فنجان قهوة مع “الأختان”* بقلم ضحى عاصى

النشرة الدولية –

في هذا الجزء المخصص، والذى رأيت أن يكون عنوانه الثابت فنجان قهوة باسم أول مجموعة قصصية لى، والتى كانت في الأصل زاوية للكتابة فى جريدة التجمع، ومنها بدأت الغوص في هذا الفيض الممتلىء بحجم الكون وتاريخه وجغرافيته ” فيض الكلمة”.

العنوان مفتوح يسمح لى بالحركة والتنوع، ربما يكون فنجان قهوة مع أحد الاشخاص، أو يكون في مكان ما مثلا معبد فرعوني أو قرية فى أقصى الصعيد أو على ضفة نهر السين في باريس، ربما في مسجد أو مسرح، ربما يكون فنجان قهوة على أنغام سيمفونية لموتسارت أو مع الشيخ التونى أو أمين الدشناوى ..

لم أكن أتوقع أن يكون فنجان القهوة هذه المرة في حي الزمالك، وبالتحديد في سفارة النرويج بالقاهرة مع “اسنى سييرستاد،  مؤلفة الرواية الشهيرة “بائع الكتب فى كابول”،  والتى باعت أكثر من مليون نسخة، وترجمت الى ما يقرب من خمسين لغة, “اسنى” المراسلة الحربية التى قضت أكثر من خمسة وعشرين عامًا على خطوط النار في المناطق المشتعلة في أفغانستان وصربيا والبلقان والشيشان والعراق وسوريا، والتى أتت إلى القاهرة لتوقيع أخر أعمالها رواية “الأختان” المأخوذة عن قصة حقيقية لشقيقتين وهما: ايان وليلى  الكبرى 19 عامًا والصغرى 16عامًا  صوماليتا الأصل نرويجيتا النشأة والجنسية  اللتان قررتا مغادرة منزلهما في أوسلو من أجل السفر إلى سوريا للانضمام إلى تنظيم الدولة الاسلامية في العراق والشام، ووالدهما صادق الذى صمم أن يسترجع ابنتيه، رغم كل شيء، فذهب في إثرهما حتى وصل إلى تركيا، ورحلته مع المهربين في إقليم هاتاى واطمه حتى وصل إلى شمال سوريا.

في المناقشة التى استمرت نحو ساعتين تطرق الجميع إلى السؤال؛ ما الذى يجعل فتاتين تعيشان في دولة توفر لهما التعليم والعلاج والحياة الكريمة، وتوفر لهما أيضًا إقامة الشعائر، حيث يوجد هناك مساجد وأشهرها المسجد الصومالى أن تهربا إلى الحرب والخطر وربما الموت ؟..محاولات جادة للفهم هل كانتا تشعران أنهما أقلية ؟هل كان هناك إحساس بالتمييز ضدهما للون بشرتهما الداكنة أو لأصولهما الإفريقية ؟هل هناك تمييز لكونهما أقلية دينية؟

وبينما كان الجميع مشغولًا بهذه المناقشات الحامية كان شريط الذكريات يعود بي إلى عمر السادسة عشرة، كنت تقريبًا في عمر ليلى بطلة رواية “الأختان”, عندما فتحت  ليلى أخرى صديقتى وزميلتى فى المدرسة دولاب أمها وقررت أن ترتدى فستان حملها الفضفاض الواسع الطويل، كانت أمها وقتها حاملًا فى طفلها السادس، كانت ليلى نحيفة لدرجة تبدو هزيلة، وزنها لم يتعد الثمانية وأربعين كيلو جراما ..لكم ان تتخيلوا كيف كان فستان بمقاس امرأة انجبت من الأطفال خمسة يبدو على فتاة مثلها! كنت صديقتها المقربة لم أفهم شكلها عندما رأيتها في هذه الملابس والتى تعلوها طرحة فضفاضة تغطى شعرها وجبهتها، ارتسمت على وجهي علامات الدهشة، والتى قررت ليلى أن تنهيها قائلة: “لقد ارتديت الحجاب؟” واستطردت تحكى “حاولت أمى اقناعى أننى مازلت صغيرة ولكنها مع إصرارى الشديد قالت ماشي بس انتظرى تشترى لبس مقاسك علشان ميبقاش شكلك كده”.

 

في هذه اللحظة التى اتذكرها جيدًا وهي تحكي عن ما حدث بينها وبين أمها،  لمعت عيناها وكانها قبضت على سر الإيمان, كنت صغيرة أدهشتنى قوة ليلى أمام أمها نظرت اليها بانبهار إلى من يمسك بجمرة النار دون أن تحرقه عندما قالت لأمها “سأخرج فى فستانك ولن أنتظر حتى شراء ملابس تناسبنى”.

أتذكر جيدًا ليلى وهى تحدثنى عن مشاعرها تجاه نظرات الناس وتعليقاتهم، وهم ينظرون بتعجب لتلك الطفلة النحيلة التى تنكفئ على وجهها كل خطوتين من طول ثيابها: مع كل انكفاءة أشعر أننى أشبه المجاهدات الأوائل اللاتى هاجرن فى الصحراء، وكل التعليقات االلاذعة التى تطلقها الصديقات والجارات تقربنى من الله، فأنا أتحمل الايذاء النفسي والسخرية مبتغاة وجه الله “..

 

شاركتها مشاعرها واهتماماتها بدأت أقرأ معها الكتيبات التى تحصل عليها من أحد المساجد ومع الوقت بدأت أذهب معها الى حلقات الدرس فى المسجد مع هذا الشيخ الشاب الذى يتحدث عن أشياء جديدة علىّ كنت سعيدة تماما بما افعله فكل خطوة نمشيها الى المسجد تقربنا من الله , الاكتشاف فى هذه السن المبكرة وحده يعطى متعة وحلاوة للحياة ولكم ان تتخيلوا اذا كان هذا الاكتشاف مرتبطا بعلاقة مميزة مع الإيمان ..بدأت الخلافات الصغيرة تنشأ بينى وبين ليلى عندما بدأت أناقش ما يقوله الشيخ الشاب هناك أشياء كان صعب علىّ تقبلها ولا أرى فيها أى منطقية ولكنها كانت تخشى حتى مراجعته ولو بالتفكير، ومع الوقت ابتعدت ليلى شيئا فشيئا أصبح حديثى لا يروق لها, نسيتنى ليلى صديقتى منذ الطفولة وجدت صديقات اخريات يذهبن معها الى المسجد ويعجبهن كلام هذا الشيخ،  تزوجت ليلى من شاب من رواد نفس المسجد ومع الوقت اختفت كل ملامحها فى ذلك الرداء الأسود، حاولت زيارتها لتهنئتها بمولودها الأول ولكنها كانت جافة معى لسان حالها من أنت, أنتظرتُ سنوات طويلة أن تتصل بى حتى لو مرة ..

 

ذاع صيت شيخها مع السنين أصبح له كثير من المريدين ولكنى أبدًا لم أسامحه ولم أثق به، كان ذكر اسمه أمامى يفتح هذا الجرح.

 

كنت أقرأ قصة “الأختان” وأنا أشعر بصدمة صادق فى ابنتيه أشعر بجرحه العميق أفهم رغبته التى دفعته إلى الرحيل من النرويح إلى قلب الحرب فى سوريا ليست فقط لانقاذ ابنتيه من الموت فى الحرب، عاد صادق بعد سنوات من المحاولة ورفضت ابنتاه العودة وكانتا بامكانهما أن تعودا  وتمارسان إيمانهم بكل أريحية، فالمساجد مفتوحة ولا أحد يمنعهما، رفضتا كما رفضت ليلى صداقتى مع أننى لم أرفض شكلها الجديد وحياتها الجديدة.

 

هل حقًا مافعلته الأختان كان لرغبتهما فى إقامة دولة الخلافة أم أنها الرغبة الشديدة فى الانعزال وإقصاء الآخر، أى أخر حتى لو صديقه المدرسة التى لم تقبل تفاسير الشيخ؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى