«يبتلع الحكاية» للجزائرية حنان بركاني: عوالم متأرجحة بين الموروث الشعبي والأسطوري

النشرة الدولية –

القدس العربي – هدى الهرمي –

يقول غاستون بشلار «الخيالُ هو إرادةُ الزيادة في الوجود، والبحث عن معنى الحياة» وقد يتجلّى هذا الاعتقاد في رواية «8 يبتلع الحكاية» حيث من الواضح أننا ازاء عمل سرديّ محكوم بالحكايات المُشرّعة على عوالم من المفارقات العجيبة والممزوجة بالخيال، لكنه ليس بمنأى عن الواقعية السحرية، ومحاولة إحداث المعنى للوجود من خلال البحث والتقصي، ويعني هذا الأمر أنّ الكتابة لا تنفصل عن البحث، بل هي شكل من أشكاله، وهذا ما انتبه إليه العديد من الباحثين والكُتّاب، كمعطى يتطابق مع مرجعيّات الرواية المعاصرة، بما أنها تعكس الواقع وتقودنا للتأمل في سياقاتها الفكريّة ودلالاتها المرتهنة بقضايا الوجود.

ويُعدّ هذا المنتج الأدبي الثالث في فنّ الرواية للكاتبة الجزائرية حنان بركاني، الصادر عن دار كلاما للنشر والتوزيع 2020، وهو من القطع المتوسط ويضمّ بين دفّتيه 145 صفحة.

لقد راهنت الكاتبة في هذا المنجز الروائي ذي المرجعيّة الفكرية المتشعّبة، على اكتساح جانب مهمّ من كهف الإشكالات التي يواجهها المجتمع الإنساني ككلّ، وعلاقتها المشبوهة بالتطور العلمي والسلوكيّات البشريّة المُنضوية تحت راية الاستحواذ وفلسفتها الذرائعية للبقاء. وبين عالمين متناقضين تماما، نسجت رواية وثيقة الصلة بالموروث الشعبي والأسطوري، والواقع المزدوج بين الانغلاق والانفتاح، ونظريّة الوجود التي راودتها بقوّة لتسلط الضوء على شراسة العولمة وتجاوزها للمحذورات الأخلاقية والعلميّة، من أجل السيطرة على العقول البشرية، ضمن سياق سرديّ له مؤثّراته المتعدّدة، التي تتجاوز المحسوس لتراهن على البعد الروحي والماورائي، وهي تقنية أدبية تهتم بالجانب الميتافيزيقي للأشياء. وبما أن الرواية هي فنّ التجريد بامتياز، يظهر تقاطع الواقع والمتخيل في بناء روائي متسلسل، ليعكس تجربة ذات طابع حكائي قادر على مجاراة الأدب السينمائي إلى حدّ كبير، لتتقافز عناصر الصورة الفنية وطرائق صياغتها بين الإبصار والتعبير، فتفد إلى المتلقي كمؤثرات فاعلة في بناء العمل ككلّ. وربما هذه النتيجة تتفق مع مقولة الكاتبة والسيناريست الأمريكية جوليا كاميرون «الصورة الفريدة هي ما يُلحّ علينا كي يصبح فنّا». ثمّة علاقة عكسية في ابتكار الصورة كمشهد يعبّر عن حبكة نصية تشي بفرضية الاستدلال، ما يكسب حركية تأويلية ناتجة عن طبيعة الحكاية نفسها، فتغدو الصور إيحاءات وظلالاً لتحيلنا إلى تحديدات أكثر اتساعا في عوالم السرد، بغضّ النظر عن الزمان والمكان والشخوص.

كما تطرقت الكاتبة في الجزء الأول من الرواية (الوهم الأول) إلى عالم مُثلّث برمودا البحري، الذي يُعدّ الأكثر إثارة للجدل منذ منتصف القرن 19 إلى يومنا هذا، وضلوع جزيرة « أطلانتس» المفقودة في حوادث الاختفاء الغامض للسفن والطائرات، والاعتقاد بوجود بوابات زمنية لها علاقة مباشرة بالكائنات الفضائيّة. ولعلّ ما تتميّز به رواية (8 يبتلع الحكاية) هو تصنيفها ضمن الأدب العالمي المُنفتح على العديد من المعطيات المعرفية والتاريخية على حدّ السواء. في هذا الصدد يقول العالم الألماني يوهان غوتة، «إن كل نتاج أدبيّ هو إرث وأدب عالميّ» طالما أن العمل يزوّدنا بمعطيات فكرية وثقافية، تكشف عن مقوّمات إنسانية تتخطّى الخطوط الجغرافية وتحلّق بعيدا، بدءا بمدينة ساوث بيتش الأمريكية ( مدينة البحر الذي يلتهم الأشخاص) حيث تداخل العديد من الأحداث والشخوص لتنسج عالما يجمع بين الواقع والفانتازيا، ثم الانتقال الى بيئة الكاتبة المحليّة وهي قرية «عين آركو» الجزائريّة، لتنقل لنا عبر وقائع الحياة اليومية الافكار السائدة والمعهودة، إضافة الى الأوهام والأساطير التي تمثلّ نظاما بأسره.

 

إنها رواية تجمع بين السّرد العجائبي والواقعي لينسلّ مفهوم الهوية والذات البشرية المُكتظّة بتساؤلات الوجود والخلود. لقد نبشت البركاني في حفريّات الصراع البشري المستحوذ على تاريخه التراجيدي بكل ما أوتي من طاقات خارقة وما حقّقه من علوم متقدّمة.

 

ويُحسب لها هذا المزج الذكيّ بين عالمين، رغم ذلك الانحراف في نسيج «الزمكان» وهو تقنية دمج مفهومي الزمان والمكان بكل أبعاده الأربعة، أو الفضاء الرباعي عبر التشكيل في منطقة الأحداث، لتدفعنا مرّة أخرى إلى اكتشاف عوالمها السحرية في جزء ثانٍ (الوهم الثاني) فتستوقفنا وتشغلنا وتربكنا تلك الكتابة المترامية الأطراف والأصوات، بحكاية فاعلة في ذات المُتلقّي عبر شخصية جوهرية ومتسلطة. إنها «هبيلة» الجنيّة والمتحوّلة في جسد امرأة فاتنة، لتباغتنا وتدفعنا إلى محاولة فهم شتّى هذه العوالم المتأرجحة بين الأسطورة الشعبية ومدارات الواقع الإنساني المعطوب.

أما المكان الرئيسي فهو «الكهف نيمرو 8» أو الكهف العجيب الذي يأكل البشر بلا ملل، ولم يفك أحد لُغزه في «عين آركو» مسقط رأس الكاتبة، وهي قرية ريفيّة جزائرية تابعة لإقليم بلدية تاملوكة جنوب ولاية قالمة، ذات الإرث الثقيل أو أرض مناجم الزنك والكنوز، التي استقطبت كبار المُعمّرين، وما خلّفته الأسطورة الشعبية من قصص المُعذّبين في كهوف سحيقة، وصدى أرواحهم المتألمة. ورغم خيراتها الطبيعيّة ومجدها وتاريخها النضالي ضدّ الاستعمار الفرنسي، إلاّ أنها تعاني العزلة والمعاناة والبؤس. ‘نه المعنى السريالي للقرابين التي تُسفك دماءها لتسقي عطش المُعمّرين وأرباب المال والمهوسين بالعظمة والخلود، وقد تجلّى الأمر في النهاية المأوساوية للطفل الخميسي، الذي قدّمته «هبيلة « قُربانا ليهبها الحياة التي ترتقبها، رغم تردّدها بين التعاطف والخوف. لكن جنوحها إلى الذات المتسلّطة والمُزدوجة بخصائص تعود للفطرة المتماهية مع الاختلاف، كان أقوى من كلّ شيء. لتحقّق مآربها بالانتقال إلى عالمها المركزيّ، وتضمن البقاء والخلود للعائلة السعيدة التي ستجمعها بالابن الهجين «جاك» والزوج عالم الآثار «توماس» على أنقاض الشرّ والأنانية والاستحواذ.

إنها رواية تجمع بين السّرد العجائبي والواقعي لينسلّ مفهوم الهوية والذات البشرية المُكتظّة بتساؤلات الوجود والخلود. لقد نبشت البركاني في حفريّات الصراع البشري المستحوذ على تاريخه التراجيدي بكل ما أوتي من طاقات خارقة وما حقّقه من علوم متقدّمة ووسائل لتطويع الطبيعة في إرساء دعائم وجوده، وهيمنته على العالم الموسوم بإعادة اكتشاف الكون، أو «العالم الموازي» وأطماعه اللامتناهية وِفق منطق الخلود والانتقام من الآخر. في هذا السياق يقول الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي إدغار موران «الآخر هو النّظير والمختلف في الوقت نفسه، نظير بسماته البشريّة، أو الثقافية المشتركة، ومختلف بتميّزه الفردي، أو باختلافه العرقيّ، فالآخر يحمل فعلاً في دواخله الغرابة والتماثل». ويمكننا القول إن بركاني لديها مقدرة كبيرة على تحويل وجهة القارئ من خلال الأجزاء المُقحمة في سياق الرواية، كأنها تمنح عملها قدرا مُعتبرا من الدينامية والإيحاء، اللذين من شأنهما أن يتيحا لفعل القراءة ذلك الانفتاح والتأويل، كمجال أوسع لإثراء المعنى وإدراجه في سياق غير ثابت ودون حدود، ومن ثمّة، إتاحة فرص بناء تصّورات خلاّقة، دون الكشف مباشرة عن اليقظة الفكرية والوعي الأدبي، فقط حقول مُلغمّة بالدلالات، مثل بلورة سحرية تسكنها تلك القوى الخفية لإعادة تركيب الحكاية ككلّ.

زر الذهاب إلى الأعلى