حان وقت مجيء النساء للانتخابات البلدية اللبنانية

النشرة الدولية –

المدن – بتول يزبك –

في بلدٍ سبقَ كل البلدان العربية في تكريس حقّ المرأة في المشاركة السّياسيّة، اقتراعًا وترشحًا، عام 1953، يبدو من النافر والمثير للاستغراب استمرار الحديث عن ضرورة وحق المرأة في الانخراط بالتمثيل السّياسيّ فيه، لدى عشية كل استحقاق انتخابي في دولة ديمقراطية تنبثق سلطاتها الشرعيّة من الإرادة الشعبيّة. إلا أن العارف بتعقيدات وأزمات المشهد اللبنانيّ العميقة، يتفادى المبالغة بالاستغراب، بل ويدرك حتمًا أن هذا الواقع هو بالمرتبة الأولى، حصيلة كل سياسات الإقصاء والتحامل في تمكين النسوة اللبنانيات سياسيًا، لجهة غياب الفرص الحقيقية في صناعة السياسة والانخراط الأصيل في اتخاذ القرار، لا الانخراط فيها وجاهيًا.

واليوم وبعد ستة سنوات من الانحدار الدراماتيكي في مستوى العمل البلدي، وسنة تمديد إضافية غصّت بالاستقالات والتوقيفات القسرية وانحلال المجالس، يستجد الحديث عن إمكانية إجراء الانتخابات للمجالس البلدية والاختيارية المُمدد لها. وبمعزل عن السيناريوهات المحتملة للتأجيل والتمديد مجدّدًا، يشهد الشارع اللبناني اليوم حركة حيوية للحملات الانتخابية البلدية في المدن والبلدات اللبنانية، فيما بدء الراغبون/ات بالترشح، في طور التحضير للبرامج الانتخابية واستقطاب الناخبين.

وفي خضم هذا التحضير، بات التساؤل عن مستوى انخراط النسوة اللبنانيات في معترك الانتخابات البلدية والاختيارية المزمع إقامتها، مشروعًا وأساسيًا، تحديدًا بعد صفعة الانتخابات البرلمانية الأخيرة، التّي وبالرغم من الإقبال الملحوظ للنسوة اللبنانيات ترشحًا إليها، لم تسفر عن تغيير استثنائي في نسب الفائزات مقارنةً بالسنوات السّابقة، وبالنظر إلى مدى انخراط النسوة أساسًا بالعمل الحزبي، والنقابي، والسّياسيّ، والاجتماعي.

انخراط النساء

فيما نصّ نظام الكوتا الجندرية المقترح لبنانياً منذ العام 2006 على حجز 30 في المئة من اللوائح الانتخابية و20 في المئة من مقاعد المجالس البلدية للنساء كحدٍّ أدنى للمشاركات، وبظلّ السبات العميق لهذا المقترح في جداول الأعمال غير المزمع تنفيذها منذ عام 2010، أُقعدت المرأة سياسيًا وجُمدت حقوقها السياسية أسوةً بباقي حقوقها اللصيقة، لصالح تخوف السّلطة من تغيير في أسسها، ما زاد من  العوائق التّي تحف بها طريق وصول المرأة اللبنانية إلى المنصب الرسميّ والتمثيلي على وجه التخصيص، بالإضافة إلى العنف والقمع العائلي وصولاً للتهكم الاجتماعي، والكثير من العقبات التّي تُطرح تلقائيًا في درب الراغبات بصناعة القرار. لكن مختلف هذه العوائق لم تثنِ كثيرًا منهن عن الاستمرار في النضال وصولاً لتبوء المناصب هذه.

واليوم، وإزاء الحديث عن إمكانية إجراء الانتخابات البلدية، تستعد مئات النسوة اللبنانيات من شتى الخلفيات والمشارب، لخوض غمار هذه الانتخابات، عبر تحضير البرامج والحملات الانتخابية والمشاركة بالندوات وورش العمل، وإحداهن السّيدة إنجيلا عمر قيس (49 سنة)، والتّي عزمت على الترشح لرئاسة بلدية نحلة شرقي مدينة بعلبك. وأنجيلا هي ربّة منزل متأهلة وأم لثلاثة أطفال وصاحبة مشروع زراعي في قريتها، يندرج تحت إطار التعاونية الزراعية التّي تزرع وتنتج المواد الغذائية والمؤون الشعبية بمساعدة سيدات بعلبكيات، وهي حائزة على إجازة في اختصاص الحقوق من الجامعة اللبنانية. وفي حديثها مع “المدن” تشرح أنجيلا عمر أسباب ترشحها والتحديات التّي تواجهها اليوم.

قائلةً: “ترشحت بالمرتبة الأولى في قرية زوجي لا في مدينتي الأمّ بعلبك، لأني أؤمن بأن تغييري لأحوال البلدة التّي أقطن فيها هو أولى من العمل على مدينة لا أقصدها سوى لمامًا. ولليوم، ومنذ 20 سنة على قدومي إلى هذه البلدة، لم أجدّ سوى النماذج التّي لم تقدم أي جديد لبلدة تتمتع بطبيعة خلابة وسياحية، وتتسم بطابع زراعي بحت، سوى الإفلاس والهدر. في البداية، أطلقت مشروعي، الذي عملت فيه مع عدد من النسوة اللواتي رغبن بمدخول شخصي لهن. ومع كسب الخبرة والشهرة، بدأت أتقدم بمنح خارجية وتمويلية لمشروعي، الذي بات في طور النمو والنجاح. وفكرت لما لا نجعل هذا النموذج الشخصي، نموذجًا أهليًا ومحليًا؟ فكما استطعت استغلال حديقة منزلي لإنشاء مشروع زراعي ومن ثم انتاج مواد غذائية، فيمكن لكل أهالي بلدتي القيام بذلك، بعد التحفيز والتمكين واعداد الخطط والمشاريع، لا الاكتفاء بالحلول الظرفية والترقيعية”.

العوائق التي تواجه النسوة

وتُضيف: “واجهتني عدّة عقبات، أولها، الضغط العائلي والسّياسيّ. فبلدية نحلة يديرها الرجال من أصحاب النفوذ العائلي والحزبي، لكني رفضت الاستسلام لهذه الضغوط، وتمسكت بهدفي، وهو إغاثة البلدة وتأهيلها وتمكين نسوتها تحديدًا. وما شجعني هو دعمهن لي ولبرنامجي الذي صغته بعد عمل مضنٍ ومراجعة لأحوال وهموم أهالي البلدة”. وتؤكد عمر أنها لن تترشح للانتخابات مع أي جهة سياسية ولا خلافًا مع أي منها، بل هي سوف تترشح إيمانًا بالتغيير بالعمل السياسي في بلدتها، مشيرةً لكون السّياسة في بعلبك -الهرمل إجمالاً بحاجة ماسة لسيدات وعنصر أنثوي فيها.

خاتمةً أن العمل السياسي لا يقتصر على حيازة الشهادات العلمية وتحقيق مراكز عالية مهنياً، بل يتطلب امتلاك المرشحة لشبكة علاقات عامة واسعة ومتنوعة، وأن تتسم برحابة الصدر وتقبل الاختلاف. وفيما تخوض غمار الانتخابات مدركةً أنها ستواجه السخرية والرفض والاستهجان والنظرة الذكورية الفوقية، توقن أنها ستحقق النموذج الذي قد تحتذي به النسوة الأخريات، ويحفزهن للانخراط هن أيضًا بالعمل السياسي.

عوامل عدّة أدت إلى انكفاء المرأة عن العمل السياسي في لبنان، وخصوصاً البلدي منه، أبرزها عدم مقدرة بعض النساء غير المستقلات ماديًا وفي ظلّ الأزمة الاقتصادية المستفحلة، التسويق لأنفسهنّ بالشّكل المطلوب، خصوصاً أن الحملات الانتخابية هذه تتطلّب مصاريف مالية مرتفعة. والعنف السّياسيّ ضدّ المرأة المشتمل على العنف اللفظي والتعرض والحكم الشخصي على هؤلاء النسوة، لا الموضوعي والعملي، هو ما يدفع بعض النساء إلى التراجع عن الانخراط في المضمار السياسي، مخافة الشتيمة والتورط، ناهيك عن تأثر الناخبين بالأعراف والتقاليد، والتراث الأبوي الذي يحصر النساء في مقاعد الحقوق الخلفية، ويجعل دورهن مرتبط بالوجاهة والترويج، لا العمل السياسي الأصيل.

نسبة النساء في البلديات

تُعد الانتخابات البلدية والاختيارية الاستحقاق الديمقراطي الثاني بعد الانتخابات البرلمانية التّي تُنجز بالتصويت والاقتراع، وخلافًا للبرلمانية تبلغ مدة ولايتها ست سنوات. وفيما شهد لبنان في الفترة الممتدة بين عام 1952 حتّى سنة 2016 ستّة انتخابات لمجالسه البلديّة فقط، نتيجةً للتمديدات المستمرة بين عام 1952 حتّى 1998 خلال الحرب الأهلية ونتيجة ظروف كل مرحلة لحقتها تباعًا. حملت سنة 2004 انتظامًا جديدًا لهذه الانتخابات بالتزامها بمدّة الولايات، فضلاً عن تحسن واضح في انخراط النساء اللبنانيات فيها. وهذا ما أكدتّه الإحصاءات التّي أفادت بتحسن نسب انخراط النساء في الانتخابات البلدية منذ العام 2004 حتّى عام 2016 بنسبة تفوق 15 بالمئة. ولعلها محصلة الجهود المدنية والأهلية ونضالات النسوة والجمعيات في سبيل حجز مكان لهؤلاء في مقاعد المجالس البلدية.

لكن وبالرغم من هذا التحسن الجزئي في نسب النسوة المنخرطات بالتمثيل السّياسيّ البلديّ، إلا النسبة مقارنةً بالمرشحين والفائزين والبلديات، ضئيلة جدًا. وفي هذا السّياق تشير منسقة الإعلام والتواصل في الجمعية اللبنانية من أجل ديمقراطية الانتخابات (لادي) ساندريلا عازار، في حديثها مع “المدن” إلى أسباب وعوامل محدودية هذا النسب والتحديات التّي تقف في وجه النساء المرشحات قائلةً: “في الانتخابات البلدية عام 2016، ترشحت 1485 امرأة فقط من أصل أكثر من 12 ألف مقعد. وبالمقابل فازت 680 مرشحة، أي حجزت المرأة اللبنانية 5.6 بالمئة فقط من إجمالي المقاعد، ذلك نظرًا للتحديات التّي تواجهها المرشحات والناخبات ومن جملتها: الضغوطات العائلية والدينية وفرض القوى المحلية عثرات لمنع الترشح لجهة الطابع العائلي لهذه الانتخابات، والقانون الأكثري الذي يمكّن قوى العائلية والطائفية من التحكّم بنتائج الانتخابات بسبب إمكاناتها المادية ودعم السّلطة لها، كذلك الصورة النمطية لدى الإعلام والمجتمع، فضلاً عن النظام الزبائني. ناهيك بكون اقتراع الناخبات بمكان القيد يؤدي طرديًا لظلمٍ مزدوج بحق المتزوجات اللواتي ينتخبن في دوائر لا يسكنّ فيها أو ينتمون إليها. لذلك، يجب العمل على أسس قانونية وحقوقية تحصّن وتحمي حقوق المرأة السياسية وتضمن المساواة الفعلية بينها وبين الرجل، وتشكل الرادع لأي إمكانية للتدخل في استقلالية آرائها السياسية”.

إمعان في التهميش

فيما استعرضنا سابقًا سيرة إحدى النسوة اللواتي أصرين على استئناف طموحاتهن بالتغيير والنضال في سبيله، بالرغم من الظروف الاقتصادية القاهرة والخانقة والظلم المجتمعي، الذي حرم نساء الجيل الحالي والأجيال السّابقة من حقّ التمثيل السّياسيّ الحقيقي، عبر تهميش وازدراء أي نظام أو قانون أو مطالبة (مثل نظام الكوتا الجندرية) من شأنه أن يلزم ساسة لبنان بشريكة في صنع القرار. ولعل محاولات هذه النسوة الحثيثة هي مؤشر للأمل في تغييرٍ تراكميّ ما، ينفض عن لبنان لوثة الأبوية الصفيقة، ويُلطف جزئيًا الحياة السياسة اللبنانية الفجة والعقيمة، ويكرّس ثقة النساء بأنفسهن كصانعات للسياسة والقرار لا مواطنات من درجة ثانية.

زر الذهاب إلى الأعلى