مهرجانات الجميزة-مارمخايل وسط بيروت: انتعاش سياحي لا يفيد السكان!

النشرة الدولية –

المدن – بتول يزبك –

منذ مطلع الشهر الجاري وشارع “الجميزة” شرقي وسط بيروت، في حالة من الاستعداد والتأهب للفعاليات الثقافيّة والفنيّة والشعبيّة المُزمع إقامتها في نطاقه الجغرافي على امتداد شهر أيّار. هذا الشارع وعلى منوال سائر المناطق والأحياء السّكنية المحاذية لمرفأ بيروت، والشاهدة على تفجيره، والمتضررة الأكبر ماديًا وإنسانيًا منه، تحاول منذ 4 آب 2020 لململة ما تبقى من بهجتها المسلوبة، بالإعمار والترميم المستمر واستئناف الحياة التّي سُلبت منها بغتةً.

 

ولما كانت هذه المنطقة عصب الجذب السّياحيّ في الحقبة الممتدة من منتصف العقد الماضي وصولاً لمشارف الانهيار والتفجير، قد تبدو هذه الفعاليات للوهلة الأولى تحقيقًا فعليًا للمعجزة اللبنانيّة (للمدينة المنبثقة من تحت الأطلال) وانتعاشة اقتصادية مهمة للقطاع السّياحي المتهالك في منظومة ريعيّة لا تراعي سوى مصالح المنتسبين إليها. لكن هذه الفعاليات وبالرغم من الزخم الإعلامي الموصول والترويج الدعائي لها، قد أماطت اللثام طرديًا عن الشرخ المهول بين طبقات المجتمع اللبناني، وانسحبت تدريجيًا نحو الواقع الذي كُرس في آخر أربع سنوات للانهيار التّاريخي، وهو تحول الموسم السّياحي وأوقات الغبطة والانشراح لرفاهية وامتياز حُرم منها سواد المقيمين المفقرين في لبنان عمومًا وفي هذا الشارع على وجه التّحديد.

 

حركة سياحيّة

بدعمٍ من بلدية بيروت ووزارة السياحة ونقابة أصحاب المطاعم ومحطة LBCI، أُقيم نهار الأحد الفائت 21 أيّار الجاري، سوق “ع طريق الجميزة” بنسخته الثّانية والذي افتتحته كل من مؤسسة “إن أكشن إيفنتس” و”سوق الأكل” و”سي دي غلوبال أسوسياتس”، في شوارع الجميزة وباستور، من الساعة العاشرة صباحًا حتى العاشرة مساءً. وفيما أشار منظمو الفعالية، في بيان نُشر لهم منذ قرابة الأسبوع، إلى أن مساهمة النسخة الثانية من سوق “ع طريق الجميزة”، “لن تقتصر على دعم المطاعم والأعمال المذهلة في منطقة الجميزة فحسب، بل ستعيد الحياة إلى شوارع بيروت وستذكّر اللبنانيين بما كانت تمثّله بيروت في الماضي، وما يمكن أن تعود إليه في المستقبل”. فيما كانت منطقة الجميزة حسب ما أشار هؤلاء قد استضافت في العام الماضي “أكبر مهرجان شارع في لبنان مع حضور أكثر من 50،000 شخص في يومٍ واحد”.

 

وفعلاً، شهد الشارع الرئيسي للجميزة منذ بواكير صباح الأحد الفائت، حركة شعبيّة لافتة تخللها وضع أكشاك ونصب خيم ضمّت أعمال لحرفيين ومصممي أزياء وفنانين فضلاً عن المأكولات والمشروبات، وفتحت المحال التجاريّة باختلافها أبوابها واضعة طاولات مؤقتة من أمامها لاستقبال الزوار والزبائن. وعلى امتداد الشارع المُطل على وسط المدينة وصولاً لأحياء مار مخايل -النهر (الذي تمّ سدّه بوجه السّيارات منذ الليلة التّي سبقت الفعالية بواسطة سياج حديدي وحوّل السّير لمتفرعات الشارع)، عاش الشارع مشهدية كرنفالية احتفالية استقطبت آلاف الزوار من مختلف المناطق والسّياح من مختلف الجنسيات. متسمةً بطابع ثقافيّ/ تراثيّ لبنانيّ. وضج الشارع بالموسيقى الأجنبية والعربيّة الحماسيّة المنبعثة من المحال والأكشاك المتنوعة. ذلك بحضور أمنيّ واسع.

 

وهذه الفعاليّة ليست الأولى من نوعها هذه الفترة. إذ منذ نحو الأسبوعين عاش الشارع المشهدية الاحتفالية نفسها. فعلى مدار يومي 13 و14 أيّار الجاري، انطلقت فعاليات مهرجان “الجميزة عالماشي وعالبلكون”، التّي انطوت على احتفالات فنيّة وغنائيّة لمجموعة من المغنين اللبنانيين من على شرفات الشارع وعروض راقصة وسباق للدراجات الناريّة والهوائية وأنشطة للأطفال، فضلاً عن إقامتها لسوق تجاري للمنتجات اللبنانية والمأكولات الشعبيّة. كما تستمر هذه الأنشطة طيلة أيام الأسبوع على درج الجميزة (درج مار نقولا) الرابطة بين شارع الجميزة ومنطقة الأشرفية. الذي يشهد تدريجيًا عودة الأنشطة الفنيّة والثقافية التّي كانت تُقام سابقًا فيه. والمشتملة على معارض للرسومات والتُحف والمنحوتات والأعمال الحرفيّة والتشكيليّة لفنانين لبنانيين ومن مختلف الجنسيات.

 

شرخ طبقي

إلا أن اللافت وفي خضم هذه الفعاليات التّي يشهدها الشارع منذ نحو السّنتين، هو تبرم أهالي وسكان المنطقة المستجدّ من الاحتفاليات الأخيرة التّي انفلتت -حسب قولهم- من أنشطة مجانيّة ذات طابع تراثي لحكرٍ على الطبقات الميسورة وذات المداخيل بالفريش دولار. مستحضرةً واقع الانهيار وانسحاق مفقري المنطقة تحت عجلته وتبخر طبقته المتوسطة. فهذا السّوق الشعبيّ بأنشطته وسلعه المتنوعة لم تختلف أسعاره المدولرة عن أسعار السّوق اللبناني العام. وإن كان قد لوحظ إقبال هائل للمقيمين واللبنانيين لزيارة السّوق والانخراط في فعالياته، لوحظ على المقلب الآخر انحسار الحركة التجارية فيه مقارنةً بالعام الماضي. فضلاً عن مطالب السّكان بضرورة التنسيق معهم في الفعاليات المقبلة لوجستيًا وتنظيميًا، نظرًا لكونها تُقام في شوارعهم وأحيائهم ومن أمام بيوتهم. معبّرين عن امتعاضهم من واقع استباحة هذه الشوارع طيلة العام من قبل أصحاب المصالح الخدماتيّة في المنطقة، من مطاعم وملاهي ومرابع ليلية، وما تشكله من ازعاجٍ موصول وفوضى عموميّة اكسبت المنطقة السّكنية طابعاً “ليليّاً وسمعة مشوبة بالتفلت الأمنيّ والتنظيميّ”، وسط لامبالاة رسميّة وضعت السّكان في مواجهة مباشرة مع أصحاب المصالح، مراكمةً نقمة متبادلة بينهما وصلت سابقًا حدّ الاحتجاج والتظاهر.

 

وفي هذا السّياق تشرح رئيسة لجنة سكّان “الجميزة ومار مخايل” إميلي نصار في حديثها مع “المدن” أسباب امتعاضهم هذا، وتداعيات هذه الفعاليات عليهم كسكان ومواضع الاستفادة منها قائلةً: “لعلّ هدف الفعاليات باعتبارنا هو محاولة من قبل الجهات التنظيمية للعودة إلى شارع الجميزة تحت شعار إنمائي، لكنها في الواقع لا تحمل أي استفادة إنمائية ومباشرة كما تدعي هذه الجهات، لأنه ببساطة شارع الجميزة لا يزال في صدّد لململة نكبة التفجير في 4 آب، وهذه الفعاليات تُقام في كل مرة من دون التنسيق معنا بحجة إنماء منطقتنا، لكننا نُعامل كما باقي المشاركين من جهة دفع رسوم الاشتراك في المعارض (رسوم باهظة) ومن جهة الأرباح، هذا بالرغم من الادعاء الذي يُفيد بأن غاية الفعاليات المُقامة هو مساعدة الأهالي في تجاوز نكبة 4 آب”.

 

وتُضيف نصار: “وبما أن هذه الجمعيات تدعي أن الأرباح كلها ستعود للمنطقة، فلتصرح هذه الجمعيات عن أرباحها وأين ستصرف لإنعاش المنطقة. لا فقط الاكتفاء بالوعود ومن ثمّ التمدد في المنطقة المنكوبّة وخدمة أصحاب المصالح التجاريّة فقط على حساب السّكان الذين تعرضوا لأسوأ أشكال العنف والأذى في 4 آب. هي ليست حركة سياحية استثنائية فنحن نعاني طيلة الأسبوع من هذه الحركة غير المنظمة، والتعديات على الشارع العام، والفوضى الأمنيّة، والضجيج المستمر ولشهر كامل. طرقاتنا في آخر الأسبوع مقفلة ومعطلة لصالح الفعاليات، ما لا يترك لنا لحظات ولو مؤقتة من الراحة والطمأنينة بسبب الضجيج والفوضى الدائمة. ما يضطر بعضنا للرحيل عن المنطقة. نحن لا ننكر دور مثل هذه الحركة في إنعاش الاقتصاد اللبناني لكن الانتعاشة التّي يستفيد منها أصحاب المصالح حصرًا باتت على حساب راحتنا وأماننا”.

 

قد يكون من الشطط إن أنكرنا أن لمثل هذه الفعاليات الأثر البالغ على إحداث تغيير ولو تراكميّ في المشهدية اللبنانيّة، وخصوصاً لدورها في تجميل وترميم صورة لبنان التّي شُوهت تباعًا، هذا التجميل الذي استقطب ويستقطب الزوار والسّياح ويساهم في حلحلة عجلة السّياحة المتعثرة، والاقتصاد اللبناني المخنوق. ولعلّ هذا التهافت على المؤسسات السّياحيّة الذي اشتاق له المقيمون، خصوصاً في شارعي الجميزة ومار مخايل اللذين شهدا صدمة الانفجار وما تبعها من تحديات إعادة الاعمار، هو بادرة خير وانشراحة معنويّة بسيطة على عكس ما تُروج له السّلطات في حملاتها الدعائية القائمة على المبالغة والترقيع.

زر الذهاب إلى الأعلى