التحولات في التكتيك العسكري والخيارات المتاحة للمتحاربين في أوكرانيا
بقلم: أكرم كمال سريوي
النشرة الدولية
برافدا
بعد مضي حوالي عام وأربعة أشهر على الحرب في أوكرانيا، تكشّفت حقائق عديدة حول ما حصل وسيحصل، وكل ذلك بدّل من تكتيكات الحرب لدى الطرفين، وسيكون دروساً في الحرب، تُدرّس مستقبلاً في كافة المعاهد العسكرية في العالم، وستُغيّر الكثير من المفاهيم، وأساليب القتال والتكتيك العسكري القديم.
الحرب الإعلامية طغت على الحقائق، وبات المواطن العادي، وحتى كبار الضباط العسكريين، يقعون ضحية التضليل والتشويش والدعاية والفيديوهات المفبركة عن هذه الحرب.
محللون عسكريون وصحافيون كُثُر، وغالبيتهم تحدّثوا عن فشل التكتيكات الروسية، وضعف الجيش الروسي، وعدم التنظيم، والخسائر الفادحة التي ألحقها به الجيش الأوكراني، الذي تلقى منذ 2014 تدريبات غربية، وبات يعتمد على التكتيك العسكري لحلف الناتو، الذي وفق رأيهم، أثبت تفوّقه على تكتيك الجيش الروسي القديم.
فهل فعلاً كان الجنرالات الروس بهذا الجهل والغباء وعدم الخبرة؟ وهل الجيش الروسي حقاً هو جيش ضعيف؟
إن مساحة أوكرانيا أكبر من مساحة سوريا والعراق معاً، وطول حدودها مع روسيا 1576 كلم، وهذه جبهة تحتاج إلى حوالي 60 فرقة عسكرية للدفاع عنها، (أي أكثر من 600 ألف عسكري).
عادة يتم التخطيط للهجوم بنسبة تفوّق 3 إلى واحد، واستناداً إلى العلوم العسكرية، فإن الجيش الروسي كان يحتاج الى أكثر من مليون جندي، لشن هجوم من ثلاثة محاور على أوكرانيا.
فلماذا اكتفى بحشد أقل من 200 ألف جندي؟؟؟
من يتهم الجيش الروسي بالغباء والضعف وعدم الخبرة بالقتال، هو إما شخص ليس لديه خبرة عسكرية وجاهل بما حدث، ومأخوذ بما يسمعه في وسائل الإعلام المنحازة، إما صحافي أو عسكري يتحدث بخلفية عدائية نحو روسيا.
إن الجيش الروسي بكل تأكيد لا تنقصه المعرفة والخبرة، ولديه أحدث الأسلحة والوسائل لخوض معركة ناجحة، ولا يُمكن أن يرتكب خطأً تكتياً بهذا الحجم، لكن الخطأ وفق بعض التحليلات المنطقية، كان في التقديرات السياسية، بحيث تم التخطيط لعملية عسكرية محدودة، مع استبعاد أي تدخل أو دعم غربي لأوكرانيا في الحرب.
في البداية شلّت القوات الروسية الدفاعات الأوكرانية، وعطّلت نُظم الاتصالات واللوجستية، وتقدمت القوات المهاجمة بسرعة، واجتاحت مناطق واسعة، وكانت الدفاعات الأوكرانية ضعيفة، ووصل الروس خلال أيام إلى مشارف العاصمة كييف.
لكن الوضع تغيّر بسرعة، بعد أن دعم حلف الناتو الجيش الأوكراني بأسلحة حديثة، خاصة صواريخ جافلين وستنغر، والأهم أنه وضع بتصرفه مجموعة أقمار صناعية، لتأمين المراقبة والاتصالات، وزوّده بكل التفاصيل عن حركة القوات الروسية.
بعض المحللين عزا توقف الرتل الروسي شمال كييف، إلى نقص اللوجستية، وسوء التخطيط للمعركة، وأن الروس انسحبوا تحت ضغط العمليات الهجومية الأوكرانية، رغم أن العمليات الهجومية الأوكرانية يومها كانت محدودة جداً، وغير صحيح أنه لم يتم تأمين الدعم اللوجستي المطلوب للقافلة، فالقواعد اللوجستية الروسية كانت قد تبعت القافلة وتمركزت في منطقة تشيرنوبيل، وأمدّت القافلة بكل ما يلزم.
في اليوم التالي للهجوم الروسي طلب الرئيس الأوكراني زيلينسكي من الرئيس الفرنسي ماكرون التحدث مع الرئيس الروسي بوتين، لبدء حوار بين روسيا وأوكرانيا، وأعلن استعداده للقاء فلاديمير بوتين، وقام ماكرون فعلاً بالاتصال ببوتين، الذي وافق على المفاوضات، لكن في الساعة الثالثة من بعد ظهر ذاك اليوم، اتصل الرئيس الأمريكي جو بايدن بزيلينسكي، وطلب منه عدم التفاوض مع بوتين، ووعده بتقديم كل ما يلزم لتحقيق النصر على روسيا.
في اجتماعه مع قادة دول أفريقية الأسبوع الفائت، كشف بوتين عن وثيقة تم توقيعها في اسطنبول، بين وفدي المفاوضات الروسي والأوكراني، بحيث وافق الجانب الأوكراني على إعلان حياد أوكرانيا، وعدم الدخول إلى الناتو، وتنفيذ اتفاق مينسك، واستناداً إلى ذلك قال بوتين : انسحبت القوات الروسية من قرب العاصمة الأوكرانية.
فمن الذي منع أوكرانيا من تنفيذ الاتفاق، ودفعها إلى التضحية بهذا الكم الهائل من الخسائر المادية والبشرية؟؟؟
من ناحية سياسية، وفق تصريحات بوتين، كان انسحاب القوات الروسية من مشارف كييف، في 22 نيسان 2022، مبادرة حسن نية، لتنفيذ الاتفاق الذي حصل في اسطنبول في بداية شهر نيسان 2022 مع كييف.
لكن من وجهة نظر عسكرية، يمكن اعتبار ذلك خطأً استراتيجياً وتكتياً كبيراً، فعادةً يتم تركيز الهجوم الرئيسي للقوات على عاصمة الدولة، التي بسقوطها تسقط السلطة السياسية، وتنهار باقي الجبهات، وتنتهي الحرب.
يقول الروس بأن كييف هي من المدن السوفياتية المصنّفة بنتيجة الحرب العالمية الثانية “مدينة بطلة”، ولا يرغبون بتدميرها أو احتلالها عسكرياً، وكان هدف توجيه القوات نحوها هو فرض تطبيق المطالب الروسية، دون دخول المدينة، ودون إسقاط السلطة السياسية فيها، ولذلك هم أعلنوا استعدادهم للتفاوض مع سلطات كييف، منذ اليوم الأول للحرب
إذا سلمنا جدلاً بالتبريرات الروسية، يكون ما فعلوه من انسحاب وتجميع للقوات في الشرق، هو خطوة تكتية ناجحة، خاصة بعد أن اتضح لهم أن حلف الناتو، دخل بكل ثقله في الحرب، وأن القوات الأوكرانية تفوق عددياً، القوات الروسية التي تشترك في العملية العسكرية بثلاث مرات.
الجيشان الروسي والأوكراني من نفس المدرسة العسكرية، وهما من أقوى الجيوش في العالم، ولا يمكن اتهامهما بنقص المعرفة، ولو كان أي جيش غربي يقاتل مكان أحدهما، وتلقى هذا الكم من الخسائر، لتوقف عن القتال، لكن الأوكران يستبسلون في الدفاع عن وطنهم، والروس مقتنعون بعدالة قضيتهم، ولذا تستمر الحرب.
من يعتقد أن هناك جيش لا يرتكب أخطاءً في الحرب، فهو شخص غير واقعي، ومع تطور وسائل القتال، باتت تكتيكات العمليات العسكرية تتغيّر بسرعة كبيرة، والخسائر فادحة جداً.
إن دخول الدرونات ،والطائرات دون طيار، والصواريخ الحديثة المضادة للدبابات والطائرات ، والصواريخ الفرط صوتية، وأجهزة الاتصال والمراقبة الفضائية والجوية، كل ذلك يحد من دور الدبابات، والأليات المدرعة، ويجبر القوات على التخطيط بشكل مرن، للدفاع المتحرّك، والهجوم السريع والالتحام مع العدو.
بعد هذه المدة من المعارك تعلّم الجيشان من أخطاء الأمس، وأصبحت الحرب معركة استنزاف طاحنة، لا يريد أي طرف فيها أن يتراجع، ويراهن على تعب ووهن الطرف الآخر، وضعف إرادة القتال لديه.
لكن المشكلة أن خيار أوكرانيا الوحيد هو القتال حتى تحرير أراضيها، أو على الأقل التفاوض من موقع الند لروسيا.
أما روسيا فالهزيمة بالنسبة لها ليست خياراً، لأنها تعني ببساطة نهاية روسيا، وبالتالي الخيار الوحيد أمامها أيضاً هو تحقيق ما أعلنته من أهداف لهذه العملية، إمّا بالتفاوض، وهو مرفوض حالياً من قبل أوكرانيا والغرب، وإما باستمرار القتال حتى استنزاف الدول الداعمة لأوكرانيا ووقف الدعم.
لكن الغرب ما زال قوياً ومصرّاً على إلحاق الهزيمة بروسيا.
في الخلاصة الحرب مستمرة، ولا فرصة للسلام الآن، لأن أمريكا صاحبة القرار الرئيسي، ما زالت تربح وتستثمر مادياً وسياسياً في هذه الحرب، ورغم أن التوقعات الغربية بانهيار الاقتصاد الروسي خلال ثلاثة أو ستة أشهر على أبعد تقدير لم تَصدُق، لكن الدول الغربية ما زالت تراهن على إضعاف روسيا، وتراجع بوتين، وتريد إلحاق الهزيمة بها بأي ثمن.
أما أوكرانيا فباتت رهينة من يقدم لها الدعم، والآن يتم تدميرها بالكامل، فخسائرها المادية باتت تفوق500 مليار دولار، وفق تقديرات الأمم المتحدة، عدا عن الخسائر البشرية الهائلة.
تبدو روسيا عالقة في الوحل الأوكراني، فلا يمكنها التراجع، ولا أحد يريد أن يرمي لها طوق النجاة، بحل يلبي مطالبها ويحفظ ماء الوجه، ولذا ستستمر في القتال، وتستعد لرفع وتيرة الحرب، في الأشهر المقبلة، وستدفع بمزيد من القوات إلى الجبهة.
وحتى أوروبا المكلومة من هذه الحرب، والتي باتت تعاني من تبعاتها اقتصاديًا، تبدو فرحة بتضرر روسيا، وتنتظر هزيمتها بفارغ الصبر.