انطباعات أوليّة عن رواية ( أَدْرَكَهَا النّسيان)* الأديب عباس داخل حسن

النشرة الدولية –

” كتابة الرّاوية طقس شبيه بعرض (استربيتز) مثل الفتاة التي تحرّر نفسها من ملابسها تحت أضواء الخشبة العارية من الخجل،وتعرض مفاتنها السّريّة واحداً تلو الآخر ؛ يعري الكاتب أيضاً ذاته الحميميّة أمام جمهور رواياته، لكن هناك بالطّبع اختلافات؛ فالذي يعرضه الرّاوي من ذاته ليست مفاتنه السّاحرة مثل الفتاة،لكنّه يكشف بدلاً منها الشّياطين التي تسيطر عليه، حنينه،أو ذنبه،وأحياناً استياءه.

” اختلاف آخر هو أنّه أثناء عرض (الاستربيتز) تكون الفتاة مرتدية ملابسها أوّلاً،ثم تتعرّى نهائيّاً،وفي حالة الرّاوية ينعكس المسار،ففي البداية يكون الكاتب عارياً، وفي النّهاية مرتدياً ملابسه ”  الرّوائيّ : ماريو فارغاس يوسا

صدرت في العاصمة الأردنية، عمان رواية (أَدْرَكَهَا النّسيان) عن دار أمواج للنّشر والتّوزيع للرّوائيّة د.سناء الشعلان،وهي الرّاوية الرّابعة لها  على التّوالي،بعد رواياتها “السقوط في الشّمس ” عام 2005م والحائزة على جائزة  صلاح الدّين الأيوبيّ الأردنيّة، ورواية ” أعشقني” الحائزة على جائزة دبي للثّقافة والإبداع 2010-2011م، وأخيراً وليس آخراً رواية ” أصدقاء ديمة” لليافعين الحائزة على جائزة كتارا للرّواية العربيّة في دورتها الرّابعة 2-2018م.

أَدْرَكَهَا النّسيان رواية تنتمي لتيار الرّاوية الجديدة ولعالمها الخاصّ متخذة من التّجريب السّرديّ مقترناً بعيداً عن الالتزام بالأساليب والمعايير المحدّدة أو القوالب النّمطية للحكاية،جاءت وفق التّحولات البنيويّة التي يعرفها جنس الرّاوية الجديدة والمفارقات التي تقوم عليها المستمدة من مفارقات الواقع الموضوعيّ المعيش، لكن باستعلاء لغة السّرد على الواقع ” إنّ الرّاوية الجديدة في وسعها نقل تجربة الواقع انطلاقاً من التّجربة الرّوائيّة،وجعل هذه الأخيرة ذات طابع ذاتيّ من حيث الجوهر،ولكنّها تعبّر عن أشياء موضوعيّة “1

النّجاح الباهر الذي يُذكر لهذه الرّواية أنّها مكتوبة بنمط السّرد المتقطّع من دون الاعتماد على التّسلسل المنطقي للأحداث،فبدأ السّارد القصّة من نهايتها،وجعل البداية هي الخاتمة.

وهذا مظهر عبقريّ بحقّ في التّشكيل السّرديّ للرّواية،فلو غيرّنا ترتيب الفصول لما انهارت البنية السّرديّة للرّواية، وهذا التّشظي جاء متناغماً مع بنية النّشاط السّرديّ نفسه وبوعي وقصديّة وفق تخيل سردّي بارع؛ لتدع القارئ يشارك في تركيب العمل الرّوائيّ من جديد،وينتج نصّه المؤول بوصفه قارئاً ضمنيّاً يشكّل رؤيته وهويته الرّوائيّة  .

إنّ الرّاوية ” لم تعد تعني جملة القواعد والقوانين الرّوائيّة ولا مجموعة من الطّرق الفنيّة التي تحدّد هذا الجنس الأدبيّ وشروطه،وإنّما أصبحت الرّاوية بناء يحدث الآن،وكياناً ينشأ لحظة تشكله،إن لم نقل لحظة ينهض القارئ بأعباء القراءة وجوداً تحدّد هويته الرّوائيّة من داخل مخزوناته نفسه، وليس من خلال موقفنا المسبق عن الرّاوية”.2

هذه الرّاوية تحكي عن معاناة ” بهاء” بطلة الرّاوية في حياتها الصّعبة في ظلّ فقرها ويتمها،ثم تعرض تجارب حياتها في مواجهة مرض السّرطان الذي أصاب دماغها،وبدأ يأكل ذاكرتها بالتّزامن بالتقائها بالصّدفة بحبيبها الضّائع ” الضّحّاك” الذي يقرّر أن يقف إلى جانبها في أزمتها بعد أن بلغ السّرطان مبلغه،وأكل جسدها،ودبّ في دماغها.

وتتوالى أحداث الرّاوية ضمن أزمان استرجاعيّة واستشرافيّة متداخلة مقدّمة لنا نسيجاً سرديّاً كاملاً يضمّ البطلين وحياتهما الملتبسة المتداخلة التي تكشف عن تجربتهم الإنسانيّة، بقدر ما تكشف عن التّجربة الإنسانيّة الجمعيّة في قطبي العالم العربيّ والعالم الغربيّ .إنّها رواية كوزموبوليتانيّة بالاتّجاهين السّلبيّ والايجابيّ في تشكيل المجتمع الرّوائيّ وتشاركه.

جاء عنوان رواية (أَدْرَكَهَا النّسيان) من خلاصة وعي الكاتب الذي يتبنى مبدأ جماليّاً يقوم على المفارقة،ويخضعها لأسس فكريّة،ويتمثّلها تمثّلاً كليّاً .

إنّ العنوان يمثل العتبة الأولى واللافتة الدّلاليّة الأهمّ للنصّ السّرديّ،فجاء العنوان مفارقاً ومخاتلاً ومرتبطاً ارتباطاً وثيقاً وعضويّاً بالنّصّ السّرديّ.  ( أَدْرَكَهَا النّسيان) عبارة تنطوي على مستويّات متعدّدة من المعنى الظّاهريّ المعجميّ.

المستوى الخارجي (لأَدْرَكَهَا النّسيان) بمعنى أصابها،أمّا المعنى الدّاخليّ أنقذها من المعاناة،ونجد في الغلاف الدّاخليّ للرّواية ” حكاية امرأة أنقذها النّسيان من التّذكّر ” ،هذا مستوى آخر للمعنى .

في حقيقة الأمر هناك تذكّر وذاكرة ،وهنا يجب التّوقف عند هذا التّضاد الخفي أو التّناقض والتّمثيل الدّلاليّ المتناقض “الانزياح”،ومغادرة الكلمة (أدركها) لمعناها الأول لتنتج لنا مفاهيم ودلالات أخرى،والنّسيان ثيمة تعالقيّة في النّصّ الرّوائيّ على امتداد الفصول التي عنونتها الرّوائيّة بترقيم النّسيان على امتداد فصول الرّاوية الثّلاثين .

ونحن نحتاج إلى تفكيك دلاليّ للعنوان (أَدْرَكَهَا النّسيان) ؛ فإنّ الإدراك بالنّسبة لحركة العلامة،هو الانتقال من التّمثّل للتّمثيل والواسطة،هو الاستيعاب بعيداً عن اللّغة المعجميّة التي تمثّل سطح المفاهيم،ولا تعيد إنتاجها،لكن في الأدب الأمر مختلف جذريّاً؛ فالإدراك أصبح بنية عارية، غادرت إدراكها الأوّل من خلال إنتاج مفاهيم ودلالات كشفت عن النّصّ الرّوائيّ، وكذلك كلمة نسيان عندما نراجعها في المعجم اللّغويّ سنجد لها معنى تمثيليّاً،وهو المعنى المتداول، لكن عندما تدخل الكلمة في التّمثيل ستغادر تموضعها الأوّل،وتحمل ذاكرة جديدة بعيداً عن حركيّة العلامة التي تشير إليها أو داخلها.

النّسيان عند بول ريكور هو الاستيهام،أو بمعنى آخر إنّ الذّاكرة المشوبة بالنّسيان هي من تخلق عوالم الميثولوجيا للعلامة .

وعندما نضع كلمة النّسيان بمقارنة التّذكّر نجد الذّاكرة جمعيّة والنّسيان فعل فرديّ النّسيان هو فعل الإبداع والكتابة على المحو، كما فعلت بطلة الرّاوية “بهاء”،أمّا التّذكّر فهو فعل جمعيّ لمحيطها الاجتماعيّ ” رغم أنّ الاختلاف مميّز بقوة بين الذّاكرة الفرديّة وبين الذّاكرة الجماعيّة،لكن العلاقة حميميّة ومحايثة،وكذلك فإن هذين النّوعين من الذّاكرة يتداخلان”2

من هنا أصبحت (أَدْرَكَهَا النّسيان) هي المدونة الخاصّة بالبطلة من خلال مذكّراتها المكتوبة “الكتابة ضد النّسيان”  التي يقرأها عليها حبيبها ” الضحاك”، وهي خائرة جسديّاً بعد أن دبّ السّرطان في مخّ “بهاء” ،وهي  من تعدّه أرحم من شناعات العابرين على جسدها من الرّجال من كلّ الأعراق والاثنيّات الذين استباحوها بحيل وذرائع شتى مثّلت الجانب الخفي لممارسات الجندر والسّلطات الغاشمة تحت مسميّات وشعارات شتى لازالتْ تتسلط على مجتمعاتنا، وقد كشفت الرّوائيّة فعلاً عن شياطينها ،وعرّت الوجه الآخر من الإنسان المعاصر والعطب الذي أصاب المجتمع، وعبّرت عن استيائها من الفضائح المخيفة والمرعبة التي يمارسها بني البشر على أبناء جلدتهم بدءاً من الاغتصاب الذي يمارسه معلّم دار الأيتام الذي كان بمثابة مسلخ للإناث “عاملات ونزيلات – قاصرات وبالغات” وهو المكان الذي قذفت الأقدار بـ”بهاء- والضّحّاك”  فيه بطلا الرّاوية ،ليتعرّف أحدهما على الآخر فيه، ويعيشان القلق والحرمان والإذلال،حتى يبدو العالم لهما كميتم كبير موجع.

كانت مديرة الميتم تمارس سلطتها الغاشمة،وتخضع الجميع لملك يمينها،ولا تتورع عن ارتكاب أبشع الممارسات دون أن يرف لها رمش.

ومن ثم تتوالى هذه الممارسات على ” بهاء” بطرق حربائيّة شتى، وتمارس البغاء من أجل البقاء على قيد الحياة،وتتحمّل كلّ سخام وقذارة الرّجال الذين واقعتهم أو واقعوها .

هنا نجد المفارقة السّرديّة ؛ إذ تعكس صراع الحياة ومفارقات الواقع الإنسانيّ الرّث والمتساقط والمهلهل .وهنا كشف الخطاب المفارق عن استحضار الدّوافع المتضادّة من أجل تحقيق وضع متوازن في الحياة. وسرديّاً تلعب المفارقة وظيفة تقوم على الصّراع بين الذّات والموضوع،وبين المتصوّر والمألوف،والخارج والدّاخل والواقعيّ والمتخيّل.

لهذا إنّ رواية (أَدْرَكَهَا النّسيان) هي خطاب محرّض على الوعي الضّدي،ويبدو منقسماً باستمرار نتيجة مجموعة التّضادات والمفارقات الموجودة والقائم عليها الواقع وعلاقات المجتمع الإنسانيّ،لكن يبقى لكلّ قارئ نصيب من الدّهشة في الوصول إلى المعنى الخفي الذي غالباً ما يكون” المعنى الضّد،وليس مجرد وسيلة بلاغيّة أو أسلوبيّة، وإنّما تفضح لتكشف،وتهدم لتبني،وتشكك لتؤّكد ” .

وهذا كلّه يتوقّف على إعادة قراءته للواقع السّرديّ في ضوء خبرته ومعرفته الجماليّة ومقدار تمتّعه بمساعدة  اللّغة الشّعريّة التي أضفت على السّرد الرّوائيّ خطاباً أدبيّاً يمثّل منظومة من الدّوال والمداليل.

وهنا تبدأ الإزاحة باتجّاه المعنى الشّعريّ بعيداً عن التّقريريّة بأنّ ” اللّغة كما تعرف لا تقتصر على الألفاظ وحدها،إنّما هناك أمور أخرى مشتركة مع الألفاظ لأحداث لغة صالحة للبناء الفنيّ الرّوائيّ، وأوّل هذه الأمور هي طريقة تركيب الألفاظ،ووضعها في نظام معين بحيث تؤدّي الفكرة التي يرومها الأديب،وبذلك تصبح الكتابة الرّوائيّة كتابة شعريّة تضفي على اللّغة الرّوائيّة طابعاً جماليّاً،فتنتقل اللّغة من وظيفتها التّوصيليّة إلى مجال الرّمز والإيحاء “3

في مقال سابق تحدّثت بتفصيل أكثر عن اللّغة المعياريّة التي تتسم بها  الأعمال الرّوائيّة  لـ د.سناء الشعلان ،ومعروف عنها التّمكّن اللّغويّ، واهتمامها المتميّز بهندسة نصوصها،إضافة إلى أنّها تدريسيّة للأدب الحديث  في الجامعة الأردنية،وتمارس تدريس الأدب الحديث ومهارات التّواصل واللّغة،وهذا منحها دراية وقوّة لغويّة غير متوفّرة عند الكثيرين من كتاب السّرد والقصّة،فكانت أعمالها مكتوبة بلغة شعريّة جليّة للعيان،وتتوافر فيها خصائص سلامة النّحو والبلاغة ” إنّ قيمة العمل الشّعريّ لا تكمن في مدى كونه “واقعيّاً” أو “حقيقيّاً” أو لأنّه “يمثّل” أو “يعكس” ،وإنّما تكمن في مدى قدرته على جعل اللّغة تقول أكثر ممّا تقوله عادة،أيّ خلق علاقات جديدة بين اللّغة والعالم،وبين الإنسان والعالم “4

(أَدْرَكَهَا النّسيان) رواية متداخلة الأزمان والأماكن ضمن بُنى سرديّة متداخلة؛فهي مزيج متجانس ومتداخل بين رواية وسيرة ونصوص نثريّة ونصوص شعريّة مساندة،فجاءت نجوم أوراق  (الأوريغامي) استهلالات افتتاحيّة لفصول الرّاوية لا تقل عن العناوين الفرعيّة،مثل توظيف جماليّ وإجرائيّ.

أعتقد أنّ الرّوائيّة كانت على قصديّة بهذه المتعاليات النّصيّة الموازية، وكلّ العتبات المصاحبة  في الرّاوية لعبت دوراً مهمّاً كصّياغات يعيدها القارئ حسب آليّة التّأويل لديه،والأمر المهمّ أنّها تفتح أفق التّوقّع المستمر،وتكشف عند القارئ المسؤول الدّلالات الوسيطة بينه وبين المعنى المضمر.

فاستهلالات نجوم ( الأوريغامي) كانت تمثلّ أحد أنواع الخطاب المنطوي على جمال اللّغة وجاذبية البناء وفق معمار الرّاوية بأسلوب متفرّد،وأثارت رؤىً أو رسائل افتتاحيّة لكل فصل من فصول الرّاوية،على الرّغم من أنّها تكتب لتنتظر محوها على حدّ قول “جاك دريدا” في مؤلّفه “التفكيكيّة” ؛ الأفضل لها أن تنسى،لكن هذا النّسيان لا يكون كليّاّ؛ فهو يبقى على أثره، ليلعب دورا متميّزاً،وهو تقديم وتقدمه النّص لجعله مرئيّاً قبل أن يكون مقروءاً.وقد شكلّت العتبات الموازية للنّص إضاءات للمتن الرّوائيّ ومسلكاً إغوائيّاً وجماليّاً محفزّاً للقارئ .

رواية (أَدْرَكَهَا النّسيان) هي رواية متعدّدة الأصوات “بولوليفونيّة” ، فتعدّدت الرّؤى الأيدلوجيّة والشّخصيّات والأساليب والمنظورات السّرديّة،أيّ أنّها متحرّرة من المنظور واللّغة والأسلوب؛بمعنى آخر أنّها متحرّرة من سلطة المؤلّف.

وتُروى على لسان أكثر من راوٍ،حيث هناك الرّاوي العليم الذي يروي من زاوية الحدث إلى جانب الرّاوية الجزئيّة ” باربرا” التي تقوم بدور سرديّ للرّاوي العليم في هذه الوظيفة،أمّا الرّاوي البطل” ضحّاك” والرّاوية البطلة ” بهاء” فهما يتناوبان على لعب السّرد ضمن أزمان متداخلة.

وكشفت الرّوائيّة عن  شياطين الخيال،وتعري المسكوت عنه،والمخفي قسرا في الذّاكرة الجمعيّة للمجتمع الإنسانيّ المتنوّع والمعطوب من الدّاخل .

الرّاوية هي رواية الصّراعات المطلقة بين عناصرها المختلفة؛ فهناك صراع على مستوى الزّمان والمكان والشّخوص والحبكات،وتلعب تقنيّات السّرد وتنويعاتها أدواراً مختلفة ومتباينة في خلق الحدث الذي يتوزّع على أزمان الاستشراف والاستدعاء والاسترجاع كتقنية من خلال مذكّرات ” بهاء” المكتوبة على ورق الأوريغامي ” نجوم الأوريغامي” التي يقرؤها ” الضّحّاك”، وهنا قلب لمقولة الكتابة ذكر والحكي أنثى ؛ فـ” بهاء”  هي من كتبت مذكرّاتها و ” الضّحّاك ” يقرؤها؛ إنّه انقلاب شهرزاديّ،ودلالة انقلابيّة على صورة الجندر التي تسيطر علينا دون مسوّغ،وإنّ المجتمع لا يكتفي بمنح السّلطات للذّكور فقط،بل أوصلوا الذّكور إلى الهيمنة على سلطة الكتابة، وهنا تمثّل آخر لفكرة المسكوت عنه ضمنتها الرّاوية بالإيحاء.

والرّاوية مخترقة لتعين الزّمان والمكان في حالة إغفال مقصودة لتعينهما؛ من أجل تعميم التّجربة الإنسانيّة،وتوزيعها على الإنسانيّة كاملة،وذلك عبر رصد ستين سنة من عمر بطلي الرّاوية ” الضّحّاك” و” بهاء” ،وهي فترة زمنيّة محمّلة بتجارب إنسانيّة ومخاضات تاريخيّة عربيّة مهمّة.

وهنا ترسيخ  لتعريف السّرد على أنّه تجربة زمنيّة مدركة،أو كما يقول بول ريكور : إنّ كلّ تصوير سرديّ يتضمّن بالضّرورة إعادة تشكيل تجربتنا الزّمنيّة.وأيّاً كان المعمار الشّكليّ للسّرد، فهو نتاج الزّمن الذي يشكّل بنية الرّاوية.

والزّمن في (أَدْرَكَهَا النّسيان) زمن نفسيّ لا اصطلاحيّ، أيّ أنّه زمن إدراكيّ متعدّد الأبعاد،ويرتبط بتجارب وعواطف أبطال الرّاوية،وطبقاً لنظريّة ” جيرار جينيت ” يعتبر الزّمن ما تحمله الرّاوية بالوعي الخاصّ بالزّمن متضمّناً زمن الحكي والمحكي والقراءة ،” إنّ طريقة بناء الزّمن في النّص الرّوائيّ تكشف تشكيل بنية النّصّ، والتّقنيّات المستخدمة في البناء،وبالتّالي يرتبط شكل النّصّ الرّوائيّ ارتباطاً وثيقاً بمعالجة الزّمن الرّوائيّ، يعني بلورة بنية النّصّ” 5

إذن الزّمن في (أَدْرَكَهَا النّسيان) اتّخذ أشكالاً عديدة وفقاً للأحداث وحركة الشّخوص،وأخيراً ما زال العالم الذي يعيد السّرد تصويره عالماً زمنيّاً،فإنّ السّؤال الذي يثار حول مدى المعونة التي نتوقعها من تأويليّة الزّمن المرويّ من ظاهرية الزّمن”6

ومازال أنّ الزّمان والمكان هما عنصرا الوجود المتلازمان،وأساسا الوجود، فإن الزّمان والمكان هما عنصران رئيسان في تشكيل النّصّ وحركة الأشخاص والأحداث،وعليه يصبح النّصّ الرّوائيّ مستقلاً عن الواقع،وله حياته.

في هذه الرّواية “يتخذ المكان دلالته التّاريخيّة والسّياسيّة من خلال الأفعال وتشابك العلاقات،وهو يتّخذ قيمته الكبرى من خلال علاقته بالشّخصيّة” 7

إنّ ما ينتج بين الشّخوص من علاقات تنطبق ذات الرّؤية على علاقة الشّخوص بالفضاء السّرديّ ومحتوياته تلون رؤية الكاتب،أيّ أنّها تتضمّن التّصوّرات المكانيّة والزّمانيّة للحكاية .

إنّ الفضاء الرّوائيّ هو أكثر من مجموع الأمكنة الموصوفة،وهو يتحدّد بالمكان في زمان محدّد، فالفضاء الرّوائيّ يتكوّن من الزّمن الرّوائيّ والمكان الرّوائيّ .

” الفضاء الرّوائيّ ينشأ من خلال وجهات نظر متعدّدة؛لأنّه يُعاش على مستويات متعدّدة،منها الرّاوي بوصفه كائناً مشخّصاً وتخيليّاً أساساً،من خلال اللّغة التي يستلمها الرّوائيّ لتحديد المكان والزّمان والشّخصيّات التي تحتويها أحداث الرّاوية،والقارئ الذي يدرج بدوره وجهة نظره “8

وهذه الرّاوية تقدّم ذلك ضمن دائرة شخصيّة ضيّقة تنحصر في حكاية الحبّ والفراق التي جمعت بطلي القصّة على المستوى الظّاهريّ،في حين أنّ البنية الدّاخليّة التي تحمل المعنى الغائب للرّواية هي تقدّم مشاهد زمنيّة وتاريخيّة للمنطقة العربيّة وللإنسان العربيّ ضمن منظومة كبيرة من العلاقات وحركاتها.

والرّاوية قائمة كلّها على تقنيّة القطع السّينمائيّ، حيث هناك مشهديّة الحدث بشكل اللّقطة السّينمائيّة  .

(أَدْرَكَهَا النّسيان) رواية الإثارة والدهشة والإبهار على الرّغم من أجوائها الكابوسيّة والانتهاكات التي اعترت حياة بطلي الرّاوية،وتعريتها هشاشة عالمنا الإنسانيّ المخادع والمكايد والأنانيّ.

(أَدْرَكَهَا النّسيان) رواية حبّ وانسحاق مصائر واغتراب وحرمان وضحايا حروب معلنة وخفية  وبوح ؛ “والبوح مثل العري لا يكون إلاّ أمام الذّات أو توأمها” كما قالت ” بهاء” في هذه الرّواية.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى