فتوى محكمة العدل الدولية: ما الذي يقلق إسرائيل؟
بقلم: د. سنية الحسيني
النشرة الدولية –
تتجه المساعي الفلسطينية لاستفتاء محكمة العدل الدولية حول طبيعة الاحتلال الإسرائيلي المستمر، ومدى شرعيته، ودور المجتمع الدولي عموماً والمنظمة الأممية خصوصاً في ممارسة دورها الأساس الذي جاءت من أجله: «تحقيق الأمن والسلم الدوليين» في ظل استمرار الاحتلال الإسرائيلي وتصاعد تبعاته. وتحارب إسرائيل وحليفتها الأميركية صراحة هذا التحرك الفلسطيني وتسعى لتقويضه، فتعج وكالات الأنباء والمواقع الصحافية والإخبارية بأخبار تتعلق بتهديدات ووعود وضغوط، توجه في الأساس إلى الفلسطينيين لإجبارهم على التراجع عن هذه الخطوة، كما توجه عموماً لدول العالم للتصويت السلبي في الأمم المتحدة لإحباط وصول هذه القضية للمحكمة الدولية. وتشير نتيجة التصويت في اللجنة الرابعة التابعة للجمعية العامة، حول إحالة ذلك المشروع للجمعية العامة للتصويت عليه الشهر القادم إلى شدة هذه الضغوط الموجهة إلى دول العالم في ظل تلك المبادرة الأولية، حيث رفضت ١٧ دولة ذلك التحرك وامتنعت ٥٥ دولة أخرى عن التصويت، الأمر الذي يوحي بشراسة المعركة الإسرائيلية الأميركية خلال الأيام القادمة. وقد يكون إعلان الولايات المتحدة مؤخراً عن فتح سلطاتها تحقيقا في قتل الصحفية الفلسطينية الأميركية شيرين أبو عاقلة في إطار سياسة المساومة التي تستخدمها الولايات المتحدة تجاه الفلسطينيين. يأتي ذلك على الرغم من أن هذه الخطوة الفلسطينية في المنظمة الدولية لا تخرج عن كونها مسألة استفتاء قانوني من جهة اختصاص، فما الذي يقلق إسرائيل وحليفتها إلى هذه الدرجة؟
وستستفتى محكمة العدل الدولية، إن وصلت القضية إلى الجمعية العامة أولاً، ونجحت بعد ذلك عملية التصويت الشهر القادم على رفع القضية للمحكمة، حول التبعات القانونية الناشئة عن انتهاكات إسرائيل المستمرة لحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وتغيير واقع الأراضي الفلسطينية المحتلة، في ظل احتلال طويل الأمد. وتنتهك إسرائيل حقوق الفلسطينيين كشعب تحت الاحتلال، سواء تلك التي حددها القانون الدولي الإنساني أو القانون الدولي لحقوق الإنسان، وهناك عشرات القضايا المرفوعة ضد إسرائيل في المحاكم الدولية حول ذلك وأخرى في طريقها لأروقة القضاء. ويشهد العالم يومياً هذه الانتهاكات الدموية الفاضحة في حق المدنيين الفلسطينيين والأسرى من خلال لقطات مصورة تنقل حية من مواقع الجرائم مباشرة. كما تقوم إسرائيل بتغيير واقع الأراضي الفلسطينية من خلال ضم الأراضي المحتلة، بفرض سيادتها عليها، فضمت القدس عندما احتلتها عام ١٩٦٧، وفرضت قوانينها عليها، كما تمارس فعلياً سياسة الضم لأراضي الضفة الغربية، بعدما وضعت خطة منذ احتلالها في ذات العام بتشييد المستوطنات ونقل سكان يهود ليسكنوا فيها، مغيرة عبر السنوات الطوال، والتي تخطت بخمس سنوات النصف قرن، الواقع الجغرافي والديمغرافي لتلك الأراضي المحتلة. فبعد أن كانت الأراضي الفلسطينية المحتلة عام ١٩٦٧ خالية تماماً من المستوطنات اليهودية والمستوطنين اليهود في ذلك العام، تضاعفت مساحة المستوطنات وأعداد المستوطنين من أربعة إلى خمسة أضعاف منذ توقيع اتفاق أوسلو حتى اليوم، وبات الحديث الإسرائيلي اليوم يلمح لوجود دولة داخل دولة، أي دولة للمستوطنين اليهود داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة. وأثيرت قضية ضم أراضي الضفة الغربية بشكل صريح خلال عهد الرئيس الأميركي دونالد ترامب في إطار مبادرته «صفقة القرن»، وهي قضية لا ينكرها قادة إسرائيل، فالعديد من تصريحاتهم تشير إلى اعتبارهم الأراضي الفلسطينية المحتلة عام ١٩٦٧ بأنها أراض إسرائيلية ويطلقون عليها «يهودا والسامرة». وباتت إسرائيل تُتّهم اليوم في إطار تلك التطورات على الأرض بممارسة سياسة فصل عنصري ضد الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، في ظل فرضها نوعين من القوانين في إطارها، الأول قوانين الدولة، والتي تفرضها على المستوطنين اليهود المقيمين فيها، والثاني قوانين عسكرية تفرضها على الفلسطينيين، أو السكان الأصليين الخاضعين تحت سلطة الاحتلال.
هناك عشرات القرارات الأممية والمواقف الرسمية الدولية التي تصنف الوجود الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية بالاحتلال. وتؤكد القرارات الصادرة عن الأمم المتحدة ذلك بسلطاتها المختلفة التنفيذية والتشريعية، فعشرات القرارات الصادرة عن مجلس الأمن والجمعية العامة تؤكد على وجود احتلال إسرائيلي في الأراضي الفلسطينية، كما تؤكد على ذلك اللجان والمنظمات التابعة للأمم المتحدة. كما أن الهيئة القضائية للأمم المتحدة، والتي تعد أعلى هيئة قضائية دولية، قد أكدت على ذلك الوضع الاحتلالي، في الفتوة القضائية التي وضعتها عام ٢٠٠٤، معتبرة جدار الفصل العنصري الذي شيدته إسرائيل داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة غير شرعي. كما تقر قرارات الشرعية الدولية، وبناء على تحقيقات أجرتها لجان متخصصة في الأمم المتحدة، منها لجنة حقوق الانسان التابعة للمنظمة، بانتهاكات ترتكبها سلطات الاحتلال الإسرائيلي بحق الفلسطينيين. ودعا مجلس حقوق الانسان للتحقيق في أعقاب الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في شهر أيار من العام الماضي، ورغم رفض الولايات المتحدة لهذا التحرك ورفض إسرائيل التعامل معها وتسهيل مهامها، أصدرت اللجنة المعنية بالتحقيق تقريرها الثاني الشهر الماضي، ودعت خلاله مجلس الأمن إلى إنهاء الاحتلال الإسرائيلي الدائم، وحثت دول العالم على محاسبة إسرائيل. وكان مجلس حقوق الانسان التابع للأمم المتحدة ومنظمة هيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية ومنظمة بيتسلم الإسرائيلية قد اتهموا صراحة إسرائيل خلال العامين الماضيين بممارسة سياسة فصل عنصري ضد الفلسطينيين، اذاً ما هو الجديد في فتوى المحكمة هذه المرة؟
لم يتعامل القانون الدولي مع ظاهرة الاحتلال على أنها ظاهرة غير شرعية، فنظم القانون الدولي هذه الظاهرة ما بين حقوق القوة المحتلة وواجباتها في إطار الأراضي المحتلة، من خلال معاهدات مركزية تناولت بالإضافة إلى الاحكام التعاقدية أحكاماً عرفية؛ وتعد المعاهدات في عرف القانون الدولي القوانين الناظمة للعلاقات بين الدول؛ على رأسها اتفاقيتا لاهاي لعام ١٨٩٩ و١٩٠٧، واتفاقيات جنيف الأربع لعام ١٩٤٩، وبروتوكولاها لعام ١٩٧٧. الا أن الاحتلال كظاهرة موجودة في المجتمع الدولي، متفق حولها على أنها وضع مؤقت في القانون الدولي، وإن لم يرد بند محدد في القانون (المعاهدات والقواعد العرفية) يشير إلى تلك المدة التي تعكس ذلك الوضع المؤقت. واجتهد عدد من فقهاء القانون واعتبروا أن تلك المدة يجب الا تتجاوز الخمس سنوات، وإلا يصبح معها الاحتلال غير شرعي. وتؤكد الواجبات التي وضعها القانون الدولي على سلطة الاحتلال للالتزام بها خلال فترة احتلاله لأراضي الغير على هذه الطبيعة المؤقتة للاحتلال، وعلى رأسها عدم اعتبار سيطرة الاحتلال على شعب وضم أراضيه بالقوة بفرض السيادة على الأراضي المحتلة، وكذلك فرض القانون الدولي على القوة المحتلة ضرورة احترام القوانين الوطنية التي تعمل في ظلها تلك الأراضي قبل احتلالها، مع إمكانية فرض أخرى ضرورية لتحقيق مصلحة السكان القابعين تحت الاحتلال، ضمن اعتبار حسن النية.
من هنا تظهر المعضلة الفلسطينية في إطار الاحتلال الاسرائيلي الممتد لأجل غير مسمى، والذي صحب معه خرقاً للشروط الواجب الالتزام بها من قبل أية قوة احتلال مؤقتة، حسب شروط القانون الدولي. وتتضح أهمية فتوى محكمة العدل الدولية في هذه القضية، بصفتها صاحبة اختصاص أصيل للنظر في مثل هذه القضايا، وبقدرتها على تطوير القانون الدولي العام، خصوصاً في القضايا التي لم يتناولها القانون في بنود محدده عرفية أو تعاقدية، كما هو الحال في ظاهرة الاحتلال الممتد، والذي جلب معه جميع تلك المظاهر غير القانونية من ضم للأراضي وفرض لسيادة المحتل وانتهاكات لحقوق إنسان وممارسات الفصل العنصري، الأمر الذي لم يضر بأمن وسلامة الفلسطينيين فقط بل بأمن وسلامة منطقة بأسرها من مناطق العالم الرئيسة. ويتعلق ذلك الانتهاك مباشرة بالهدف الرئيس لوجود منظمة الأمم المتحدة، ويجعل أي قرار يتعلق بذلك الأمر ويصدر عن أجهزتها، حتى وإن جاءت من قبل الجمعية العامة، لتعذر استصداره عن مجلس الأمن؛ وذلك باستخدام الفيتو، لأسباب سياسية؛ بالقرار الملزم، لأنه يتعلق مباشرة بمقاصد الأمم المتحدة.
مبررة اذاً هي المحاولات الإسرائيلية الأميركية لتقويض مساعي الفلسطينيين في الوصول لفتوى من محكمة العدل الدولية حول استمرار الاحتلال الإسرائيلي، والتي ستعتبر أن هذا الاحتلال الممتد غير شرعي، واستمراره هو السبب المباشر لجميع الخروقات التي يشهدها العالم اليوم بحق الفلسطينيين. ومن هنا تنبع أهمية هذه المعركة السياسية- الدبلوماسية – القانونية، وضرورة التلاحم العربي والإسلامي مع كافة القوى الدولية المحبة للسلام والمدافعة عن العدالة، للوقوف مع الفلسطينيين في هذه المجابهة.