نساء يقتحمن مهن الرجال ويُغامرن: من القصّ إلى الطبل فالـ”دريفتينغ”
تستمتع بلعِب الطاولة مع الزبائن... ومن يربح منهم يحصل على "قصّة ببلاش"
النشرة الدولية –
نداء الوطن –
كارين عبد النور
بعضهنّ لم يسمَحْنَ للقيود بأن تحدّ من طموحهنّ، فتمرّدنَ واقتَحمْنَ مِهناً طالما دمغها المجتمع كَحكرٍ على الرجال. وأخريات مارسْنَ هوايات «رجّالية» بلمسات أنثوية فَكَسرْنَ صورة نمطية ملاصقة للمرأة الشرقية. لبنانيات كثيرات مَرَرْنَ بهذه التجربة أو تلك. لكن حين تصبح الحاجة بالذات سيّدة الموقف، ترى المرأة اللبنانية «أخت الرجال». بين الحاضر والماضي، جولة عبر الزمن على باقة من تلك القِصص والعِبر.
الهوايات تستحيل طموحاً. هكذا تحوّل حلم أنجي وهبة، ابنة العشرين عاماً، والذي راودها منذ سبع سنوات، إلى حقيقة قبل أشهر قليلة. عِنادها وطموحها فعلا فعلهما. فمعارضة والدها والمجتمع لم يمنعاها من افتتاح صالون الحلاقة الرجالي الخاص بها في بلدتها، كفرشيما. «لقد عمِلت كموظفة في صالونات حلاقة للرجال منذ كنت في الثالثة عشرة من عمري، وزبائني يتنقّلون معي أينما حللت. لكن حين تكونين موظفة، يكون دورك محدوداً حتى أن البعض لا ينتبه أصلاً لوجودك. فكلِمتك غير مسموعة وحقوقك أحياناً مهدورة. أما حين تصبحين «صاحبة المحل»، فينظر إليكِ الجميع بطريقة مختلفة، ويولد لديكِ شيء من الكبرياء». أنجي تعترف بأنها لاحظت مراراً استغلال البعض للعنصر النسائي في توظيفها، رغم أنهم لم يعبّروا عن ذلك صراحة. «كنت أقوم بتنظيف الكراسي ولا أخجل من النقطة التي انطلقت منها… فها أنا اليوم أنظّف صالوني الخاص بنفسي».
يقصد صالون أنجي يومياً ما لا يقلّ عن 25 زبوناً يأتون من الشمال والجنوب كما من زحلة وكسروان. فهل كونها فتاة يساعد على استقطاب المزيد من الزبائن؟ «ربما نعم لمرة أولى، لكن الزبون لا يكرّر زيارته إلّا إذا أحب العمل وأُعجب بالنتيجة». هي تسعى لِخلق أجواء مميزة داخل الصالون. تستمتع بلعِب الطاولة مع الزبائن، ومن يربح منهم يحصل على «قصّة ببلاش». الوالد عارض بشدّة في البداية، كونه على يقين بتفكير الشباب في مجتمعنا الشرقي الهوى. لكن هو من ساعدها في إتمام ديكور صالونها إلى جانب دعم والدتها وخطيبها ورفاقها الفخورين بها. «كان يراودني قلق دائم ألا يقبل أهل خطيبي بهذه المهنة لزوجة ابنهم المستقبلية، لكنني أدركت أن الثقة تلعب دوراً أساسياً في العلاقة». أنجي تحلم بافتتاح فروعٍ أخرى داخل لبنان وخارجه. وأرادت توجيه رسالة إلى كل فتاة وامرأة: «آمني بما تقومين به واتبعي المهنة التي تجدين نفسك بها طالما أنكِ لا تحيدين عن قواعد الآداب. الحلم يجب أن يتحقق… فلا تتخلي عنه لأي سبب كان».
داخل الحلبة… وخارجها
من حلاقة الشعر إلى رياضة «الدريفتنغ». وتحديداً مع إيلينا سويد، الحائزة على بطولة لبنان للسيدات العام الماضي وأول مدرّبة لهذه الرياضة في الشرق الأوسط. «أحببت السيارات والدراجات النارية منذ الصِغر، لكنني لم أفكّر يوماً بممارسة «الدريفتينغ» حتى عمر الـ21 حين اكتشفت شغفي المطلق بها. فحين أكون خلف المِقود، أشعر بانفصال تام عن العالم الخارجي وأزيل عني كل أشكال التوتّر. عندها لا أفكّر بشيء… عندها أشعر فقط». رحلة إيلينا لم تكن سهلة. بدءاً بمعارضة الوالدين وصولاً إلى نظرة المجتمع. فتاة «الدريفتينغ» لا أنوثة لديها وهي، مهما حاولت، لن تتمكن من مقارعة الرجل. هكذا يقولون. «مهما تظاهرنا بالقوة، لا بدّ وأن نتأثر بحكم المجتمع علينا. فقد عانيت من اكتئاب شديد وامتنعت عن رؤية أحد وتوقّفت عن ممارسة «الدريفتينغ» لنصف عام تقريباً. المجتمع نجح فعلاً بإقناعي بأن أنوثتي ذهبت ولن تعود. لكن بمساعدة البعض – لا سيما خطيبي – انتفضت على نفسي وتخطّيت المرحلة».
إيلينا لم تنكر أنها مجبرة على «نَزْع» أنوثتها وتركها خارج السيارة. لكنها تؤكّد أنها لا تلبث وتعيد «ارتداءها» بعد أن تترجل منها. هي تدرك جيداً التوقيت المناسب لتبنّي هذه الحالة وتلك. تشجيع الأهل بعد معارضة شديدة ومحبة الجمهور يشعرانها بالسعادة. وحث الأولاد على حب هذه الرياضة سعيٌ دائم لديها. لقد أرادت أن تثبت دوماً أن باستطاعة أي فتاة الوصول بجدارة إلى حيث تريد ومواجهة تعقيدات المجتمع الشرقي. واليوم تقوم مع خطيبها بتعليم أصول هذه الرياضة. «بعض التلاميذ لا ينظرون إليّ نظرة جدّية ولا يستمعون لتعليماتي لمجرّد كوني فتاة. فهُم لا يقتنعون منّي إلّا بعد أن أريهم التطبيق بنفسي من خلف المِقود». ثمة حلم مرافق للشغف هنا أيضاً. فإيلينا تطمح لتحقيق الأعلى واضعة الوصول إلى العالمية نصب أعينها. ومشاركة عدد أكبر من الفتيات في مسابقات «الدريفتينغ» أمر تشجّع عليه لكسر القيود والحواجز خارج الحلبة والأرقام داخلها.
للطبل ملمسٌ آخر
من الرياضة إلى الموسيقى. وتحديداً إلى مهنة التطبيل مع اللبنانية – الكندية جيني سي (Jenny C.). عشقها للموسيقى كان ظاهراً للعيان منذ نعومة أظافرها. «كنت كلما رأيت أحداً يدقّ على الطبل، أحثّ والدي على الطلب إليه إعارتي إياه. كنت في التاسعة وقتها وكان الطبل أكبر مني، ما كان يثير غضب الموجودين خاصة وأنني أستخدم يدي اليسرى». والد جيني كان الداعم الأول لها، غير أن باقي أفراد الأسرة نصحوها بالغيتار أو البيانو لما فيهما من مظاهر أنثوية. ذلك لم يمنعها من المثابرة وتحدّي عقبات الصورة النمطية عن ارتباط مهنة التطبيل بالرجل. غادرت إلى كندا في العام 2019 عندما بلغت الـ18. وتسعى باستمرار لتقديم عروض مختلفة وابتكار أفكار جديدة مع الإبقاء على الموسيقى الوطنية في الحفلات والأعراس كما في المهرجانات التي تشارك فيها. «لبنان في قلبي وكل طبل لديّ يحمل إما العلم أو الأرزة اللبنانية. أما هدفي فهو تمثيل بلدي بأبهى صورة».
الثقة ثم الثقة. فهي أبرز ما منحه الطبل لجيني حيث كثيرون ما زالوا غير متقبّلين للفكرة. «لقد أصبح الطبل جزءاً لا يتجزأ من هويّتي. بالنسبة للبعض، الضرب على الطبل مرادف لجيني. لكل طبل بحوزتي قصة ومن خلالها وصلت لأكبر عدد ممكن من الجمهور. لا شك أنها سرقت بعضاً من صحتي لأنها متطلّبة جسدياً. لكنها لم تمسّ أنوثتي لأن الإنسانة بداخلي لا يبدّلها طبل أو سواه». لا بل أكثر. فجيني ضليعة بتصليح الطبول المكسورة أو الممزّقة الأسطح. والطبالون الشباب يقصدونها لتركيب أشرطة LED لطبولهم. «للطبل ملمس آخر حين يكون بين يديّ أنثى. لا تنقصنا معرفة أو ذكاء أو قدرة على الابتكار. والأجمل أن يدعمنا الرجل برحابة صدر طالما أننا نقدّم عملنا بالشكل الصحيح».
العمل ليس عيباً
لكن بين الشغف والحاجة تختلف الحكاية. قصة ميرنا الغصين بدأت حين تعرّض زوجها لحادث وكان لديهما ثلاثة أولاد. ذلك اضطرها إلى مساعدته في الملحمة التي يملكها. «عندما تتزوّج المرأة وتُرزق بأطفال، يصبح من واجبها التضحية أكثر. لم أكن أتخيّل يوماً أن أمسك سكّيناً وأقصّ اللحمة. ولم أحب هذه المهنة في البداية لأنها لا تشبهني نهائياً. لكن العمل ليس عيباً. العيب هو في التقاعس ومدّ اليد للغير». الزوج والأولاد رأوا في ميرنا المرأة القوية والمثابرة بعيداً عن حكم المجتمع. وتخبرنا بأن تواجدها في الملحمة زاد من أعداد الزبائن… ليس لأنها امرأة، بل بسبب الأداء والنظافة الملحوظة داخل الملحمة.
«مضى عليّ في هذا المجال ما يفوق العشرين سنة، وما يهمّني هو خدمة الزبائن على أكمل وجه. عملي متعب لكنني أستمتع وأفتخر به. على المرأة والرجل أن يكونا يداً واحدة. والأهم أن تحترم المرأة نفسها وزبائنها. صحيح أن هناك أماكن لا يجب أن تقترب منها، لكن حين تقترب بثقة وإرادة، فليس ثمة عيب في ذلك». بعيداً عن الملحمة، ميرنا تختصر بشخصها نساء لبنانيات كثيرات. فقد سبق وعملت في تصفيف الشعر. كما ساعدت زوجها ندّاً لندّ في تشييد منزلهما الزوجي. «المرأة المسؤولة لا تمدّ يدها لأحد ولا تخطئ بكرامتها أو شرفها. هي تعمل وتتحمل المسؤولية… حتى أكثر من الرجل أحياناً».
ليت زمن «الأدرينالين» يعود
ماذا عن نساء مرّ زمن على تجاربهنّ «الرجّالية» الرائدة. هنادي سلوم، اللبنانية العربية التي لمع اسمها في عالم سباقات السيارات، تلخّص تجربة خاضتها بعد مرور أكثر من عقدين من الزمن. «بعد هذه السنوات أشتاق كثيراً لتلك التجربة. ورغم دخولي عالم الفن والتمثيل والبرامج التلفزيونية غير أنني أفتخر بالتعريف عن نفسي كسائقة رالي سابقة… فللمسألة قيمة مضافة في حياتي».
ما زالت هنادي تعشق القيادة وتتمنى لو امتدت تجربتها لسنوات إضافية. فكل شيء تغيّر اليوم، برأيها، حتى البشر. تتذكر جيداً الشعور المرافق لارتفاع منسوب «الأدرينالين» في الجسم، وتصفه بـ»أجمل شعور في الحياة». لكن كيف نظر المجتمع لهنادي في تلك الحقبة وهل ظلمها بأحكامه؟ «هناك من يحب أن يرى فيّ القائدة والمغنية والسائقة وهذه سمات البشر العادية. لكن آخرين يرون ما لا يراه غيرهم من خلال نظرة أعمق للحياة. أما المجتمع فأنا من أبنيه من حولي ولم أكن يوماً منقادة له ولم أسمح لأحد بأن يهزمني».
وهذه نصيحة، خمّرتها السنين، لكل فتاة تسلك ذلك الدرب: «لا خيار أمامكِ سوى أن تكوني قوية. وكي تكوني قوية عليكِ بوضع قواعدك الخاصة. عيشي اللحظة لأن ما تملكين من قوة الآن قد تفقدينه بعد دقائق. لا تتردّدي، اجتهدي وتمرّني. ووظّفي المعرفة والذكاء والقوة في المكان الصحيح». الأمر لا يرتبط بتاتاً بتحدّ بين المرأة والرجل. فهما مختلفان بطبيعة الحال، تقول سلوم. لكن حين هو يتعلّق بالِمهن والهوايات، تصبح الكفاءة أساس المنافسة.