عن الفيروس كاشف العورات* عريب الرنتاوي

النشرة الدولية –

يصعب التكهن بصورة العالم بعد “تسونامي كورونا”… ما زلنا في قلب الوباء، وتقديرات الخبراء تذهب للقول بأننا لم نبلغ ذروة انتشاره وتفشي تداعياته بعد… بيد أن ذلك لم يمنع الكثيرين ولا يمنعنا، من إجراء بعض التمارين الذهنية، لاستشراف بعضٍ من السيناريوهات المحتملة، فـلطالما كان “المخيال” البشري قادرا على التنبؤ بالمستقبل، وملء الفراغ المعرفي، أليست هذه هي حال الفلاسفة والمفكرين الرؤيويين على امتداد التاريخ المكتوب للإنسان؟

 

الكارثة الاقتصادية، وفقا للخبراء، تبدو محققة… ليس “كورونا” وحده هو المسؤول عن تشكلها وتفاقمها… “كورونا” هبط على الاقتصادات العالمية، وهي تقف على شفير هاوية من أزمة ركود وتباطؤ اقتصاديين تذكر بما حصل قبل أزيد من عشر سنوات… و”كورنا” داهم الأسواق، وهي تعاني من “تخمة نفطية”، وهبوط غير مسبوق في الأسعار، يذكر بما كان عليه حالها قبل عقدين من الزمان.

 

يصعب من الآن تقدير حجم الخسائر الاقتصادية التي ضربت الأسواق والاقتصادات العالمية… لكن الأرقام الأولية “فلكية” بامتياز، وتكاد تجهز على مكاسب النمو التي سجلته دول الاقتصادات المتطورة والأسواق الناشئة… لا حصر لخسائر القطاعات الاقتصادية المختلفة، لكن المؤكد أن صناعات بأكملها ستنهار، وملايين العاملين سيفقدون وظائفهم وفقا لتقارير أممية أولية، لم تخف تشاؤمها من المستقبل.

 

الكيفية التي ستدير بها الدول الكبرى، “جائحة كورونا” واحتواء تداعياتها، وسرعة الاستجابة وفاعليتها في احتواء هذا الوباء، ستقرر من جديد “توازنات القوى” بين الأقطاب الصناعية الدولية… هنا يختلط حابل التنبؤات العلمية بوابل الحسابات السياسية… من قائل بأن الاقتصاد الأميركي سيحافظ على “قصب السبق” في المباراة الاقتصادية العالمية، إلى قائل بأن الصين، بؤرة الفيروس ووطنه الأول، ستخرج أكثر تعافيا بالمعنى النسبي، وستقود عجلة الاقتصاد العالمي في زمن أسرع بكثير من كل التكهنات السابقة… التقدير بهذا الشأن، صعب في هذه المرحلة، والتقرير بشأن مستقبل “توازنات القوى الاقتصادية”، سابق لأوانه، وينطوي على مجازفة معرفية كبرى.

 

أنظمة الإدارة، خصوصا في زمن الأزمات الكبرى، تتعرض بدورها لأكبر اختبار تواجهه منذ الحرب العالمية الثانية… حتى الآن، لا يبدو أن الدول المنتصرة في تلك الحرب، تدير أزماتها الراهنة، بكل كفاءة واقتدار: تقديرات بائسة لحجم الأخطار وطبيعتها، إجراءات متأخرة كثيرا عن أوانها، نقص في الاستعدادات المادية والعلمية، البشرية واللوجستية…

 

تتفاوت الصورة من بلد إلى آخر، بيد أن القاسم المشترك الأعظم بينها جميعا، يشي بدرجات عالية من انعدام الكفاءة والجاهزية، ربما تكون انعكاسا لما تواجهه النظم السياسية في هذه الدول، من أزمات متراكبة ومتراكمة… العالم، بما فيه “العالم الأول”، يعيش اختبارا غير مسبوق، لكأن الكارثة داهمته على نحو مفاجئ وعلى غير استعداد.

 

منظومة العلاقات الدولية تشهد اهتزازا حادا، المراكز الدولية تواصل حروبها المعلنة والمضمرة… الفيروس وفّر مادة جديدة للتراشق… من وصفه بـ”الصيني” بصورة مستفزة لبكين (النظرية العنصرية)، إلى اتهام الولايات المتحدة بتصنيعه وزرعه في ووهان (نظرية المؤامرة)…

 

نظريات فاشية ظننا أن الدهر أكل عليها وشرب تطل برأسها البشع من جديد: “أمن القطيع” و”نظرية الانتخاب الطبيعي” الدارونية… دخول الفيروس على خط “الحرب السيبرانية”، والـ “Fake News”، اتهامات واتهامات مضادة لموسكو من الغرب، وللغرب من قبل الصين، لا أحد “يرجئ حرب اليوم إلى الغد”.

 

لا أحد من الأقطاب المتعددة في العالم يريد أن يتخذ من الانتشار الوبائي للفيروس الخبيء والخبيث، سببا للاقتناع بالحاجة إلى “هدنة مؤقتة” أو مناسبة لـ”وقف إطلاق النار”… الحرب في اليمن متواصلة بمعدلاتها القديمة… والفيروس أعطى جرعة دراماتيكية لـ “ورقة اللاجئين” في الصراع بين تركيا وأوروبا، وواشنطن ماضية في تشديد عقوباتها على إيران، والأخيرة وجدتها مناسبة للتخلص من نظام العقوبات دون تقديم تنازلات، فيما الأطراف العراقية المتناحرة تعجز عن التوافق حول رجل واحد يشكل حكومة جديدة للعراق، والمرتزقة ما زالوا يتوافدون إلى ليبيا، وهذه المرة ليس إلى طرابلس الغرب فحسب، بل وإلى بنغازي كذلك، وتحت جنح الفيروس والانشغال العالمي باحتوائه، يتسلل إردوغان إلى عفرين، في تأكيد على الغطرسة والتبجح، ويفاخر الأسد بانتصاراته في الغوطة الشرقية، وحرب “الإخوة الأعداء” في لبنان، تمنع حسان دياب من التقدم خطوة جدية واحدة للأمام.

 

“العولمة” التي كانت تتعرض لطعنات نجلاء من قبل النزعات “الوطنية” و”الشعبوية” و”الانغلاقية” و”الحمائية”، عودة سياسة “الجدران” والحدود المغلقة، والميل للانسحاب من التكتلات الكبرى (البريكيست) والاتفاقات والمعاهدات الدولية (المناخ مثالا)…

 

“العولمة” المترنحة هذه، لم يكن ينقصها سوى “كورونا” لتتعرض لمزيد من السهام والطعنات… كراهية اللاجئين والمطالبة بطردهم ووقف استقبالهم و”إغلاق” مخيماتهم بإحكام، ليست سوى غيض من فيض “عنصرية” تتلطى بالإجراءات الاحترازية في مواجهة الفيروس اللعين…

 

وبعيدا عن قضية الأجانب واللاجئين وصراع الهويات، لم نر تضامنا وسخاءً دوليين في التعامل مع الجائحة، بل رأينا أعلى مستويات الأنانية والانكفاء إلى الداخل، بلغت حد “تسكير” حدود الاتحاد الأوروبي الخارجية، والبدء بـ”تسكير” الحدود بين دوله كذلك… التخلي الدولي عن إيطاليا المنكوبة، ينهض شاهدا على ما نريد قوله.

 

الديمقراطية التي كانت مهددة بدورها، على وقع صعود اليمين الشعبوي في الغرب، والانتكاسات المتعاظمة في دول جنوب المتوسط، والصعود المتنامي لأدوار أنظمة “لا ديمقراطية” في العالم: الصين وروسيا، وما يفعله اليمين الشعبوي في الهند وبعض دول أميركا اللاتينية… “الديمقراطية المترنحة” هذه، لم يكن ينقصها سوى “تسونامي كورونا” حتى يصبح “تفعيل قوانين الدفاع والطوارئ” والمطالبة بإنزال الجيوش إلى المدن والطرق الواصلة بينها، من أكثر المطالب الشعبية رواجا، وبوصفها سبيل الخلاص الأخير…

 

لكأن البشرية التي بشر كارل ماركس من قبل، ومن بعده منظرو الرأسمالية الحديثة، وكل من زاوية نظر مختلفة بالطبع، بقدرتها على تنظيم نفسها بنفسها، ترفع الراية البيضاء، وتطالب بعودة فورية وغير مشروطة، لأدوات الحكم والتحكم القديمة

 

وحده “المناخ” يأتينا بالأنباء السارة… تعطلت المصانع أو بالأحرى تباطأت قليلا، فكانت النتيجة هواءً أنظف في الصين… تراجع الشغف بالسياحة فنظفت مياه البندقية وتلألأت من جديد… خف الطلب على النفط، فتراجعت نسب الكاربون في الجو… أليس في ذلك دعوة للبشرية جمعاء، لوقف الاستخدام الجائر لمواردنا البشرية، وإبطاء وتائر تدمير الكوكب والمس بنظامنا الطبيعي ـ البيئي؟

 

أما على المستوى الإنسان الفرد، فقد أظهرت أزمة كورونا أسوأ ما فينا وأحسن ما فينا على حد سواء، وهذا فعل الأزمات عموما، ففيها تُختبر إنسانيتا ومستويات… التهافت على تخزين السلع من غذاء ودواء كان ظاهرة بشرية بامتياز، لم تنج منه الدول المتقدمة ولا المتخلفة…

 

وحده “المناخ” يأتينا بالأنباء السارة… تعطلت المصانع أو تباطأت قليلا، فكانت النتيجة هواءً أنظف في الصين

 

غياب الانضباط الذاتي النابع من الوعي بالمسؤولية الفردية عن مكافحة الآفة، ما اضطر دولا عديدة، في العالمين الأول والثالث، لإنزال جيوشها وفرض أحكام الطوارئ وقوانين الدفاع… “جري الضواري” و”صراع البقاء”، ميّز سلوك كثيرين منّا، مشاهد التهافت والمشاجرات على أبواب المتاجر، كانت محمّلة بالدلالات على قرب عهدنا بـ”صراع البقاء”، ومنظر طوابير الأميركيين المصطفين أمام محلات بيع السلاح، صدمت العالم، الذي ظنّ في غفلة من أمره، أن “سيادة القانون” باتت من مسلمات حياتنا، فإذا بنا نعود في لمح البصر إلى “قانون الغاب”.

 

أين الاستثمار في “الثقافة المدنية” و”روح المواطنة” و”سيادة القانون” الذي استغرق من وقت البشرية ومواردها، عشرات السنين ومليارات الدولارات… ولولا بعض قصص وصور، لأناس قرروا تقديم مشاهد ومبادرات مغايرة، وأظهروا أحسن ما لديهم وأفضل ما يعتمل في صدورهم، لكانت صورة البشرية جمعاء، قاتمة ومدعاة للتشاؤم والاكتئاب.

 

ما زلنا في قلب المعمعة، والصورة لم تكتمل بعد، والجائحة مفتوحة على شتى الاحتمالات، والعالم بعد كورونا لن يكون كما قبلها، والمؤسف والمقلق معا، أننا لا نعرف كيف سيكون.

نقلاً عن جريدة “الدستور” الأردنية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى