سفينة اللبناني هانيبال سروجي تبحر بـ”أعمال نقطة الانهيار”
لوحات تحكي تجربة نفسية مع الحروب والصراعات المتعاقبة على لبنان
النشرة الدولية –
العرب – ميموزا العراوي –
دخل لبنان منذ ثمانينات القرن الماضي في أزمات متوالية كانت ثقيلة على اللبنانيين، رسمت ذكرياتهم وخطت مسارات حياتهم المؤلمة، ووضعت لمستها القوية على إبداعات أبنائها ومنهم الفنان هانيبال سروجي الذي اختار إقامة معرض تشكيلي يستعيد آلام الماضي ويقدم سردا بصريا لما يعيشه بلده حتى الآن.
تقدم صالة “جانين ربيز” اللبنانية معرضا للفنان هانيبال سروجي يضم مجموعة كبيرة من أعمال فنية بمقاسات مختلفة أنجزها في الفترة الممتدة من أواخر الثمانينات إلى بداية التسعينات من القرن الماضي وجاءت تحت عنوان “أعمال نقطة الانهيار”. ويستمر المعرض حتى الرابع والعشرين من شهر مايو القادم.
لا أخفي بأنّني شعرت بشيء من الحزن الغريب حين علمت بإطلاق معرض للفنان هانيبال سروجي تحت عنوان “استعادي” ربما لأنّني من جيل التسعينات اللذين يمثل الفنان قسما كبيرا من ذاكرتهم لاسيما هؤلاء الذين تخبطوا بدوامة كمّ الذاكرة الجماعية بشعارات “إعادة الإعمار” المذهلة بمباشرتها وسرعتها الخيالية وتفاؤلها الجنوني بعد حرب دامت 15 سنة. ولا يزال هؤلاء يلملمون حتى الآن مبعثراتهم ويتخبطون بأحلامهم غير المتحققة ويتساءلون كيف حدثت الحرب وكيف أطبق عليها “السلام السريالي” وتحت أيّ شعار مجحف بحقهم مرّ العمر كخطف البصر.
غير أن رؤية لوحات الفنان تحت هذا العنوان من ناحية تضفي على معنى “استعادة” بعد آخر أقل ما يقال عنه أنه بُعد حيوي ولا يمتّ إلى مفهوم الماضي على أنه الزمن الكهل الذي عبر وتغبّر. ومن ناحية ثانية يضع المعرض الفترة التي أنجز فيها الفنان الأعمال متزامنة مع الحاضر وليست خلفه البتة ودون أن تكون مُشبعة بالحنين الساذج إلى الهدوء السريالي الذي تلا إعلان انتهاء الحرب الذي تكلل بأشواك العفو العامة السامة.
ستسكب الأعمال في نفس المُشاهد شعورا مُلتبسا قوامه الحزن المتدثر بفرح البقاء المقرون بأمل هش لا يقوى حتى يخفت من جديد. وهذا الفرح الاستثنائي في لوحات الفنان هانيبال سروجي متأتّ من إحساس مُشاهد الأعمال بأن الفنان لا يصور نفسه كضحية للحرب كما أنه ليس بغافل أو ناكر لأحزان ما حدث وفواجعه، بل هو في نصاعة وعيه للحرب وذيولها. وهو أيضا مُثمّن للأيام الذهبية في فترة الستينات السابقة للحرب اللبنانية بعيدا عن ميلودرامية الحنين.
تمظهر هذا الفرح فنيا بتلك الخطوط الرقيقة التي تشبه الندوب والشرايين الخافتة، ومنها ما أضاءه الفنان بألوان “النيون”، وتمظهر أيضا بالثقوب التي بدورها شكّلها الفنان لتشبه براعم لورود تتنفس. ورود متهدجة بألوان فاتحة في معظمها.
وإن كان المُشاهد يوّد أن يستوعب كيف تكون الثقوب التي تشبه ما يحدثه الرصاص وشظايا القنابل في مسام الجسد والروح تحمل حلاوة البلسم ولطافة تأثيره يُمكنه أن يعاين تناقض نصه الفني مع ما قدمه الفنان الأرجنتيني الشهير لوشيو فونتانا الذي اشتهر عالميا بلوحاته المجروحة والمثقوبة بسكّين أو بما يشبه المسامير التي تجسد العنف ولا تترك للهدوء أو لفعل الاندمال مطرحا.
هذه الذيول “ذيول الحرب” التي لم ينكرها الفنان هانيبال سروجي وصوّرها و”عالجها” إذا صح التعبير، عبر لوحاته، بتجريدية شاعرية وتعبيرية برفق وتخدير للآلام التي أنتجتها هي ذاتها التي تبلورت حتى أصبحت اليوم الحاضر/الكابوس الذي نعيشه. ومن هنا يجيء معرض “أعمال نقطة الانهيار” في وقت مناسب جدا.
الفرح الغرائبي تجلّى بشكل عام في لوحات الفنان بالضبابية العقلانية التي تخفت وتشتد هنا وهناك فتلطف من الأسى كنوع من عزاء للنفس، لنفس الفنان ولنفس المُشاهد الذي ينتمي إلى معمل الأفكار والمشاعر التي أنجبت أعماله الفنية.
وقد ذكر الفنان أنه أنجز الأعمال الحاضرة في المعرض في الفترة الزمنية التي ساد فيها الهدوء بعيد إعلان انتهاء الحرب الأهلية وهي فترة يتذكرها أبناء جيل الحرب أكثر من تذكره لفصول الحرب التي غاصت في خبايا ذاكرته كما غاصت الأشكال في لوحات الفنان تحت ما يشبه الشاش المُعقم والحافظ للجراح إذا صحّ التعبير.
شاش هو غشاوة بيضاء شفافة انتشرت في الكثير من لوحاته وشفّت عن عوالم الذكريات المضيئة التي عرفها الفنان اللبناني خلال طفولته في بيروت وصيدا قبل أن يغادر بسبب الحرب، ولكنها شفّت أيضا عن الندوب والجراح وشواطئ الهجرة وعن واقع حاضر هو من إفرازات ما سبت تحت رماد الحرب ولم ينطفئ.
ما سيجده زائر معرض الفنان اللبناني هانيبال سروجي في صالة “جانين ربيز” هو ترجمة موسيقية خافتة وعميقة مقرونة بسرد بصري مؤثر للزمن اللبناني المُمتد من الثمانينات إلى التسعينات وصولا إلى 2023.
ترجمة من منظار شخصي/حميمي لفنان غبّ غمام الزمن الهادر من حوله ليبثه في لوحات هي من ناحية أشبه بعملية تطهير من التجارب النفسية السابقة التي فرضتها الحرب ومن ناحية ثانية هي أقرب إلى سيرة ذاتية غالبا ما تهمس همسا برقة ألوانها وضبابية أجوائها وهي لوحات في كل حالاتها غنية بالعناصر الأربعة: الماء، والهواء، والنار، والتراب.
والمُنتقل من لوحة إلى أخرى سيعثر على المراحل التي مرّ بها الفنان وكيف وظفّ العناصر الأربعة في التعبير عنها. وكانت البداية مع عنصر النار الذي جعله فاعلا وناطقا بآثار الحرب اللبنانية. ثم حضر الهواء الذي لعب دور تعزيز النار من ناحية وإطفائها من ناحية أخرى ليولد الدخان الهش الذي عكرّ صفحات الماء وأشعل النار في جوفها الغازيّ. إنها فوضى الحواس على متن سفينة هانيبال سروجي.
يُذكر أن هانيبال سروجي من مواليد العام 1957، ويعيش ويعمل بين بيروت وباريس. حاصل على درجة الماجستير في الفنون الجميلة من جامعة كونكورديا في كندا في العام 1987. شغل مناصب تدريسية مختلفة في جامعات في الولايات المتحدة وكندا، وكان يدرّس في جامعة السوربون في باريس قبل التحاقه بالجامعة اللبنانية الأميركية، في العام 2010، حيث يشغل اليوم منصب رئيس قسم الفنون والتصميم كأستاذ مشارك في النواحي العملية. له معارض فردية عديدة، كما أن له مشاركات في معارض جماعية.