الانتخابات الرئاسية التركية.. معطيات ومؤشرات مُحْدِّدة
بقلم: د. سنية الحسيني

النشرة الدولية –

تأتي الانتخابات الرئاسية التركية في جولتها الثانية، اليوم، لتحسم نتائج الانتخابات بشقيها الرئاسي والتشريعي، والتي عكست انقساماً في توجهات الشارع التركي، لأول مرة منذ عقدين كاملين، وفضحت متابعة واهتماماً غربياً تطلع لتغيير نظام الحكم في البلاد. وقد يعود ذلك للانقسام الذي يشهده الشارع التركي في هذه الانتخابات لطول سنوات ولاية الرئيس رجب طيب أردوغان وحزبه «العدالة والتنمية» الحاكم خصوصاً في ظل الاضطرابات الاقتصادية التي أصابت تركيا خلال السنوات الأخيرة. وعكست هذه التجربة الانتخابية وعي الشعب التركي السياسي وحرصه على مستقبل بلاده بعيداً عن التدخلات والتأثيرات الخارجية، وقد ساعده في ذلك عاملان متلازمان؛ يتعلق الأول بثقافة الديمقراطية التي تأصلت في البلاد منذ عقود، وهي طريق وحيد للوصول إلى النضج الديمقراطي، والذي لا يأتي فجأة دون تدريب أو ممارسة فعلية، ويرتبط العامل الثاني بالمشاعر القومية القوية والمتأصلة في الشخصية التركية، التي ترفض التبعية للآخر، وتفضل الاحتفاظ بجوهر هويتها. وقد يكون العامل الثاني من بين أهم عوامل دعم الشعب التركي بأغلبيته لأردوغان وحزبه، حيث تصاعد هذا التوجه بشكل واضح خلال سنوات حكمه، لدى جميع الاتجاهات السياسية في البلاد، بالإضافة إلى إحياء التوجه الديني المحافظ، والذي لا ينفصل بأي حال من الأحوال عن التوجه الأول.

وقد يكون التفسير الرئيس للموقف الأميركي تجاه أردوغان وحزبه في هذه الانتخابات، والذي تجسد بوضوح في دعوة جو بايدن لقوى المعارضة التركية للاتحاد للإطاحة بأردوغان، النزعة الاستقلالية عن الغرب في السياسة الخارجية التركية التي أرساها الرئيس التركي على مدار العقدين الماضيين، والتي تختلف جذرياً عن سياسة تركيا في العهد السابق. ولا يدلل الموقف الأميركي والغربي بالتشكيك في البداية بمدى انصياع أردوغان وحزبه لنتائج الانتخابات، وبالتشكيك بعد ذلك بنزاهة الانتخابات، بعد أن بدأت النتائج تظهر لصالح أردوغان وحزبه، والتي أكدت منظمات عديدة غربية على مصداقيتها، في ظل صمتها على التزوير في الانتخابات في بلاد أخرى لصالح حلفائها، إلا على عقلية استعمارية تستخدم شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان الواهية، للتلاعب في بلاد العالم الأخرى، على حساب مصالحها واستقرارها. وقد يكون من مصلحة الفلسطينيين بقاء أردوغان وحزبه في الحكم، انطلاقاً من استقلالية القرار السياسي التركي الخارجي، وذلك بوجود دولة قوية في الشرق الأوسط لا تتبع للغرب، خصوصاً في ظل حقيقة تؤكد عداء الرأي العام التركي بغالبيته لدولة الاحتلال الإسرائيلي، فحكومة تركية تابعة لأميركا والغرب ستقترب تلقائياً من إسرائيل على حساب الفلسطينيين.

عكست نتائج الانتخابات البرلمانية وحتى الرئاسية في جولتها الأولى، التي جرت منتصف الشهر الجاري، عدداً من الملاحظات، التي تفسر الواقع السياسي القائم في تركيا حالياً، وتساعد على استشراف نتائج انتخابات، اليوم. قد يكون من أهم تلك الملاحظات، تراجع تأييد حزب «العدالة والتنمية» في الشارع بشكل تدريجي، والذي انعكس على ثقله في البرلمان. فحصد ٣٥.٥٨% من مقاعده في هذه الانتخابات، بينما سيطر على ٤٢.٥٢% من مقاعده في الدورة السابقة. وشكل الحزب قبل العام ٢٠١٤ الحكومة منفرداً، دون الحاجة لأي حزب آخر لدعم بقائه في السلطة. إن التراجع في تأييد الشارع لأردوغان وحزبه فتح الباب أمام حدوث نوع من الانقسام في المجتمع التركي، عكسته هذه الانتخابات بوضوح. ومن أهم مظاهر ذلك الانقسام، فشل أردوغان في حسم نتائج الانتخابات الرئاسية في الجولة الأولى للمرة الأولى منذ انتخابات العام ٢٠١٤، وحصل منافسه كمال كليجدار أوغلو على نسبة تأييد غير معهودة، لأي منافس وقف أمامه في الانتخابات من قبل. كما انخفضت نسبة تأييد حزب «العدالة والتنمية» بنسبة ٧% مقارنة بالانتخابات السابقة. ناهيك على أن تحالف الجمهور الحاكم بات لا يقوى على تعديل الدستور الذي يتطلب موافقة ثلثي الأصوات، أو حتى اتخاذ قرار باستفتاء الشعب الذي يتطلب موافقة ٦٠% من أعضاء البرلمان، وهو ما لم يحصله التحالف الحكام في الانتخابات الأخيرة. ورغم ذلك التراجع إلا أن هذه الانتخابات أثبتت أن الشعب التركي بغالبيته لا يزال يثق بأردوغان وحزبه، رغم طول عهده بالسلطة، ورغم الاضطرابات الاقتصادية التي أصابت البلاد في السنوات الأخيرة، ما يوجب عليه تعديل سياساته لضمان بقائه في الانتخابات القادمة.

وهناك عوامل ترجح بقاء أردوغان على سدة الحكم في انتخابات الجولة الثانية الدائرة، اليوم، لعل أهمها: تراجع معنويات المعارضة بسبب نتائج الجولة الرئاسية الأولى والانتخابات البرلمانية، في ظل عدم وجود مؤشر على خفوت همة الناخبين عموما في المشاركة في انتخابات، اليوم، بعد أن ارتفعت أعداد المشاركين في التصويت من الخارج. ووجود فارق كبير في الأصوات لصالح أردوغان في جولة الانتخابات الأولى، حيث زادت أصواته عن الأصوات التي جمعها أوغلو فيها عن ٢.٥ مليون صوت، وهي فجوة من الصعب ردمها بسهولة. وخسارة أوغلو لحجته الأساسية لحشد الأصوات بتغيير النظام السياسي التركي إلى النظام البرلماني بدل النظام الرئاسي الذي تم إرساؤه في العام ٢٠١٧، بينما تبدو حجة أردوغان أكثر واقعية في الحفاظ على مصلحة البلاد، من خلال انتخابه، لتحقيق الاستقرار السياسي والانسجام مع نتائج انتخابات البرلمان. يمتلك أردوغان في هذه الانتخابات كتلة انتخابية صلبة، ترجمت في نتائج انتخابات البرلمان الأخيرة التي جاءت لصالح تحالف الجمهور الحاكم، وفي انتخابات الجولة الرئاسية الأولى التي صبت لصالحه، وبلغت على التوالي ٤٩.٤٦% و٤٩.٥%، بينما لا يملك أوغلو وتحالفه الشعب الجمهوري تلك الكتلة الانتخابية الصلبة، والتي تباينت ما بين نسبة دعمه التي وصلت في الجولة الرئاسية الأولى إلى ٤٤.٨٩%، بينما حصد تحالفه في انتخابات البرلمان ٣٥.٢%. وأدت نتائج الانتخابات البرلمانية الحالية والجولة الرئاسية الأولى إلى سيطرة حالة من الإحباط لدى المعارضة، التي جادلت قبل الانتخابات حول تقدمها الكبير في استطلاعات الرأي، وترجم ذلك الإحباط باستقالات من داخل تحالف المعارضة نفسه، في أعقاب إعلان النتائج، ما قد يعكس نتائج انتخابات، اليوم. كما تعكس نسبة المشاركة الشعبية العالية في الانتخابات، والتي يبدو أنها لن تنخفض في جولة الانتخابات الرئاسية الحالية، بعد أن ارتفعت نسبة مشاركة الخارج فيها، أن عدد المترددين محدود، ما يضعف مناورة أوغلو في هذه الجولة.

في ظل تصاعد النزعة القومية عموماً في تركيا، حصد حزب الحركة القومية المتحالف مع أردوغان في الانتخابات البرلمانية الأخيرة أصواتا تفوق حزب «الجيد» الذي انفصل عنه، وانضم لتحالف الشعب الجمهوري المعارض على عكس التوقعات، الأمر الذي لا يضمن ذهاب الأصوات القومية لأوغلو. ويبدو التخبط واضحاً في مواقف أوغلو، مؤخراً، وذلك بسعيه لجذب تحالف الأجداد، خصوصاً بعد توجه مرشحه الرئاسي سنان أوغان القومي الراديكالي، لتأييد الرئيس أردوغان. فتوجه أوغلو لنيل تأييد شريكه في التحالف وأبرم صفقة مع أوميت اوزداغ رئيس حزب النصر القومي الراديكالي، مستخدماً لهجة تصعيدية ضد اللاجئين، لكسب مزيد من أصوات القوميين، ونسي موضوع الربيع الذي سيجلبه لتركيا. في المقابل، قد تفقد تلك الصفقة أوغلو أصواتاً للأكراد حصل عليها بالفعل في الجولة الانتخابية الأولى، ومنحته حوالي ٨% من مجمل نسبة الأصوات التي حصدها، خصوصا أن الصوت الكردي ليس مضمونا تماما له. ففاز أوغلو في معظم المحافظات الكردية في الجنوب والجنوب الشرقي، بينما لم يحصد حزب الشعب الجمهوري الذي يقوده إلا على مقعد واحد في تلك المناطق، كما فاز في المدن الكبرى وعلى رأسها إسطنبول وأنقرة بفعل تأييد الأصوات الكردية أيضاً، في انتخابات الجولة الأولى الرئاسية، بينما فاز تحالف الجمهور الحاكم بقيادة أردوغان في تلك المدن في الانتخابات البرلمانية، الأمر الذي لا يشير لضمان حصوله عليه في هذه الانتخابات. يواجه أردوغان انتقاداً من القوميين، الذين يرفضون سياسته تجاه اللاجئين، فجاء رده على تلك القضية بالتأكيد أن بلاده ستعيد اللاجئين السوريين، الذين بلغ عددهم حوالي ٣.٥ مليون بطريقة ملائمة تتناسب مع تعاليم الإسلام، وبالفعل، سعى في الفترة الأخيرة لتطبيع العلاقات مع الرئيس السوري لتحقيق ذلك الهدف. إلا أنه لم يتمكن من استعادة الصوت الكردي الذي درج على حصده في الانتخابات السابقة.

ساعات وستحكم صناديق الاقتراع وتحدد رئيس تركيا لخمس سنوات قادمة.

زر الذهاب إلى الأعلى