“عاشوراء” يوم الشقاق.. بين الانتصار للحسين والانحياز ليزيد
بقلم: هبة المنسي

النشرة الدولية

الدستور المصرية –

“كربلاء المكان.. والحسين الفداء.. وعاشوراء الشاهد الحائر”..  ثلاثية تتجلى بها كل آيات الانقسام بين طائفتين يفترض أنهما يوليان وجهيهما شطر قِبلة واحدة، وتتجسد من خلال توظيفها الدلالي والرمزي والشعائري تلك المساحة الجدلية المراوغة دائمًا، ما بين الدين والسياسة.

 

العاشر من الشهر الحرام، وفقًا للتقليد الشيعي والدلالة الشعائرية، يمكث على ضفافه تمائم الدم وروائح الحزن، ففيه قتل حفيد رسول الله وخامس أهل الكساء وكانت  خطيئة الحسين طواعيته لأقداره.. وهل يستطيع أى منا أن يبدل مصيره المحتوم؟ لقد رفض الحسين بيعة يزيد رغم أنه قبل بتنازل الحسن المشروط لمعاوية.

 

التنازل الذى خالفه معاوية حين طلب البيعة ليزيد أثناء مرضه رغم اتفاقه مع الحسن ألا تذهب الخلافة من بعده لابنه، كان نبتة السوء التى أودت بحياة الحسين الذى رفض المبايعة ثم توجه بأهل بيته إلى مكة المكرمة للحج. وجاءت دعوة أهل الكوفة، نداء القدر الذى كان على الحسين تلبيته، فصدقهم وخذلوه، وعندما حاول الرجوع رفض عبيدالله بن زياد والى الكوفة وأرادوه أسيرًا …فأبى سبط رسول الله.. وكانت مأساة كربلاء.

 

قتل الحسين مرهقًا، عطشان، ومثل بجسده، وحيدًا ولم يبق في نسله رضي الله عنه وأرضاه سوى علي زين العابدين وكان الوحيد من أبناء الحسين الذي ظل حيًا بعد كربلاء.. وهكذا  ومن حول إلى حول ..منذ ما يقرب من أربعة عشر قرنًا من الزمان يمثل عاشوراء لدى جموع الاثنى عشرية يوم عزاء وذكرى ألم .. يحرصون خلاله  على الشعائر الحسينية، مثل: اللطم، ولبس السواد، والصوم عن الماء حتى العصر مظاهر رمزية “لتأنيب الذات” على التخلي عن الحسين وقتله عطشان.

 

أما على الشاطى المقابل فيبدو المشهد مغايرًا إلى نحو بعيد، إذ إن “عاشوراء السنى” هو يوم عزة وفرح وانتصار، ففيه نجى الله النبي موسى ومن معه من “بني إسرائيل” من قوم فرعون حيث فلق النبي بعصاه البحر وتمكن من الفرار بينما غرق فرعون وجنوده.. وصيامه مستحب عند أهل السنة والجماعة، فقد روى البخاري عن ابن عباس قال: «قدم النبي ﷺ المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء فقال: ما هذا؟ قالوا: هذا يوم صالح، هذا يوم نجَّى الله بني إسرائيل من عدوهم فصامه موسى، قال: «فأنا أحقُّ بموسى منكم، فصامه وأمر بصيامه»..  وفى رواية أخرى «فإذا كان العام القابل -إن شاء الله- صمت اليوم التاسع»، فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

أروقة التاريخ السنى تحوى بين طياتها حديثًا آخر، حيث روى البخاري في كتاب الصوم باب صيام يوم عاشوراء، ما هذا نصه: عن عائشة رضى الله عنها  قالت: كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يصومه في الجاهلية، فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه، فلما فرض رمضان ترك يوم عاشوراء، فمن شاء صامه ومن شاء تركه.

 

بيد أن التأويل الإمامى يرصد تعارضًا ما بين الروايات السنية عن عاشوراء. فالحديث الثانى يخبرنا أن الرسول عمل بسنة الجاهلية من دون أن يعلم ماهية هذه السنة وسببها ومن فرضها، والدليل أن في الحديث الثانى الذي نصه عن ابن عباس قال: قدم النبي (ص) المدينة، فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال: ما هذا؟.

 

هنا لا بد من التقاط الأنفاس قليلًا لو كان الرسول قد صام عاشوراء أيام الجاهلية، لما جهل صيام اليهود المذكور في الحديث الأول. ولو كان الرسول قد صامه بالفعل فى الجاهلية لما غاب عنه سبب صوم اليهود فيه وسأل ما هذا؟ لأن الرسول لا يعمل بسنن لا يعرف أسبابها ومدى مقبوليتها عند الله تعالى.

 

يُضاف إلى ذلك لفظ “قدومه” في الحديث الأول والذى كان محل خلاف بين أئمة أهل السنة، فالرسول صلى الله عليه وسلم قدم إلى المدينة مهاجرًا في ربيع أول، ولم يكن في محرَّم، فكيف يقولُ ابن عباس: إنه قدم المدينة، فوجد اليهود صُيَّامًا يومَ عاشوراء. وقد رد ابن قيم الجوزية- رحمه الله على ذلك وهو أنَّه لما قَدِمَ المدينة وجدهم يصُومون يومَ عاشوراء: فليس فيه أن يومَ قدومِه وجدَهم يصومُونه، فإنه إنما قَدِمَ يومَ الإثنين فى ربيع الأول ثاني عشرة، ولكن أول علمه بذلك بوقوع القصة فى العام الثاني الذي كان بعد قدومه المدينة.

 

كما أن المرويات تقول بأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ قال “لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع”، وأنه لم يأتِ العام المقبل حتى توفي تدلّ على أن صوم عاشوراء؛ أي أن الأمر بصيامه كان قبل وفاته بعام، وهذا يتناقض مع الرواية الأخرى بأن ذلك كان عند مقدمه المدينة أو في العام الثانى، علاوة على ذلك القول بأن صيام رمضان نسخ صيام عاشوراء، وصيام رمضان كان في العام الثاني من الهجرة.

 

النقطة الأهم هي اختلاف التقويم الإسلامى عن العبرى، فالسنة عند اليهود تعتمد على دورتي الشمس والقمر، حيث يكون طول السنة بالمعدل على طول مسار الأرض حول الشمس (أي 365 يومًا وربع تقريبًا)، أما طول الشهر بالمعدل فيكون على طول مسار القمر حول الأرض (أي 29 يومًا ونصف تقريبًا). ولتقريب الصورة فإن صومُ أهلِ الكتاب إنما هو بحساب سير الشمس، وصومُ المسلمين إنما هو بالشَّهر الهلالي. بما يعنى أن يوم نجى الله موسى لن يوافق العاشر من محرم كل عام.

 

ومع ذلك تبدو الإشكالية الأكبر في أن اليوم الذي نجى الله فيه موسى، هو عيد الفصح اليهودي أحد الأعياد الرئيسية ويحتفل به لمدة 7 أيام بدأ من 15 أبريل حسب التقويم اليهودي، وهو يوم فرح وعيد، وليس بيوم صيام. ووفقًا للتقويم اليهودي يجب في بعض السنوات مضاعفة الشهر الذي يسبق أبريل اليهودى، أي شهر مارس، كي لا يتراجع شهر أبريل إلى موسم الشتاء. ويحل عيد الفصح في منتصف شهر نيسان اليهودي (20 أو 21 مارس)، ولكن في بعض الأحيان يحل في نهاية أبريل عند اكتمال القمر الثاني بعد الاعتدال الربيعي، لأن حساب التلاؤم بين السنة القمرية والشمسية ليس دقيقًا بشكل تام. أما  “اليوم الذى يصومه اليهود فهو يوم كيبور” يقع في العاشر من السنة اليهودية الجديدة، أي في 10 أكتوبر من كل عام.

 

التناقض الحاد فى مظاهر الطقس الدينى بين الجانبين لا ينفى حقيقة أن الحسين شهيد وشاهد على تاريخ نقشت صفحاته بدماء العطشى ولا يؤكد  بالوقت ذاته الطرح الشيعي بأن الاحتفال بيوم عاشوراء هو صناعة أموية بامتياز  حاولوا من خلاله  إبرازه بوجه آخر لصرف الأنظار عما حدث للحسين وآل بيت النبى صلى الله عليه وسلم لكن ثمة شيئًا ما هنا يستحق التأمل.

 

لقد كان الحسين يملك من القوة الدينية والروحية ما يؤهله لأن يكون أقوى من الخليفة ولعل هذا ما خشى منه يزيد، فإن لم يكن بإمكانه إضفاء الشرعية على حكمه بالقبول والبيعة فليكن بالإرهاب والقتل، فجيش الحسين قوامه سبعون رجلًا مقابل آخر عداده الآلاف. المعركة هنا محسومة، حتى وإن قبل الحسين بالأسر كان سيقتل، أراد يزيد إرسال رسالة شديدة اللهجة لكل معارضيه وللهاشميين على وجه الخصوص، فإن كان هذا جزاء ابن رسول الله وعبدالله بن الزبير وعبدالله بن عمر بن الخطاب؟ فماذا سيكون مصيرهم؟ لقد أراد بفعلته كسر شوكة كل معارضيه السياسيين وبالوقت ذاته منح الذكرى صبغة دينية مغايرة لعلها تمحو من الذاكرة الجمعية بعضًا مما دار في كربلاء وتحول دون أن يصبح الحسين مصدر إلهام ورمزًا  لكل الثائرين.

 

لكن رياح القدر غالبًا ما تخون أشرعة السفن، فقد بدأ التوظيف السياسي والدلالة الرمزية للحسين عدة مرات على مدار التاريخ القديم والمعاصر، كان أولها خلال تمرد المختار الثقفى بالكوفة والتي استولى عليها رافعًا شعار “الانتقام للحسين” وعلى نهجه سار الكثيرون منهم التوابون والعباسيون والصفويون ..فقد استخدم  جميعهم نفس الشعار في برنامجهم السياسي لتعززيز شرعيتهم.

 

“أيقونة الحسين”  كانت مصدر إلهام بالفكر الخمينى، حيث لعبت دورًا مهمًا في الثورة الإيرانية، وتم منح معركة كربلاء معاني وتأويلات جديدة تلائم الفكر الثورى وانحرف المذهب الشيعي في فترة ما قبل الثورة، من كونه يميل للتهدئة السياسية إلى النضال ومحاربة الفساد. وأسهمت المرجعيات الشيعية إلى حد كبير في استبدال البكاء بقيم ومثل الحسين وصارت التجمعات  الشعائرية في محرم ذات طبيعة سياسية بشكل متزايد  كما تمت المقارنة بين الشاه ويزيد حيث كتب الخميني: “نضال الحسين في كربلاء يفسر بنفس الطريقة كالنضال ضد مبدأ الملكية غير الإسلامية”. كما استغل  رمزية استشهاد الحسين لشرعنة العمليات الانتحارية أثناء الحرب العراقية الإيرانية واستخدموا الأطفال كدروع بشرية. وحتى يومنا هذا لا يزال رجال الدين فى إيران يروجون للمشاركة  في الانتخابات باعتبارها إحياء لروح ثورته رضى الله عنه.

 

وهكذا يبدو عاشوراء حائرًا  بين السنة والشيعة.. بين قدسية النص وقدسية الراوى..لا يدرى إلى أيهما يميل؟ إلى الحسين أم إلى يزيد؟

زر الذهاب إلى الأعلى