رقم بالف دولار، والوطن بدولار!!!
بقلم: اكرم كمال سريوي
النشرة الدولية
الثائر –
روى لي صاحبي أن والده هاجر من لبنان إلى أمريكا اللاتينية في ثلاثينيات القرن الماضي، وبعد أن أمضى قرابة شهر على متن الباخرة، حط رحاله أخيراً في بلاد لا يعرف عنها شيئاً، ولا يُجيد لغة أهلها، ولم يكن في جيبه سوى القليل من المال.
وكان في الطريق قد تعرّف إلى شاب لبناني آخر، قرر مثله أن يخوض غمار رحلة إلى ذاك العالم المجهول، لعلّه يحظى بفرصة عمل تؤمّن له حياة كريمة .
أمضى الشابان يومهما الأول على قارعة الطريق، وهاما على وجهيهما، إلى أن صادفا رجلاً عربياً، قادهما إلى ضاحية المدينة، واستأجرا كوخاً صغيراً يأويان إليه . شابان لا يملكان؛ مالاً، ولا قريباً، ولا مهنة، ولا يعرفان من القراءة والكتابة سوى بعض خربشات، ولا يدركان لغة البلد الذي وصلا إليه، فماذا سيفعلان؟ وبعد طول تفكير، قرّرا أن يعملا إسكافيين، فهما يعرفان القليل عن هذه المهنة، وهكذا كان.
ويتابع صاحبي، وهو يتذكّر والده، فتبدو على محيّاه ابتسامة صغيرة، تُشعرك بأنها تحمل الكثير من الأسى والحزن والإشفاق على شباب ظلمهم قدر وطنهم الصغير ودفعهم إلى يم المخاطر والمصير المجهول، فيقول وفي صوته شيء من الشجن : في أحد الأيام ذهبا إلى المدينة، وتأخّرا في العودة إلى الكوخ، وعندما وصلا، كان قد حل الظلام، فالتبس عليهما المكان، فالأكواخ كثيرة، وكلّها متشابهة، فهناك اختفت الشوارع، وضاعت الأسماء، وخفتت الأنوار، واختلطت المعالم، ولم يبقَ في ذاك المكان سوى علامات الإهمال، لترسم وجه الفقر في أزقة ضاحية دهماء. وراحا يدوران بحثاً عن كوخهما، لكن دون جدوى فلم يجداه، لقد اختفى!!! وبعد أن بلغ التعب منهما مبلغاً، قرّرا النوم في زاوية الشارع، وفي الصباح الباكر وجدا نفسيهما خلف كوخهما الخفي، في الجانب الآخر للشارع.
بعد عدة سنوات تمكّن الوالد من جمع بعض المال، وقام بتوسعة تجارته، بعد أن تعلّم الإسبانية، فأصبح يملك متجراً للأحذية، وهناك تعرّف على والدتي، ثم تزوجا وانتقلا إلى الولايات المتحدة الأمريكية، حيث ولدت أنا وأخوتي.
كان والدي مصرّاً على تعليمنا اللغة العربية، وقلّما مرّ يوم لم يتحدث فيه عن الوطن. عن والده ووالدته، وأهل القرية، والعادات الجميلة، وذكريات الشباب والطفولة ، عن كروم العنب والتين، ورعاة الماشية، والناطور، وأعراس تمتد لأكثر من أسبوع، يجتمع خلالها أهل القرية بكل إلفة ومحبة، يعقدون حلقات الدبكة، ويتبارون في الشعر والعزف على الناي والمجوز والمزمار.
أما روايته المفضّلة فكانت عن فتاة جميلة أحبّها كثيراً، وكل ما عَرَفه عنها أن اسمها أمينة . كانت الفتاة تعيش في مزرعة صغيرة، تبعد عن قرية والدي مسافة حوالي ساعة سيراً على الأقدام، وكان والدي لا يملك حجة لزيارة أهلها، فعمد إلى القيام برحلات صيد إلى الوادي المجاور للمزرعة التي تسكنها حبيبته، وبعد أن يُنهي مشواره المُضني الطويل، يمرُّ عائداً من طريق قرب بيتها، على أمل أن يراها أمام المنزل، فيُلقي عليها التحية والسلام، ويكتفي بنظرة وابتسامة صغيرة منها، تُخمد نار الشوق المشتعلة في صدره .
في أحد المرات، وبعد أن استجمع قواه وعزيمته الصلبة ورغبة قلبه الهائم بالحب، تجرّأ وطلب شربة ماء من والدها، الذي كان جالساً في ساحة الدار. نادى الوالد : يا أمينة! إسقي ضيفنا. طلّت أمينة وبيدها إبريق ماء، فارتوى قلب والدي برؤية الحبيبة، قبل أن ترتوي شفتاه بالماء .
لم تكن كل زيارات والدي إلى ديار حبيبته موفّقة، فلطالما قضى نهاره وقفل عائداً، يستحثّ الخطى إلى جوار بيتها، وهناك كان يُبطئ السير، وتتسمّر عيناه على الباب العتيق، ويتعلّق قلبه على النافذة الخشبية، ويسأل عنها الورود التي ربما قد لامست يدها في ذاك الصباح ، ثم يرحل دون أن يُمتّع ناظريه برؤية وجه أمينة، أو ينعم بلفتة من لحاظ عينيها الجميلتين. وسافر والدي إلى أمريكا، دون أن تعلم أمينة سرّ رحلاته إلى ديارها، ولم يُخبرها بحبه لها أبداً.
كان والدي يرغب بشدّة بالعودة إلى الوطن، لكن عمر المرء في الغربة يمرُّ مسرعاً كالحلم، وتتحول السنوات إلى مجرد أرقام، تسرق شبابك وحتى أحلامك، بعيداً عن أهلك وأحبتك، وأنت تركض خلف العمل والثروة، وعندما تستيقظ من غفلتك، يكون قد انتهى كل شيء، فلا تدري أكنت محظوظاً بسفرك وجمعك بعض النقود، أم أنك ارتكبت حماقة غرور الشباب وخطأ حياتك، بأن قايضت ربيع العمر بحفنة من المال، الذي لم يعد يعني لك شيئاً، سوى أنه رقم في حساب مصرفي، ستتركه لأولادك من بَعدِك؟؟؟.
يتابع صاحبي السرد فيقول: تُوفّي والدي، وكنت قد وعدته بأن أزور لبنان.
اتصلت بقريب لنا، أبلغته أنني قادم، حزمت حقيبة السفر، وكان يغمرني شعور بالغبطة، وأخيراً سأرى ذاك الوطن الجميل الذي رسمه والدي في مخيّلتي .
سأجوب أزقة القرية، سأذهب إلى البيادر، سأرى معصرة الدبس، سأشاركهم الأفراح، سأنام على سطح المنزل العتيق، ولن أنسى محدلة السطح، التي كان يتباهى والدي بأنه كان يرفعها مرات ومرات عِدّة .
قبل أن تهبط طائرتنا في المطار، حاولت استراق النظر من النافذة، إلى وطن الأجداد.
لم تكن بيروت بجمال لوس أنجلس، ولم أتوقّع ذلك أبداً، لكن لم أعتقد أنها مهملة إلى هذه الدرجة أيضاً . في المطار كان المشهد غريباً!!! الجميع في سباق! وقفت في الصف وكان رجل يقف خلفي، التصق بي وراح يدفعني إلى الأمام، واعتقدت أنه على عجلة من أمره، فانحرفت قليلاً وأفسحت له الطريق، ولم يسمح لي بعدها أي شخص بالعودة إلى مكاني!!! قالوا : لقد خرجت من الصف، عُد إلى الوراء . أنزعجت من الأمر طبعاً، وشعرت أنني وصلت إلى عالم آخر ، عالم تحكمه الفوضى والغباء وشريعة الغاب.
انتظر قريبي طويلاً فكنت أنا آخر الركاب الواصلين. استقبلني بحرارة أعادت إليَّ بعض الغبطة، وشعرت معها أنني لست نادماً على قدومي إلى لبنان .
خرجنا من المطار وكان يلوم نفسه ويقول : أنا المخطئ كان علي الاتصال بصديقي في الأمن، كي تمرّ بسرعة ولا تتأخر . حاولت إقناعه بأن الأمر لا يحتاج إلى ذلك، لكنه استمر يلوم نفسه: “كان يجب أن أتصل بصديقي، إنه نائب في البرلمان”. بدت عليّ الدهشة وأردت أن أسأله: ما علاقة النائب بالمطار؟؟!!! لكنني التزمت الصمت .
في الطريق لاحظت أن لا وجود لإشارات السير ، فقط إشارة واحدة رأيتها، وكان يقف قربها شرطي ، كان الضوء (أحمر)، لكن الشرطي هو من يدير حركة المرور خلافاً لضوء الإشارة، وأطلق يده كمروحة هواء يستحثّ السيارات، والأبواق تملأ المكان، وفهمت بعدها أن الإشارة معطّلة ، وربما لا حاجة لها أصلاً، فالكهرباء تنقطع هنا لوقت طويل.
عندما وصلنا إلى القرية بدأت أبحث عن بيت والدي، عن العلّية والقنطرة والسطح الترابي، وشجرة التوت الكبيرة في الدار، لكني وجدت مكاناً مختلفاً تماماً. إنها بيوت كبيرة، تجمّعت على غير هُدى، وتزاحمت لتقضم جزءاً من طرقات ملتوية، فبات مرور السيارة بينها يحتاج إلى تدخّل سبعة ملوك الجن، أو رقية من شيخ عرّاف.
في الصباح نهضت باكراً وخرجت إلى الشرفة، تأمّلت البيوت والطرقات والهضاب، وغابة السنديان البعيدة التي كان يجتازها والدي للقاء حبيبته، وارتسم أمامي وجهه وهو يبتسم، وكأنه عاد ليقول لي: نعم هذا هو المكان . بعد قليل خرج قريبي وجلسنا نشرب القهوة التي أعدّتها خادمته ، وراح يُلقي علي محاضرته حول: القرية، وسكانها، والعائلات، والخلافات حول المخترة والبلدية، والأحزاب السياسية، ثم بدأ يشرح لي أسباب الأزمة الشرق أوسطية، والخطط الأمريكية، وانتقل إلى تحليل استراتيجية الحرب والسلام ، والنزاعات الدولية وووو…
حاولت إخبار قريبي أنني غير مهتم بالسياسة ولا بالسياسيين، فأنا طبيب أقوم بعملي كما يجب، والآن لدي فرصة قصيرة، أردت خلالها أن أزور لبنان، وفاءً لذكرى والدي ليس أكثر . لم تعنِ كلماتي الكثير لقريبي ثم قال : أنظر إلى رقم هاتفي ! هل ترى كم هو رقم مُميَّز؟؟؟ لقد اشتريته بألف دولار ، وقِلة مَن يملكون مثله في لبنان. وتابع: هذه سيارتي ، أنظر لوحتها أربع أرقام فقط، لقد وعدني صديقي النائب، قريباً سيعطوني لوحة جديدة بثلاثة أرقام . ثم تابع الحديث : أنظر هذا هاتفي إنه آخر موديل في السوق . تعال لترى صوري ؛ هذا أنا مع دولة رئيس الوزراء ، وهذه مع زعيم الحزب ، وهذه مع النائب وهذه وهذه …
حاولت أن أجلد نفسي بالصمت، لكنني لم استطع الاحتمال أكثر، وقلت لقريبي : هل تعلم فارق الرواتب بين لبنان وأمريكا ؟؟؟ أجاب : نعم . فقلت : وهل تعلم أن الأمريكيين ليس لديهم خادمات في بيوتهم؟ هل تعلم أن الوزير أو النائب هو مجرد موظف في الإدارة يقوم بواجباته، وليس سيداً على الناس، ولا يُعتبر من طبقة أعلى من طبقة الشعب؟؟؟ هل تعلم أن القيمة هناك هي لمعرفتك وعلومك، وليس لاسمك واسم عائلتك؟ هل تعلم أن هناك لا أحد يسألك عن دينك أو مذهبك أو أصلك أبداً؟؟؟
أرسل قريبي تنهيدة ثم قال : نعم أعلم، لكن في بلادنا الوظيفة تجلب الناس إلى دارك، وتملأ جيوبك بالمال. هل ترى بيوت القرية ؟ فهذه كلّها مخالفة للقانون، وهل تدري من يسمح بمخالفة القوانين ؟؟ إنه ؛ الوزير، والنائب، والمحافظ، والقائمقام، ورئيس البلدية، فإذا كنت تعرف أحدهم ستفعل ما تشاء، وإذا غضبوا عليك سيتم حرمانك من أبسط حقوقك.
في بلادنا لن تحصل على وظيفة، ولن تفيدك الشهادات والخبرة بشيء، إذا لم تكن لديك علاقة جيدة مع الزعيم، أو أحد أعوانه. الزعيم هنا هو حاكم مطلق، يرفع من يشاء ويُنزل من يشاء، وساعة يشاء.
هُنا قد يرتكب البعض جريمة قتل أو رشوة أو سرقة، ويحكم القضاء ببراءته إذا شاء الزعيم ذلك، وحتى دون أن يذهب إلى القضاء. عندما يرى الشرطي رقم سيارتك المميّز فلن يسألك عن زجاجها الداكن، ولن يُفتّشك، ولن يسطّر بحقّك محضر ضبط، مهما كانت مخالفتك للقانون .
هنا عندما أُهاتف شخصاً لا يعرفني، سينظر إلى رقم هاتفي، فإذا وجده مُميّزاً سيُجيب فوراً، معتقداً أنني رفيع المقام، أما اذا رآه عادياً، فلن يُكلّف نفسه عناء الرد. هنا دائماً تتم المقايضة بين المواطن والزعيم، فنحن نعطيه أصواتنا ليكون نائباً عنا وحاكماً علينا، وهو يُقدّم لنا خدمة تغطية انتهاكنا للقانون .
نعم نحن شعب يعشق الفوضى، ويظنّها طريقاً قويماً . نحن شعب يُكثر القول ولا يُجيد العمل، نحن شعب لديه الكثير من الطوائف والأديان، والقليل من التقوى والإيمان. نحن شعب لديه الكثير من الشعارات، والقليل من الصدق والعمل. نحن شعب يتلهّى بالمظاهر، ولا يهتم بالمضمون. نحن شعب يملأ ساحة بيتك بالأهازيج والزغاريد، عندما تُصبح نائباً أو وزيراً أو مديراً، ثم يلعنك عندما ترحل ويبدأ التهليل والتطبيل لمن جاء بعدك . نحن شعب يعشق الإطراء والمديح، ويكره النقد والمعترضين. فهل علمت الآن سرّ رقمي المميّز ؟؟؟
نعم ستجد هنا من يشتري رقماً بالف دولار، ويبيعك الوطن بدولار!!!!!
ختم قريبي والدمعة في عينيه : لقد أحسن والدك عندما هاجر من بلاد الرياء والعبودية هذه، وبحث لك عن مكان يمكنك أن تعيش فيه كإنسان.