يوم الانتخابات: ابتلعت بيروت سكانها وبقيَ صوت برّي اللامبالي

النشرة الدولية –

المدن – بتول يزبك –

تمامًا كما كانوا يتوقعون أن يحدث في 14 حزيران، أي أن يقع الحدث المهيب وأن تتحول الانتخابات الرئاسيّة لمسرحيّةٍ بشعة، متحذلقة، منفلتة من أي مبدأ “ديمقراطي” يجري فيه تداول السّلطة كإرادة شعبيّة شرعيّة مُحقّة. حدث ما كان متوقعًا حدّ السّورياليّة، أن تُجهض آمالُ شعبٍ بأكمله، وسط صمتٍ تامّ، خواء فاجر، إذعان مُحرج.. حدث ما هو طبيعيّ أن تضيع دولةٌ بشعبها وبرلمانها وحكومتها على منوال ضياع ورقة تصويت.

 

جولة واحدة في “فان رقم 4″، بين موقف الجامعة اللبنانيّة في الحدث (أول حيّ السّلم في الضاحيّة الجنوبيّة) مرورًا بتخوم الأشرفيّة وصولاً لمشارف الحمرا (مشفى الجامعة الأميركيّة) تكفي للقول بأن الشعب اللبناني كان منذ صباح اليوم المُرتقب والمشحون بالآمال والخلافات، يستشرف الأسوأ ويتنبأ الكارثة التّي قد تحدث في كل السّيناريوهات، أصعد رئيسٌ أم فشلت الجلسة الانتخابيّة. يتساءل سائق الفان، راكنًا مركبته المتهالكة على مفرق “الكنيسة”، على مضض “هل هناك عطلة رسميّة اليوم؟” يُجيبه أحد الركاب “اليوم انتخاب رئيس، خلص نقليتك وارجع ع بيتك، بركي صار شي”.

 

الأشرفيّة كما الضاحيّة الجنوبيّة تترقب.. الشوارع منذ الصباح فرغت من المارين والمتسوقين والمتنزهين وحتّى المتسولين. المقاهي على امتداد مونو والجميزة ومار مخايل والحمرا وبدارو وأوتوستراد “هادي نصرالله” وجسر الصفير وكنيسة مار مخايل، فارغة. المتاجر مُغلقة، الطرقات العامة والجسور مفتوحة، الطريق من الضاحيّة إلى الأشرفيّة سالكة لا يُعكر صفوها إلا بعض السّيارات المارّة، ساحة الشهداء ورياض الصلح والنجمة، غاصةٌ بالبدلات المُرقطة والكاميرات، منتصف الأسبوع في بيروت عاديٌّ إلى درجة استثنائيّة.

 

بيروت ابتلعت سكانها على حين غرّة. وبقي صوت نبيه برّي، الصوت الوحيد الذي يدوي في أرجاء العاصمة المتوجسة. صوته اللامبالي، في التلفاز والراديو والهواتف.

 

أكان توجسًا أم ترقبًا وتحضيرًا لحربٍ أهليّة أو حتّى تسليمًا مطلقًا لخيبة أخرى.. لا أحد يعلم. لكن، لأول مرّة اجتمعت العاصمة بمسلميها ومسيحييها ويمينها ويسارها والمُتحيّرين والحياديين، على الصمت. لأول مرّة لم ينتصر شعار “شيعة شيعة” ولا “أوعى خيّك” أو حتّى “كلن يعني كلن”.. المُنتصر الوحيد كانت الحقيقة المُجرّدة أن هناك تسليمًا مطلقًا عند اللبنانيين: ملّل وتوقع مصائب ونزعة ملّحة للإحجام عن المبادرة، أكان بحربٍ أم بثورة.

 

تنتهي الجلسة، وينقطع البثّ المباشر من البرلمان. ما هي إلا دقائق، دقائق تكثفت فيها الأماني والخلافات والتوقعات وتفجرّت بحركة مرورٍ مباغتة، ضجيجٍ وجلبّة وتزاحم مفرط، كأن بيروت بسكانها وموظفيها ومتاجرها ومقاهيها ومحال الفول والفلافل وجوامعها وكنائسها وسياراتها ودراجاتها الناريّة أرادت أن تعوض ساعات الانتظار الطويل بلا جدوى في دقائق معدودة. تُريد تنفيس الاحتقان وربما الاغتياظ. تُريد العودة لحالتها الطبيعيّة المتأقلمة اللامباليّة العبثيّة.

 

أصعد رئيسٌ أم لا، أوقفت ستريدا جعجع وبولا يعقوبيان وحسين الحاج حسن، يبررون التعطيل والفشل وانتفاء دستوريّة الجلسة الفكاهية، أم لا.. الحقيقة البارزة: سقط البرلمان مجدّدًا اليوم 14 حزيران من أعين الشعب اللبناني (أو بعضه). وجدد حزب الله تمسكه بنهجه الموغل بالمغالاة والفوقيّة، وأثبت التغييريون تشتتهم مرّة أخرى، وأكدّ السّنة على إحباطهم المقيت، وشعار “أوعى خيّك” أماط اللثام عن هشاشته للمرة الألف.

 

يقف الشعب المتفرج اليوم على مأساته ونكبته الاعتباطيّة، لا اتهام مباشراً قد يُحجّم التفاهة المُحيطة، لا تمني أو ثورة أو غضباً عاماً من شأنه أن يجعل من الواقع أقلّ إيلامًا. فيما ينتصب الرئيس المستحيل فوق رابية بعبدا، في بعدٍ موازٍ (طبعًا) يضحك على اللبنانيين ونوابهم، وحكومتهم المستقيلة وعاصمتهم وشتاتهم ومحاولاتهم المستميتة للعيش رغمًا عن ذلك.

Back to top button