لبنان المسكين بـ…”أبطاله”
بقلم: فارس خشّان
إذ كانت أعداد الموتى في الإحصاءات المعلن عنها دقيقة، فهذا يعني أن يد جائحة كوفيد-19 لا تزال خفيفة على “بلاد الأرز”، كما على بعض التجمعات “شبه المعزولة” في الشرق الأوسط، ومنها على سبيل المثال مخيمات اللاجئين السوريين وقطاع غزة.
وفي هذه الحال، لولا تأخر لبنان في تجميد حركة الطيران مع إيران “لاعتبارات سياسية”، وفق وصف وزير الصحة حمد حسن (21 فبراير الأخير)، ولاحقا مع إيطاليا (على قاعدة 6 و6 مكرر الشهيرة)، لكانت وضعيته أفضل بكثير ممّا هي عليه.
ولكن، لا يمكن الاستفاضة في التحليل لهذه الناحية، لأن الإحصاءات المعلن عنها تحتاج إلى كثير من التدقيق، في ظل غياب الأرقام التي تتيح الاستنتاجات العلمية، إذ إنّ الأرقام الصالحة للمقارنة بين عدد الموتى في الفترة الوبائية وبين عددهم في مثيلتها من السنة الماضية، غير متوافرة. ووفق القواعد العلمية المتفق عليها، فإن الفوارق في العدد، بين هاتين الفترتين، وحدها تتيح استخلاص الزيادة الفعلية المسجّلة في عدد الموتى، وتاليا قياس الضرر الوبائي الفعلي.
“الأبطال”
إلا أن كل ذلك، لم يمنع البعض من ركوب موجة “كورونا فيروس” لاصطناع بطولات انقاذية، بهدف الاستفادة منها، ترسيخا لنهجه، سياسيا وماليا واقتصاديا وعسكريا ومحوريا، في بلاد غارقة في أسوأ أزمة تشهدها، منذ الحرب العالمية الأولى.
والمفارقة أنه، فيما الدول الطبيعية، تبذل، بتواضع، جهودا جبّارة لاحتواء جائحة “كوفيد-19″، سواء على مستوى التدابير الاحترازية أم المساعي الطبية أم المسارعة إلى ضخ الأموال لتخفيف الأضرار الاجتماعية والاقتصادية والمالية، فإن “الأبطال الانقاذيين” في لبنان، تراهم، فيما هم ينظّمون لأنفسهم قصائد الفخر ويدخلون على صورهم المعدّلة، ببرامج “فوتوشوب”، ملامح الرومانسية، (تراهم) يتخبّطون في مواجهة ما هو أقدم من “كوفيد-19” وأخطر منه على اللبنانيين: الانهيار والفقر والجوع.
وهكذا، مثلا، تواصل الليرة اللبنانية خسائرها المتلاحقة أمام “سيّد العملات”، وتخسر الرواتب قيمتها الفعلية والشرائية، وتصادر ودائع المواطنين في المصارف، ولا تتحرّر منها إلا المبالغ التي يذعن أصحابها، بفعل الحاجة والضرورة أو الخوف من الأسوأ، لسحبها بخسارة تفوق الخمسين بالمئة من قيمتها (والحبل على الجرار)، أي أن الودائع بالدولار، إذا أراد أصحابها سحب بعضها، تتم لبننتها على سعر صرف وهمي لا يعترف به السوق الواقعي.
وتكفي مقارنة بسيطة بين أي دولة طبيعية من جهة، وبين دولة لبنان من جهة أخرى، لقياس الفوارق الكبيرة بين الحكومات التي تضخ الأموال، إنقاذا لشعبها وبين الحكومات التي تأخذ مال شعبها، إنقاذا لنفسها.
لبنان ليس فقيرا
بطبيعة الحال، إن أسهل رد على هذه المقاربة هو في لجوء البعض إلى كلام خشبي من نوع أن دولة لبنان فقيرة والدول التي نصنّفها هنا، بالطبيعية، هي، أقلّه بالمقارنة، غنية.
وهذا غير صحيح، لأنّ دولة لبنان ليست فقيرة، بل “مسكينة” بـ…”أبطالها”.
وهذه بعض الأدلة:
ـ في مؤتمر “سيدر” الذي انعقد في باريس، كما ضمن “المجموعة الدولية لدعم لبنان” التي تضم كبريات الدول وأهم الصناديق والمصارف المالية، لم يتحدّث أحد عن فقر الدولة بل عن سوء إدارتها، من جهة أولى وعن سرقتها، من جهة ثانية، وعن استغلالها في حروب إيران الإقليمية، من جهة ثالثة.
ـ إن هذا الاعتقاد ليس عبثيا، بل يبني نفسه على العوامل التي تسمح باعتبار لبنان دولة غير فقيرة، بدءا بالثروة الاغترابية، مرورا بالقطاعات المنتجة التي يتم تحويلها، بالممارسة الشاذة، نقمة على لبنان، مثل قطاع الكهرباء الذي تكثر حوله وفيه الفضائح التي يندى لها الجميل. وفي قاموس الاقتصاديين، فإن الإفلاس في مفهومه الحقيقي هو تقصير الأصول عن إيفاء المتوجبات. وهذا ليس واقع لبنان، على الإطلاق.
ـ إن وزير المال الحالي غازي وزني، وفي كلمة له في جلسة عمل بين الهيئات الاقتصادية انعقدت في السراي الحكومي في 15 أبريل الحالي، قال إن الدولة تملك عقارات قيمتها أكثر من ستة وستين مليار دولار أميركي.
ـ إن قطاع تكنولوجيا وخدمات الاتصالات الخلوية، تقدّر قيمته بين ثمانية وعشرة مليار دولار.
ـ إن قطاع تكنولوجيا الاتصالات والخدمات الهاتفية الثابتة والبنية التحتية للإنترنت السريع والكوابل البحرية ومحطات الاتصال بالأقمار الصناعية، تقدّر قيمته بين عشرة وثلاثة عشر مليار دولار.
ـ إن قطاع الموانئ البحرية في بيروت وعلى امتداد الساحل اللبناني، واستثمار خدمات قطاع النقل البحري والترانزيت البحري، تقدر قيمته بين خمسة وسبعة مليار دولار.
ـ إن الدولة تملك كل ما يعينها على استثمار مطار رفيق الحريري الدولي والمطارات الأخرى في القليعات وحامات، وإدارة المناطق التجارية الحرة المنشأة وتلك التي تم إقرار إنشائها، ومنشآت تكرير النفط ومشتقاته، وإنشاء مراكز دولية وإقليمية لتخزين وترانزيت النفط.
ـ تملك الدولة اللبنانية حصّة وازنة في شركات أو مؤسسات دولية أو إقليمية (مثل “عربسات”) أو محلية (مثل “سوديتيل” وغيرها).
ـ تقدّر القيمة التجارية لشركة طيران الشرق الأوسط بأكثر من مليارين ونصف مليار دولار.
ـ يمكن للدولة اللبنانية أن تدخل القطاع الخاص الدولي أو صناديق الاستثمار المتخصصة في بناء وتشغيل واستثمار مرافق خدماتية وتجارية هامة على قاعدة نموذج الـ BOT لقاء حصة في تقاسم العائدات، الأمر الذي يريح الدولة من عبء الإنفاق الاستثماري من جهة ويؤمن لها واردات جديدة إضافية من جهة أخرى، وذلك في المرافق العامة مثل، الكهرباء، المياه، النقل، الطرق السريعة، شبكات السكك الحديدية، شبكات المترو، السياحة، النقل البحري الداخلي، المطارات المدنية الداخلية، كازينو لبنان.
ـ القطاع الصناعي في لبنان مؤهل، إذا ما توافر له الدعم اللازم، أن يسد فجوة كبيرة، لا تخفف من كلفة الاستيراد فحسب بل ترفع من القدرة التصديرية الجاذبة للعملات الصعبة أيضا، وكذلك الحال، بالنسبة للقطاع الزراعي.
ـ إن القطاع المصرفي في لبنان، كان حتى الأمس القريب، متفوّقا عالميا، ولكن، بدل تعزيزه وتحصينه وحمايته لينهض بالاقتصاد الوطني ويجذب العملات الصعبة ممّا يسعف الوضعية المالية للدولة، جرى استغلاله، بالإغراء، حماية للحكومات المتعاقبة، منعا لسقوطها تحت وطأة عجزها وتقصيرها وفسادها وتهاونها السيادي. الآن، في خضم سقوط الدولة تحت ضخامة أعبائها، تتم مساءلة هذا القطاع، كما لو كان، في أصله، “جمعية خيرية” استفادت من الهبات الممنوحة لها، باسم الخير العام. وهذا نهج إذا ما تواصل، سوف يكلّف لبنان ما هو أثمن من المال وأبقى: الثقة والوظيفة.
غياب الثقة، يمنع تدفقات الأموال إلى المصارف اللبنانية، ممّا ينهي وظيفة لبنان التقليدية كمصرف الشرق الأوسط، وهي أهم الوظائف التي كان يلعبها لبنان، منذ الاستقلال.
وثمة أجيال لبنانية وعربية، تربّت على نظرية مفادها أن إسرائيل تناصب كبير العداء للنظام المصرفي اللبناني، لأنها تريد أن تحتكر لنفسها هذه الوظيفة في الشرق الأوسط.
اللافت للاهتمام أن ما كان يُنسب، زورا أو حقا، إلى إسرائيل يتولّى تنفيذه، في الوقت الراهن، “حزب الله” بالذات، وهو الذي يرفع سلاحه في وجه الجميع وبه يفرض ما يشاء من قرارات على السلطة، باسم المواجهة المستمرة مع إسرائيل حتى اقتلاعها.
“بيت الداء”
وهنا، نصل إلى “بيت الداء” اللبناني.
منذ وصوله إلى رئاسة الحكومة، لا يخلو خطاب مالي-اقتصادي لرئيس الحكومة حسّان دياب الذي يرعاه “حزب الله” ويحميه ويدافع عنه، (لا يخلو) من التشديد على “الحاجة إلى فريق عمل يستطيع أن يطمئن المجتمع الدولي” من أجل تدفّق الأموال الضرورية والملحة، من الخارج.
من هو هذا الخارج؟
إنه صندوق النقد الدولي، والمانحون الدوليون في مؤتمر “سيدر” والمهتمون بدعم لبنان في “مجموعة دعم لبنان الدولية”، والأهم دول مجلس التعاون الخليجي، تتقدمها المملكة العربية السعودية.
ماذا يريد هذا الخارج، حتى يهب لمساعدة لبنان؟
يطالب بدولة تمنح الثقة، أي أنه يريد دولة طبيعية.
كيف تكون هذه الدولة طبيعية؟
دولة تُمسك بقرارها وتُحسِن إدارة مواردها، بكفاءة ونزاهة وشفافية.
ما هي الترجمة العملية لذلك؟
صحيح أن وقف الفساد والإصلاح ضروريان، ولكن في الطريق إليهما، يجب فصل “حزب الله” الذي يصنّفه المجتمع الدولي، وفق معاييره، في خانة الإرهاب، عن الدولة اللبنانية وخزينتها وما تتلقاه من مساعدات وهبات وقروض ميسّرة.
وفي هذا السياق، يكفي أن نستعيد حيثيات خسارة لبنان، قبل سنة واحدة، لقرض ميسّر مقداره مئة وخمسون مليون دولار أميركي موزع كالآتي: مئة وعشرون مليون دولار من بنك النقد الدولي وثلاثون مليون دولار من “البنك الإسلامي لتطوير مراكز الرعاية الصحية”.
كان هذا القرض الذي وافقت عليه الحكومة السابقة في أواخر العام 2018، مخصصا لتطوير مراكز الرعاية الصحية الأولية وتعزيز قدرات المستشفيات الحكومية.
ولكن، لماذا خسر لبنان هذا القرض الميسّر، في وقت كان يشكو ليس من رداءة الخدمات الصحية فحسب بل من ندرة تدفق العملات الصعبة أيضا؟
الجواب المختصر، هو: “حزب الله”.
لماذا؟
لنقرأ جواب وزير الصحة السابق جميل جبق الذي يتحمّل مسؤولية هدر هذا القرض. يقول في إطلالات تلفزيونية موثقة الآتي: “البنك الدولي عرقل القرض لخلفيات سياسية، لا سيما أن حزب الله هو من اقترح اسمي لوزارة الصحة”.
ويروي جبق أنه بعد اجتماعات عدة مع ساروج كومار جا، مدير دائرة المشرق في البنك الدولي، فرض عليه هذا الأخير جملة شروط وأهمها، على الإطلاق، أن تكون كل مراكز الرعاية الأولية التابعة لـ”حزب الله” خارج البرنامج، فأجابه جبق: “أنا وزير لكل لبنان، بغض النظر عمّن سمّاني، فإما يكون جميع اللبنانيين وكل رعايا المراكز الأولية مع بعضها البعض أو لا أريد هذا القرض(…) أنتم تفرضون عليّ استبعاد ثلث الشعب اللبناني من المشروع، ولذلك أنا لا أستطيع أن أمشي في مشروع مماثل”.
بطبيعة الحال، كان المطلوب استبعاد “حزب الله” من الاستفادة من “المال الدولي والعربي” وليس “ثلث الشعب اللبناني”، أي الطائفة الشيعية.
ولكن أدبيات “حزب الله” تحاول أن تفرض هذا الدمج بين الطائفة الشيعية وبين هذا الحزب.
وتعطي هذه الحكاية الواقعية فكرة عن مشكلة لبنان الخارجية والأسباب التي تنقله من حفرة إلى حفرة، ويتضح، سواء بما يتردد في الكواليس الدولية واللبنانية، وما يقال على المنابر الإعلامية، أن مصيبة لبنان وشعب لبنان في… أبطاله.
جميع اللبنانيين مدعوون، طوعا أم اضطرارا، إلى التضحية من أجل إنقاذ لبنان. وحده “حزب الله” لا يريد أن يعدّل لا في برنامجه ولا في أهدافه. يكتفي بالبروباغندا التي لا تشفي مريضا ولا تشبع جائعا، وبطبيعة الحال لا تُنقذ وطنا ينوء تحت أثقال الأجندة الإيرانية.