سياط الفضيلة* د. ابتهال الخطيب
النشرة الدولية –
ثارت قبل أيام عندنا في الكويت قصة امرأة متحولة (من الذكورة للأنوثة) والتي كانت مطلوبة على ذمة قضية “تشبه بالجنس الآخر” حيث ظهرت على وسائل التواصل الاجتماعي شاكية ما سبق وأن حدث لها في السجن على وجه الخصوص، وفي الحياة اليومية عموما.
قصة التحول هذه ليست الأولى من نوعها في منطقة الخليج أو إقليم الشرق الأوسط، فقد سبق وأن ظهرت أكثر من قصة وصور وحسابات وسائل التواصل الاجتماعي وضعت قضية التحول تحت الأضواء. وفي كل مرة تظهر قصة وحالة، تتبين معها كمية الجهل الشديد العام حول مفهوم الهوية الجنسية وتعقيداتها، وحول المنطلقات الطبية، والإنسانية، والحقوقية في التعامل معها.
فالقانون الكويتي الذي يجرم التشبه بالجنس الآخر، وهو قانون له نظرائه في العديد من الدول حول العالم، هو قانون لا يفتقر فقط للنظرة الحقوقية الأساسية، ولكنه يفتقر وبشدة للوضوح والمباشرة المطلوبة من النصوص القانونية. فكلمة “تشبه” هي كلمة مطاطية، يختلف معناها من شخص لآخر. كما أن معاقبة الفرد على مظهره، خصوصا إذا لم يتعد المظهر بشكل صارخ فاضح قوانين الآداب العامة، هو تعد واضح وصريح على حرية الفرد الشخصية.
لسنا مؤهلين لا نفسيا ولا أيديولوجيا ولا مجتمعيا ولا حتى أمنيا للتعامل مع هذه الدرجة من الحرية وقبول الاختيارات الحياتية الشخصية
هذه الفكرة عسيرة الوصول للشعوب العربية المحافظة عموما، والتي لا تستطيع مد مفهوم الحرية إلى هذا الحد من السعة. هناك عقدة غليظة الإحكام تقف في خيط الاستيعاب بين مفهوم الحرية ومفهوم القبول والرضا عن التصرف. الشعوب العربية عموما، والخليجية تحديدا، تعتقد أن الحرية تنحصر في المقبول، أنت حر أن تختار بين الخيار والطماطم، فكلاهما مقبولين، لكنك لست حر أن تختار لحم الخنزير، فهذا ليس فقط غير مقبول بل هو فعل محرم دينيا.
الفكرة سهلة ومباشرة، إلا أن إيصالها إلى العقلية، أي عقلية، تعتقد بامتلاكها الحق المطلق، هي عملية غاية في الصعوبة. الفكرة حول مفهوم الحرية تتركز في نقطتين: أولهما أن ممارسة الحرية تتحقق في حالة إتاحة الفرصة للمرفوض قبل المقبول، فالمقبول لا يحتاج لحرية تُفسَح له، هو مقبول ومسموح به مسبقا، المرفوض هو الذي يختبر تطبيقنا للحرية، هو الذي يحتاج للإتاحة والمساحة.
أما ثاني النقطتين، والتي أظنها الأصعب، تتركز في أن إتاحة الحريات الشخصية للناس لا تعني لا علنا ولا ضمنا الموافقة على تصرفاتهم أو القبول بها أخلاقيا أو اجتماعيا. كل ما تعنيه وببساطة هو الانصياع المجتمعي لمفهوم الحق الإنساني في الحرية الذي يتيح مساحة لممارسة حياة مختارة حقيقية حرة للفرد، لا حياة متخفية مظلمة نفاقية.
هذه الإتاحة لا تعني القبول، أن يُفسح المجال للإفطار الجهري في رمضان مثلا أو للسفور في الملبس، أو عكسا، للتنقب، لا يعني ذلك الموافقة المبدئية أو الأخلاقية أو الدينية على فكرة الإفطار أو السفور أو التنقب، هذا الإفساح يعني وببساطة تمييز المجتمع لحق الفرد أن يكون مختلفا، أن يعيش حياته بشكل حقيقي وحر، ولو كلفه اختلافه وحقيقيته أن يكون عاصيا لدين أو مخالفا لتقليد. سيدخل النار؟ ليكن، مالنا وآخرته، ومن جعلنا أوصياء على مصيره الأبدي؟
إلا أن إشكالية الهوية الجنسية في مجتمعاتنا العربية تتعدى مجرد مفاهيم الحرية، فهي مشكلة عميقة جدا ومعقدة جدا، تبدأ من الجهل المدقع في مفهوم الهوية الجنسية والحقائق العلمية والطبية حوله وتنتهي إلى أحكام مسبقة مطروحة وليس من الممكن تغييرها، على الأقل حاليا، ولو أتت كل الأدلة العلمية الممكنة لتشرح الفكرة وتبينها.
تبدأ المشكلة من انعدام القدرة تماما على التفرقة بين التحول الجنسي transsexuality والمثلية الجنسية homosexuality ومستخدم مظهر الجنس الآخر transvestite وكذلك متبادل الملبس مع الجنس الآخر crossdresser. يجمع الناس كل هذه الحالات تحت مظلة كلمات قبيحة شاتمة عادة، لا تنم فقط عن الجهل العلمي ولكن كذلك عن غياب حقوقي كبير في التعامل مع المختلف بل وحتى من “يعتقده” الناس آثم كافر.
تذهب الأبحاث العلمية والفلسفية اليوم للتشكيك بالمفهوم الثابت لتقسيم البشر أساسا إلى ذكر وأنثى، حيث ترمي الكثير من الأبحاث لوجود تنوع هائل في الفسيولوحية البشرية مما يجعل كل جسد بشري لربما جنس منفرد مميز عن غيره. ولأننا نستوعب الواضح المنتشر فقط، فإننا نعتقد أن كل مخفي هو شاذ، في حين أن الكثير من المخفي هو مختبئ من جهل البشر وعنفهم وأحكامهم المرعبة.
إشكالية الهوية الجنسية في مجتمعاتنا العربية تتعدى مجرد مفاهيم الحرية، فهي مشكلة عميقة جدا ومعقدة جدا، تبدأ من الجهل المدقع في مفهوم الهوية الجنسية
كلنا تحتوي أجسادنا على نسب مختلفة من الذكورة والأنوثة مجتمعين، إلا أن هناك حالات بشرية متنوعة إلى حد لا يمكن أن نتخيله، هناك من يولد بأعضاء تناسلية عدة، هناك من تولد بلا رحم ومبايض، وهناك من يولد بهما، هناك نساء تزيل لاحقا رحمها ومبايضها، وهناك رجال يفقدون هرمونات الذكورة لاحقا في حيواتهم. هناك أجساد تبدو عليها علامات الأنوثة الواضحة في حين أن كروموسوماتها ذكورية، والعكس متحقق كذلك، إلى غيرها من الحالات الفسيولوجية والجسدية المتنوعة الغريبة التي لا يمكننا تخيلها، فما هو حكم هؤلاء؟ هل هم ذكور أو إناث؟ وبأي ذنب يعذبون ويعزلون وينبذون؟
الفكرة الأصعب تأتي مع المثلية لعدم وجود أبحاث قاطعة حول قسر فسيولوجي أو نفسي لهذا المنحى، مما يصورها اختيارا أكثر منها فرضا. وفي واقع الحال، هذه صعوبة حقيقية وموجودة، فعلى الرغم من أن العديد من الأبحاث العلمية تقول إن الكثير من حالات التحول والمثلية هي حالات فسيولوجية مفروضة على أصحابها، هناك كذلك منحى اختياري لهذه الحالات، بدوافع نفسية أو غير نفسية، وهو منحى لا يمكن نكرانه، فكيف يفترض التعامل معه؟
الجواب على هذا السؤال بعيد جدا عن طابع مجتمعاتنا وعن قدرتها النفسية والحياتية على قبول المختلف، الجواب صعب التقديم، دع عنك التطبيق. التعامل مع الحالات العلمية المثبتة التي نرى معاناة أصحابها فاقعة واضحة لا يزال متعرقلا وشديد الصعوبة، فكيف بالتعامل مع الحالات التي لا زالت قيد الدراسة والبحث أو التي تدخل في هامش الحرية الشخصية لا الفرض البيولوجي؟
لسنا مؤهلين لا نفسيا ولا أيديولوجيا ولا مجتمعيا ولا حتى أمنيا للتعامل مع هذه الدرجة من الحرية وقبول الاختيارات الحياتية الشخصية. ربما لكل مجتمع “الحق” في تحديد مفاهيمه الأخلاقية وسقفه العاداتي والتقاليدي وبالتالي رفض المظاهر “الاختيارية” التي تتضارب بشدة ومباشرة مع طبيعته، ولن نستثني شعوبنا من هذا الحق، إلا أن هذا “الحق” حتى وهو يفرض نفسه، يفترض أن يحترم أمن وحريات الآخرين وأن يتحقق فكريا وسلميا لا من خلال العنف المجتمعي أو القانوني.
لكن الحديث اليوم ليس عن هذه الدرجة من الحرية ولا هذا القدر من الانفتاح واحترام اختيارات الآخر، الحديث اليوم عن المنبوذين المهمشين لأسباب خارج نطاق سيطرتهم، بفعل عوامل ولدوا بها، ومن حقهم الإنساني الأصيل أن يتلقوا لها العناية الجسدية والنفسية المطلوبين إن كانت هناك حاجة لهما.
وأزيد على ذلك، أن هذا الحديث لا بد أن يشمل كذلك هامش من الحريات لأصحاب الخيارات المخالفة والمختلفة، فطالما احترم الإنسان قوانين الآداب العامة والقواعد المجتمعية في الشارع، فلا يجب أن يؤاخذ على اختياراته الشخصية بتأثير قوانين تحاكم نواياه أو تحتكم الى استنتاجات حول أسلوب حياته من مظهره.
ليتنا نعلم أن الفضيلة الحقيقية هي تلك التي يختارها الناس بحر إرادتهم، وأن الأخلاق المستقرة هي تلك التي يمارسها الناس بمحض اختيارهم
إذا كان الشخص ملتزما بقوانين البلد وقواعد آدابها العامة، لا يفترض أن يمسه ضرر، وعلى الدولة أن تحميه من الآخرين في المجتمع الذين ينصبون أنفسهم ولاة وحماة. تحمي الدولة أفرادها بنأيها عن إقرار قوانين هلامية مرضية شعبيا ومعيقة إنسانيا، كما يحدث في الكثير من الدول العربية والإسلامية، بأن تقدم سلامة الأفراد الجسدية على “رفعتهم الأخلاقية”، فالمنظومة الأخلاقية خاصة ومختلفة من شخص لآخر، وليس للدولة، التي هي جهاز مدني تنظيمي، أن تدخل في تحديده للأفراد إلا في أدنى الحدود وبما يتعلق بالممارسات العامة الواضحة في شوارعها.
أعلم أن هذا الكلام لن يمر مرور الكرام، فنحن نفتخر بتطبيق الحرية عندنا، فقط تجاه ما نتوافق عليه أصلا، ونفتخر أكثر بخطوطنا الحمر التي نحيط بها مساحة الحرية القليلة. يعتقد الناس أنه كلما زادت الموانع والخطوط الحمر، كلما زاد وزن الأخلاق في المجتمع ومحافظته وفضيلته.
ليتنا نعلم أن الفضيلة الحقيقية هي تلك التي يختارها الناس بحر إرادتهم، وأن الأخلاق المستقرة هي تلك التي يمارسها الناس بمحض اختيارهم، وأن أخلاقية المجتمع لا تتبين في كثرة خطوطه الحمر، في الواقع كثرة الخطوط هي اتهام للناس والمجتمع بالتسيب والانفلات وتشكيك في أخلاقهم، إنما تتبين أخلاقية المجتمع في تحرر القرار الجمعي فيه. إذا ذهب المعظم بمحض إرادتهم لأداء صلاة الجمعة فهذا تدين جمعي حر، أما إذا ذهبوا لها اتقاءً للسياط في أيدي المراقبين فهذا نفاق جمعي مفروض. إذا تحرر الاختيار صدقت الأخلاق.