منصورة عزالدين والبحث عن الشكل الروائي

النشرة الدولية –

ميدل ايست اون لاين – كه يلان محمد

لا جديد في القول بأنَّ الرواية تخيبُ باستمرار التوقعات التي تذهب إلى أنْ نهايتها باتت وشيكةً، وإذا لم تستلمْ لمصيرها المحتوم فهي  بالأخير لم تعدْ أكثر من ماكينةٍ لتدوير الأفكار والثيمات المُستهلكة.الامر لايتطلبُ كثيراً من الذكاء لكشف النظرة الاختزالية في هذا الرأي إذ لن تكون الرواية حسب منطق هذا الحكم أبعد من الثيمة فيما يستمدُ النص الروائي إمكانياته وجودته من الانزياح عن الأشكال التقليدية وكلما نجحت  الروايةُ في العدول عن الثوابت والهيكليات النمطية تكسب أشواطاً جديدة وتستحوذ على مساحة أوسع.

 

إذن الثيمة ليست إلا عنصراً في التشكيلة الروائية وقد تصل مغامرة التجريب بالكاتب إلى حدٍ يلغي بعض عناصر الرواية في برنامجهِ ويختبرُ التخففَ من الحدث والنسق التصاعدي في منحى الزمن، وينسفُ مبدأ الثنائيات المُتضادة في توزيع الشخصيات.ولايكونُ هناك تصنيف لشخصيات بين مدورة وسطحية.إذن الرواية لاتتقيدُ بشكل مُسبقُ وتثورُ على الكليشهات وبذلك لايصحُ تحجيم وظيفتها في التعبير عن الأفكار يشارُ إلى أنَّ كلمة الرواية في اللغات الأوروبية كانت تعني حسبما تذكر ذلك لطفية الدليمي شكل الكتابة التي لاقواعد لها، التي تخلق قواعدها وهي قيد التَشَكُل.

 

والركن الأساسي في الرواية هو الميل إلى تقويض مرجعياتها الثقافية كما تلاحظُ هذا التوجهَ مؤلفة “مشروع أوما”.

 

ويتمثلُ البحثُ عن الشكل خلال عملية الكتابة في “أطلس الخفاء” للروائية المصرية منصورة عزالدين سؤالاً مضمراً.إذ يخيلُ للقارىء بأنَّ ماهو بصدد متابعته ليس إلا ورشةَ للاشتغال على تكوين شكلٍ للنص الروائي.ترمي الجملة الافتتاحية إلى كشف الستار عن موقع شخصية مراد وهو متيقنُ من وجوده بمكانٍ غير منظور متخففاً من إكراهات النوم واليقظة.ومن ثمَّ ينتقلُ الراوي إلى وصف طبيعة المكان السديمية مُستبطناً عوالم مراد إذ يتراءى له شخص ينتهي به المطافُ نحو طبقة منخفضة دون أن ينطقَ بجملة في الظاهر غير أنَّه يستنكه ما يتسترُ عليه “سوف أذهب إلى الآراضي المُنخفضة”وهذا ما يعيدُ إلى ذهنه هولندا متذكراً بأنها قد حظيت باسمها القديم.يعتكفُ مرادُ في عزلته ولايندمحُ مع أقرانه في العمل متخيلاً السؤال الذي يراودُ العاملين والندل في المطعم حين يتناول الطعام لوحده في أمسيات رمضانية.

 

الحقيقة المتوارية

 

لايغيب مرادُ عن مرمى عدسة الراوي راصداً هواجسه الباطينية وخوفه من الايجازات.ويكونُ يوم الجمعة في أجندته بمثابة  ساعات كابوسية  تحاصره من كل الجهات.والحال هذه تخترقُ أصواتُ الماضي قشرة الذاكرة منها صوت جدته الفائض بالحنان “صباح الخير يا لقمة طرية، ياقمر الزين ياشمس الضِحية” لاينقطع مرادُ عن وحدته الصاخبة فما يختبرهُ في واقعه محدودو شحيح يقابلهُ حراكُ في المخيلة  لذلك يعقدُ النية على تدوين إشراقاته قبل أن يزحف الركودُ نحو عالمه الجواني كأنَّ بهذا القرار يوافقُ على  ماقاله أوغسطين عن ضرورة العودة إلى الذات “لاترغب في الخروج، عُدْ إلى نفسك.الحقيقة تسكنُ في باطن الإنسان” يختارُ دفتراً بغلاف رمادي لتدوين استبصاراته لأنَّ الأغلفة اللامعة لاتعجبه.ينشرُ الراوي أوراق التوتر لدى الشخصية المراقبة على حبل السرد معايناً قلق مراد من صيغة البداية ومايكتبُه من التجليات كما يتأرجحُ بين ضميري المُتكلم والغائب إلى أنْ يؤثر الضمير الأول.

 

ومن الواضح أنَّ التئبير هنا خارجيُ، وما إن يشرعَ مرادُ بكتابة استبصاراته حتى يتبدلَ التئبير إلى الداخلي وهذا التنوع في آلية السرد يخدمُ مستويات التعبير واللغة في العمل الروائي.

 

وما يفصلُ بين النوعين من السرد في النص هو ترويس المقاطع المنسوبة إلى مراد بعناوين فرعية إضافة إلى  مايتصدرُ الغلاف “أطلس الخفاء” إذن يتحركُ النصُ بين صوتين أحدهما هو الراوي كلي العلم والآخر ليس سوى مراد.فالأخير يطيبُ له الحفرُ في سرادب  المخيلة متفاعلاً مع المؤثرات الخارجية كونها محركاً للذاكرة وما يكسبُ أهمية في هذا المجال هو رائحة ونكهة الأطعمة. “صار الطعامُ لديه وقوداً للذاكرة لا للمعدة” تنثالُ على ذهنه صورُ من السنوات التي أمضاها مع زوجته عندما يستنشقُ رائحة الأكلات المطهوة وتقترنُ رائحة الليمون بالبيت المتقشف الذي كان بمثابة الفردوس بالنسبة إليه لأنه قد احتضنَ معشوقته وردة.

 

حساسية بروستية

 

لا يتوقفُ الترابطُ بين الرائحة والذاكرة عند هذا الحد بل يتحولُ شكل الحروف الصينية إلى قطع دجاج مُطهية والملاحظُ في هذا المنحى أنَّ المناخَ السردي يتخذُ مزاجاً بروستياً فكانَ صاحب ” البحث عن الزمن الضائع” يعتقدُ بأنَّ ذاكرتنا توجدُ خارجنا في نسمة ممطرة في هبة خريفية حسب مانقلت عنه آني أرنو في روايتها “العار”غير أنَّ نيتشه قد سبق الجميع في الالتفات إلى منزلة حاسة الشم في طبيعة الأمزجة وصرح بأنَّ عبقريته تكمنُ في فتحات أنفه.

 

ليس هذا  كل ما يمكن معرفته عن مراد بل تقعُ على نسخته العبثية المتمثلة في نظرته للكائن البشري الذي ينتهي به المطاف طعاماً لدودة لذلك يسخرُ من البحث عن الخلود في مفهوم الأبوة.تحلُ المرآة مكان الحلم لمراوغة الزمن ولاختراق العوالم المتوارية فصورة الأم التي يستحضرها مرادُ يرافقها شكلها المنعكس على سطح المرآة مستغرباً بأنَّه لم يعرف  حقيقة ماهو لون مُفضل من بين اختيارات الأم.تتشعبُ ممرات الرواية وعلاقة بطلها بالمكان تذكرُ بأجواء “مدن لامرئية” لإيتالو كالفينو إذ مايقعُ عليه النظر من مكونات المدينة ليس إلا  قشرة لطبقات غير مرئية.”فكرتُ في أنَّ الجسرَ لم يختفِ، بل زادت جرعة رماديته بحيث توارى عن العيون على رغم من وجوده” تطفوُ صور أبعد من جوف الذاكرة كلما مضى السرد عائداً إلى تربة الطفولة وبدايات تعلم مراد لمباديء القراءة في كتاب جدته خديجة ومن ثمَّ انتقاله إلى كتاب الشيخ عبدالرحمن والافتتان بابنته هناء .

 

موت المؤلف

 

المصادر التي يستمدُ منها النص الروائي طاقته التشويقية متنوعة.صحيح أنَّ ثيمة لها دور كبير على هذا الصعيد، كذلك ترتيب المادة المروية  والخفة في إدارة دفة السرد تخدمُ المنطق الإقناعي للنص، لكن توظيف مايوهمُ بغياب المؤلف وموته المجازي هو مايجددُ الميثاق بين القارىء والنص.لاتعاني رواية “أطلس الخفاء” من تبعات ديكتاتورية المؤلف، لأنَّ منصورة عزالدين تتركُ مايسميه لؤي حمزة عباس بالمقعد الشاغر للقارىء.

 

فبدوره يفترضُ الأخيرُ بأنَّ مادةَ رواية “أطلس الخفاء” مُستلهمة من رواية سبقتها. فبينما كانت الروائيةُ بصدد كتابة “بساتين البصرة” داهمتها فكرة العنوان الثاني مايذهبُ بك إلى هذا السيناريو ليس مجرد توارد تلميحات توحي بانتساب مراد إلى شجرة عائلة هشام خطاب في رواية “بساتين البصرة” إنما الهاجس الذي يثقلُ صدر مراد بأنَّ شيئاً أو أحداً يخصه مدفون تحت جذر الياسمينة المجنونة.وهذا يحيلُ إلى حيثيات مقتل يزيدُ بن أبيه في رواية “بساتين البصرة” كما تُستعادُ تفاصيل هروب أخته ليلى إلى مدينة جنوبية برفقة عيشقها ومايخلف ذلك من الحزن والأسى في قلب الأم ويتسللُ إلى “أطلس الخفاء” مشهدُ تعثر ليلى على حافة النهر  وهي تمشي بصحبة شخص متجهم لايمدُ لها يد العون عندما يرتطمُ جسدها بالماء.واللافتُ أنَّ شخصية ليلى وهي أم هشام خطاب في رواية “بساتين البصرة” تلوحُ في إشراقات أخيها مراد أكثر من أي شخصية أخرى.إذن مايجمع بين الروايتين هو أسلوب التأليف الموازي يكونُ فيه العمل الروائي مرجعاً للعنوان اللاحق.

 

مايجبُ قوله أنَّ البعد الزمني في روايات منصورة عزالدين يتحركُ برشاقة ومرونة بين العصور المُتباعدة يلعبُ  في “بساتين البصرة” الحلمُ دوراً أساسياً في كسر الحاجز  بين الأزمنة بالطبع أنَّ مايزيد من شحنة درامية في العمل الروائي هو الخلفية المكانية التي قد تكون من طراز مدنٍ تُضاهي شخصيات ملحمية في حيويتها.

 

لا تنزلُ نصوص مؤلفة “جبل الزمرد” في الصنف التاريخي أو العجائبي أو الواقعي ولايتخذُ خطها الأسلوبي منهاج كلاسيكي أو ميتا السردي أو الرمزي بل تتحركُ في منطقة مُتاخمة مع كل هذه التيارات.

زر الذهاب إلى الأعلى