في الفرق الدّقيق بين الشّهيد والضّحيّة* مادونا عسكر
النشرة الدولية –
كلّ زمن عبر ويعبر وسيأتي، يحمل في طيّاته آلاماً جمّة وجروحاً تحفر في النّفوس. وقد يتناسى الإنسان جروحه، إلّا أنّها تبقى في عمق العمق أثراً بالغاً يستيقظ كلّما تداعت الظّروف وتحرّكت السّياسات واندلعت الحروب وحلّ الموت وحصد آلاف الأرواح. قد يموتالنّاس دفاعاً عن الوطن، أو عن قضيّة سياسيّة أو حزبيّة أو دينيّة. وفي شتّى الأحوال ثمّة التباس حول اعتبار هؤلاء الأشخاص شهداء أم ضحايا. ولعلّنا نخلط بين مفهوم الضّحيّة ومفهوم الشّهيد. والفرق بينهما شاسع ودقيق، ولا يجوز استغلال مبدأ الشّهادة كلّما توفّي شخص في حالة حرب أو اشتباك أو تصفية حسابات سياسيّة أو حزبيّة أو فرديّة. كما لا يجوز استغلال مبدأ الشّهادة إعلاميّاً لخلق جوّ من التّشنّج وتعزيز التّحريض لإثارة للغرائز.
الشّهيد هو من اختار طوعاً أن يحيا مسيرة حياة توصله إلى الشّهادة. لذلك لا نستطيع أن نطلق على كلّ الّذين يموتون في أوطاننا لقب “شهداء”. وبعد الخيار، يأتي القرار الّذي يجعل من مسيرة حياتهم، مسيرة خاصّة جدّاً تتأقلم مع الواقع الّذي آمنوا به، واعتبروه حقيقة مطلقة، وبالتّالي يتناسب القرار مع الخيار الّذي عاشوه. ومن هذا المنطلق، تبدأ مسيرتهم كشهداء، وتطال حياتهم وهم أحياء. هي مسيرة نضال، وسلوك طريق واضح وانطباع خاصّ لما آمنوا به، إلى أن يصلوا لعيش شهادة الدّم. هدف الشّهيد واضح، وهو يعي أنّ الخطّ الّذي اتّبعه يؤدّي به إلى شهادة الدّم، وهو مستعدّ دائماً إلى أن يضحّي حتّى النّهاية، ولو بسفك الدّماء. ويُطلق لقب “شهيد” على من اختار طوعاً ودون أيّ ضغط اجتماعيّ أودينيّ أو عائليّ، بل بملء إرادته الحرّة أسلوب حياته. كما يدفع الشّهيد ثمناً باهظاً للوصول إلى هدفه، والثّمن يخصّه وحده، ولا يمكن أن يحمّله لشخص آخر، ممّن يعرفونه أو حتّى يحبّونه من أهله أو أصدقائه أو معارفه .
إذاً، فالشّهيد، يختار مسيرة حياة، ويناضل في سبيل هدف، ويدفع ثمنه بإرادته الحرّة والطّوعيّة. وهذا الثمن بالنّسبة لمن اختار أن يكون في مصاف الشّهداء، يبلغ أقصاه في شهادة الدّم.
إلّا أن ما نراه فعليّاً هو إمّا التباس حول مفهوم الشّهادة، وإمّا استغلال له بهدف التّخدير أو امتصاص النّقمة أو إنعاش الغرائز في سبيل الفتك والانتهاك أو تحويل مسار الأمور. ولو دققنا في الأحداث التّاريخيّة والأحداث الحاليّة وجدنا أنّ قلّة من الضّحايا الّتي هلكت في الحروب والنّزاعات والصّراعات، شهداء. وأمّا الأغلبيّة فضحايا استُغلّوا وماتوا دون أن يكون هدفهم الموت.
فالضّحايا هم الّذين يدفعون ثمن أهداف غيرهم،ويموتون دون أن يختاروا ذلك، وهم أبعد ما يكون عن هذه الأهداف. فهؤلاء الّذين يلقون مصرعهم في انفجار أو في حادث إرهابيّ، هم ضحايا، لأنّهم لم يختاروا طوعاً أن يموتوا. لذا فالإنسان الضّحيّة يعيش الظّلم والقهر، وبالتّالي يدفع ثمن ما لم يختره وما لم يقرّره، وذنبه الوحيد أنّه أُقحم في لعبة الموت. هناك آخر قام عنه بخيار معيّن وقرّر، وبالتّالي يُسفك دمه دون هدف.
والضّحيّة شخص مجرّد من كلّ قرار، ويوظّف طاقته وقوّته كي يستمرّ بالرّغم من كلّ القرارات الّتي أُخذت عنه في سبيل أن تجعل منه ضحيّة. كما أنّه مجرّد من كلّ هدف إلّا هدف البقاء. فالضّحيّة تصارع البقاء وتناضل من أجل البقاء حيّة راجيةً تحقيق أهدافها على شتّى أنواعها. وهي لا تسعى وإن في ظلّ الصّراعات والنّزاعات إلى الموت.
الموت هو الموت، لا يفرّق بين إنسان وآخر. والأهم من الطّريقة الّتي يموت فيها الإنسان هو أسلوب الحياة الّتي يحياها. ولا بدّ من القول إنّ الموت في سبيل قضيّة ساميّة أسمى ما في الوجود، لكنّ الأهم هو السّلوك الحياتيّ لتحقيق هذه القضيّة. فالّذين يرحلون يتركون آثارهم مضاءة في الذّاكرة، وقد تتلاشى الذّاكرة مع الضغوطات الحياتيّة والانهماكات اليوميّة. وقد تنتعش ليخرج الفاشيّ من جسد الضّحيّة، كما يقول محمود درويش. إنّها الدّائرة المقفلة، دائرة العالم الغارق في الأنانيّة والاستغلال والصّراعات.
الّذين يرحلون، شهداء كانوا أم ضحايا يمضون إلى عالم أفضل من عالمنا التّعيس. والإنسان كائن مقدّس، وإن اختار الشّهادة فطوبى له، فما من حبّ أعظم من أن يبذل الإنسان نفسه في سبيل أحبّائه. وإن لم يختر وسقط وروت دماؤه الأرض، فدماؤه مقدّسة لأنّها دماء أريقت بفعل سطوة القهر والظّلم والانتهاك.