية الحسيني
النشرة الدولية –
كشف قرار «أوبك +» الأخير مطلع الشهر الماضي بشأن تخفيض ضخ ٢٪ من النفط إلى السوق العالمي، على غير الرغبة الأميركية، والطلب الأميركي الصريح ذلك من المملكة العربية السعودية، عن حجم التوتر الذي سيطر على علاقة البلدين الحليفين. وعلاقة البلدين الإستراتيجية ممتدة منذ عقود طويلة، وتقوم على أساس تبادل المصالح في الأساس وفق معادلة النفط مقابل الأمن. ورغم مرور هذه العلاقة بأزمات في الماضي، على رأسها قطع النفط الخليجي عن الولايات المتحدة خلال أزمة حربي عام ١٩٦٧ و١٩٧٣ وكذلك تطورات أحداث الحادي عشر من أيلول عام ٢٠٠١، الا أن مصالح البلدين المتبادلة سمحت بتجاوزها. أما هذه المرة، فقد اختلفت طبيعة الأزمة بين البلدين، والتي بدأت منذ عهد الرئيس الديمقراطي باراك أوباما، عندما قررت الولايات المتحدة من طرف واحد تخفيض ارتباطاتها ومسؤولياتها الأمنية بالمنطقة لصالح التركيز على آسيا للتصدي لنفوذ القطب الصيني الصاعد على حسابها. لم يخف الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن توجهاته بالنأي بالنفس بعيداً عن التزاماته تجاه حليف الماضي، خصوصاً بعد أن قل اعتماده عن النفط السعودي، وبعد أن ربط المعادلات الأمنية بالمنطقة بين حلفائه ضد إيران من جهة ومع إسرائيل من جهة أخرى. هاجم بايدن النظام السعودي واتهمه بانتهاكات حقوق الإنسان، وأوقف العام الماضي دعم التحالف في اليمن، ورفع الحوثيين عن قائمة الإرهاب، ووضع ضوابط على إرسال الأسلحة للمملكة وعين مبعوثاً خاصاً لليمن، وعمل على إنهاء حصار المناطق الواقعة تحت سيطرة الحوثيين.
لقد وضعت الحرب الروسية الأوكرانية الولايات المتحدة في موقف لا تحسد عليه، بعد أن اضطرتها للعودة لحليف الأمس، فالحاجة للطرف السعودي خصوصاً بفضل مكانته في تحالف أوبك + الذي يتحكم بواردات وأسعار النفط عالمياً، وتأثير المملكة على باقي دول الخليج الشريكة في التحالف أيضاً، يفسر زيارة بايدن للمملكة في شهر أيار الماضي. هل يمكن للملكة العربية السعودية اليوم أن تثق بالولايات المتحدة، التي تخلت عنها أولاً وعن المنطقة عموماً، وتسببت في خلق أزمة اقتصادية وأزمة طاقة لحلفائها الأوروبيين الذين استجابوا لاستراتيجيتها في مواجهة روسيا خلال الحرب الدائرة، على حساب مصالح المملكة؟ ويبدو جلياً أن من مصلحة الدول الأعضاء في تحالف أوبك + الحفاظ على توازن سوق النفط العالمي، وذلك بخفض ضخ النفط إلى الأسواق العالمية، للاحتفاظ بأسعاره مرتفعة، الأمر الذي يضمن تدفق مكاسبها ومواصلة نموها الاقتصادي، وهو ما حققته هذه الدول بالفعل بما فيها المملكة خلال العام الجاري بفضل ارتفاع أسعار النفط. على الجانب الآخر، تريد الولايات المتحدة من منظمة أوبك + ضخ مزيد من النفط إلى الأسواق العالمية من أجل خفض أسعاره لمساعدة نفسها والدول الأوروبية على تجاوز أزمتها الاقتصادية بتصاعد حالة التضخم، والتي نتجت عن الحرب وارتفاع الأسعار ورفع البنوك الأميركية والأوروبية لنسبة الفائدة. وزادت تكاليف المعيشة في الدول الأوروبية هذا العام بنسبة ٧٪ مقارنة بالعام الماضي، ومؤهلة لتزيد بنسبة ٩٪ خلال العام القادم في حال استمرت الحرب. كما اعتبر البنك المركزي الأوروبي أن آفاق النمو الاقتصادي في منطقة اليورو تتراجع، ويتجه التضخم إلى الارتفاع، ناهيك عن الخلافات التي بدأت تظهر بين أقطاب الاتحاد الأوروبي خصوصاً الألماني والفرنسي، والتي أثارت التكهنات بإمكانية انشقاقه، حتى أن مستويات الدين القومي الأميركي وصل خلال هذه الفترة لمستويات غير مسبوقة متجاوزاً ٣١ ترليون دولار.
رغم تهديدات الولايات المتحدة للسعودية، والتي جاءت في أعقاب قرار تحالف الأوبك + سابق الذكر مطلع الشهر الماضي، والتي تعكس حالة غير متزنة تمر بها الولايات المتحدة في تعاملها مع حلفاء الماضي، وواقعاً سياسياً دولياً مختلفاً عن العهد الماضي القريب، يرسخ مقاربة اقتراب بزوغ مرحلة القطبية المتعددة الأقطاب، الا أن الولايات المتحدة لن تقوى على تنفيذ تهديداتها ضد السعودية، على الأقل خلال استمرار الحرب الدائرة في القارة العجوز، كما قد يجعلها تعيد حساباتها كاملة تجاه منطقة الشرق الأوسط ودولها. وهددت الولايات المتحدة السعودية بإعادة النظر في علاقاتها السياسية والعسكرية وإمكانية إقرار قانون (NOPEC) الذي يسمح للإدارة الأميركية برفع الحصانة القضائية عن الشركات الدولية المرتبطة بمنظمة أوبك في الولايات المتحدة، ومحاكمتها بتهم تتعلق بالاحتكار. وهناك العديد من الأسباب التي قد تمنع الولايات المتحدة تنفيذ تهديداتها سابقة الذكر ضد المملكة. إن انسحاب الولايات المتحدة من المنطقة والتخلي عن حلفائها من شأنه أن يفتح الباب بشكل أوسع للصين وروسيا كي تحل محلها في تحالفها مع دول مركزية في الشرق الأوسط كالعربية السعودية، والتي بدأت بالفعل تنسج علاقات استراتيجية مع دول عربية أخرى في منطقة الشرق الأوسط بالإضافة للمملكة. إن غياب الولايات المتحدة عن المنطقة وخسارة حلفائها من دول الخليج في الوقت الراهن قد يؤثر سلباً على المعادلة الأمنية التي رسمتها الولايات المتحدة للمنطقة، وذلك بخلق تحالف عربي سني مع إسرائيل ضد التحالف الشيعي الإيراني، اذ إن تغير تحالفات المملكة واقترابها من الصين وروسيا، حلفاء إيران، وفي ظل عدم قبول المملكة ودول أخرى في المنطقة بالتحالف رسمياً مع إسرائيل قد يقلب المعادلة الأمنية التي خططت لها الولايات المتحدة منذ سنوات، ولغير صالح إسرائيل حليفتها الاستراتيجية الثابتة. كما تعتبر المملكة أكبر مصدر للنفط للولايات المتحدة من بين دول منظمة الأوبك بنسبة تصل الى ٥٪ من اجمالي واردات النفط المتجهة للولايات المتحدة عموماً، و٦٪ من وارداته من النفط الخام، كما تأتي أن ٨٪ من واردات الولايات المتحدة من النفط تأتي من دول الخليج العربي الحليفة للمملكة، و٩٪ من وارداته من النفط الخام أيضا تأتي من تلك الدول. وتحتضن المملكة العربية السعودية حوالي ٧٠ الف أميركي يعملون في الولايات المتحدة، وتوجه ربع مجمل مبيعاتها في العالم إلى المملكة العربية السعودية، كما تمتلك السعودية في الولايات المتحدة سندات بقيمة ١١٩ مليار دولار، قد تستخدمها المملكة إذا فعّلت الولايات المتحدة قانون (NOPEC)، والذي يبدو أن إدارة بايدن تسعى لإقراره لتستخدمه ورقة لمساومة المملكة أكثر من تنفيذه.