رشاد أبو شاور العملاق الأخير* د. أفنان القاسم

النشرة الدولية –

أولاً) في قصة من قصصه الأخيرة “ابتسامة ما” سبتمبر 2019 (وفي كل قصصه)، ينتقل الفاعل، حسب مصطلح عالم اللسانيات جريماس، لدى رشاد أبو شاور، من تاريخ الواقع إلى واقع التاريخ، لتقييم أفعاله، أفعال لا تتجاوز الشرط الإنساني، صاحبة الابتسامة بتشكلها في مسيرة العودة كواحدة ما، وفي الوقت نفسه أفعال تتجاوز هذا الشرط ، صاحبة الابتسامة بتميزها في هذه المسيرة كابتسامة ما، وخاصة كفعل ما، وهي تسهر على حياة السارد “غير المندفع مع المندفعين”، وفي المسيرة على حياة كل “مندفع”، فيؤسطر الكاتب الفعل العادي بالفعل الميتافيزيقي، صاحبة الابتسامة ما فوق قنابل الغاز، وحتى ما فوق القنابل، عندما تأمر بنقل أحد الجرحى، وتسعف السارد عاملةً على ألا يسقط شهيدًا أو يسقط غيره، لتتجاوز شرطها الإنساني، ولتحقق أماني “الجماعة” التي تنتمي إليها. لدى رشاد أبو شاور الفاعل، أو، البطل، عادي في فعله أسطوري في مدى الفعل.

ثانيًا) لمفهوم البطل لدى رشاد أبو شاور بعدان دومًا وأبدًا، العادي في فعله، واللاعادي في مداه، ويتشكل هذا المدى تشكل الشخصية لديه، هذه الابتسامة الميتافيزيقية خير تعبير عن ذلك، وكذلك ذلك الحضور المغامر لشخصية مغامرة في وسط مغامر، “جسدها المشدود كأنها على وشك الانطلاق في مسابقة ركض”، كلما علا الواقعي، العادي، عند الكاتب، كلما علا في الوقت نفسه اللاواقعي، اللاعادي، فالمسيرة تجري تحت نيران الجيش الإسرائيلي، مسيرة كأية مسيرة ولكنها بخصوصيتها “الشاذة” ليست كأيها، ليكون التعبير عن الشجاعة كمعادل للتضحية، ليس أخلاقيًا حسب المفهوم المثالي، لهذا قلت “شاذة”. لدى رشاد أبو شاور “الشذوذ” عنصر من عناصر الفاعل، أو، البطل، شاذ في فعله متساوق في مدى الفعل.

ثالثًا) البطل لدى رشاد أبو شاور عادي واقعي، وفي الوقت نفسه غير عادي غير واقعي، إنه التعارض المطلق في العلاقات البنيوية لنصه، لا أقول التناقض، ككل شخصية عادية لاعادية واقعية لاواقعية، فالسارد الذي هو الراوي ككل راوٍ عادي لاعادي واقعي لاواقعي، ومحور السارد الذي هو الابتسامة وصاحبة الابتسامة ككل محور عادي لاعادي واقعي لاواقعي، وجو السارد الذي هو المسيرة ككل جو عادي لاعادي واقعي لاواقعي، فصاحبة الابتسامة امرأة عادية واقعية ككل النساء في العالم تسير لهدف العودة لتصبح امرأة غيرعادية غير واقعية، وهذا هو المستوى الأول لبنيتها السردية، المستوى “الجمعي”، ولحرصها على حياة السارد (تعرفه في المخيم وهو لا يعرفها “أنا من مخيمكم، أراك دائمًا وأنت تتمشى في طرف المخيم، ولكنك لم تنتبه إليّ”) تسير لهدف المعرفة لتصبح كذلك امرأة غير عادية غير واقعية، وهذا هو المستوى الثاني لبنيتها السردية، المستوى “الفردي”. إنه التمثيل الضد-الكنفاني التمثيل الجمعي-الفردي التمثيل العادي-اللاعادي التمثيل الواقعي -اللاواقعي التمثيل المعاصر للبطل في القصة الفلسطينية.

رابعًا) يتراوح الفاعل، البطل، لدى رشاد أبو شاور بين شخصيتين الأولى مفترضة، السارد في المخيم وصاحبة الابتسامة في نفس الفضاء العادي وكل المشاركين في المسيرة، والثانية مبتكرة، السارد في أرض المسيرة في غير الفضاء العادي غير مندفع على غير طبيعته، فهو نظرته (نظرة السارد) إلى الأشياء اندفاعها وقفزها وتهيؤها، إضافة إلى نظرة صاحبة الابتسامة إليه، “نظرتها المثبتة عليّ”، ليرتبط البطل القصصي بالمكان، وليرتبط المكان القصصي بدوره بالبطل، ليكون الظرف القصصي، الذي هو كل شيء للكاتب كتسريد للظرف الواقعي. المبتكَر للمفترَض هنا حتمية تؤرق هواجس الكاتب لا يفرضها بالقوة السياسية التي هو عاجز عن امتلاكها، يفرضها بقوة ما يمتلك من أدوات الخلق.

خامسًا) القيم اللابطولية لدى رشاد التي يمثلها الجندي الإسرائيلي كماكينة قمع وقتل واحتلال حاضرة منذ السطور الأولى من القصة، وبعد ذلك مع دورة الأحداث في التدوير السردي، ولأقل على طريقتي ما لم يقله الكاتب: إنها قيم بطولية من الناحية الأخرى للصراع في خدمة الشر المتمثل بالقمع والقتل والاحتلال، وكأني بالكاتب يطفئ بشمس الابتسامة التي تشغل باله جحيم العقدة بين حاجبي عدوه، فلا يرى في القمع والقتل والاحتلال سوى الثغر الذي يحبه وإلى الجحيم الموت الذي ينتظره، “أنا شهيد أم جريج؟”. التساؤل الوجودي في القصة عن الاستشهاد من دون خواص “بطولية” بخواص إنسانية.

سادسًا) تفترض الابتسامة كما تم التعبير عنها لدى رشاد أبو شاور إضاءة للخيبة، هناك كل جمال الابتسامة في بنية الهُنا حيث يدور الحدث، وهناك كل غير جمال الابتسامة في بنية الهُناك حيث لا يدور الحدث: استمرار الجحيم في المخيم، استمرار الاحتلال في الأرض المحتلة، استمرار الاستيطان، استمرار الحصار، استمرار الاستسلام، استمرار التهويد، استمرار القرض والضم والاغتصاب، استمرار التواطوْ الفلسطيني العربي الإسلامي الأمريكي الدولي… كل هذه الاستمرارات “البطولية” في عوالم الخيبة تقوم في المدى السردي للابتسامة في المدى الافتراضي للنظرة، “ما معنى نظرتها؟ كيف تراني، ولماذا تنظر إلي؟!” هذه الأسئلة حول معنى نظرتها تقول بكلام مطابق في الصراع الدائر: كيف تراهم؟ ولماذا تنظر إليهم؟ إنه الإطار لدى رشاد أبو شاور وليس السياق الذي يحدد خواص البطل، والذي للظروف التي يفرضها الإطار عليه يمكن فهم وضعه العادي ووضعه اللاعادي.

 

القصة : ابتسامة ما / رشاد أبو شاور

لم أندفع مع المندفعين. مشيت متريثا متأملاً متصفحا الوجوه، متسائلاً: على من الدور اليوم؟ من سيقع شهيدا، أو شهيدة، جريحا، أو جريحة؟.

بت حريصا على الانضمام للحشود، والسير في زحامها، وتنفس هواء تتنفسه، وإرسال نظرات بعيدة تخترق الأسلاك وتشمل الجنود الذين يتربصون ويسددون بنادقهم، وعلى رؤوسهم خوذهم، وهم يتربصون وراء مرتفعات رملية تحميهم، والسيارات العسكرية التي تمرق مسرعة، وفيها عسكر يراقبون الحشود المندفعة، وبنادقهم مسددة الفوهات…

فجأة تنبهت على نظرتها المثبتة علي وهي تتأملني.. فابتسمت، وغضضت نظري للحظة حتى لا تظن بي سوءا، وإذ أعدت تثبيت نظري صوبها لم تشح بنظرها عني، وهذا ما أربكني..وجعل قلبي يخفق بقوّة.

توقفت، وتشاغلت بالمرور بنظرة طويلة على كل ما يحيط بي، فالتقت نظرتي بنظرتها التي خيل إلي أنها لم تتبدل منذ تنبهت عليها، فارتبكت، ودفعت جسدي لأنتزعه من المكان، وأنا راغب في البقاء تحت نظرها، وغير بعيد عنها.

داريت حرجي بالقرفصة وكأنني أسعى لإراحة قدمي من تعب مدّعى، فأنا لم أمش مسافة طويلة بعد، ومشيت بلا عجلة، ثم أنا لا أقفز برشاقة مثل أولئك الفتيان المندفعين المتقافزين المتهيئين لأي احتمال مهما كان سيئا.

ما حكاية هذه الفتاة؟ تبطئ مشيتها، وتميل عن مسارها، وتنسرب بين حشود المندفعين، وكأنها تقترب مني قصدا، و..أنا لا أعرفها، أجهل اسمها، ومن أين هي، أهي من مخيم ؟ من مدينة؟ لاجئة، أم مواطنة؟ حجابها خفيف يبدي شعرها الأسود على جبينها الجميل، ويظلل أنفها، ويرسم وجهها بلون وردي..أسمر وردي.

هي في حدود العشرين، جسدها مشدود كأنها على وشك الانطلاق في مسابقة ركض. تنتعل حذاء رياضيا ورديا، وبنطالا رماديا، وجاكتة زرقاء فاتحة، وقبة القميص تبدو بيضاء.

 

دوّت انفجارات قنابل الغاز، وتصاعد الدخان الخانق النتن المقزز فتراجعت إلى الوراء، أمّا هي فاندفعت. رأيتها تنحني على رأس أحدهم، وتشير للفتية حولها أن ينقلوه بعيدا لإسعافه.

التقت نظرتي بنظرتها. نظرتها متسائلة..هكذا بدت لي. تساءلت: ما معنى نظرتها؟ كيف تراني، ولماذا تنظر إلي؟!

تفجّرت قنابل الغاز المتساقطة من طائرة مُسيّرة تحوّم فوق الرؤوس، وتعالى الصياح والسعال، واستغاثات تبدو مرحة تمتزج بنوبات سعال.

امتلأ وجهي وأنفي وفمي وصدري بالدخان، ودارت الأرض بي، ووجدتني ممدا على الأرض، وهي تفرك أنفي وصدري، وتدفعني لاستنشاق شيء ما…

وجهها يملأ عيني، وأنا أسعل وعيناي تنزفان دموعا غزيرة، وأنا أتلوى، ثم أستقر ممددا ببطء:

أسمع ضجيجا يملأ رأسي. وجهها ينحني وابتسامتها تطمئنني وتخفف الثقل والتشنج في رئتي:

كنت أعرف أن هذا سيحدث لك..الحمد لله أنني بقيت قريبة منك.

رفعت رأسها وأمرت فتيانا حولها وهي تبتسم:

يلاّ ..روحوا .. لا تنشغلوا به، سينهض بعد قليل.

حرّكت راحة يدي، ولمست بأصابعي المرتعشة أصابع راحتها، بينما المساء يهبط والأصوات ترتفع : يلاّ يا شباب..خلاص..اليوم اكتفينا..لازم نحصي الجرحى.. ونتفقّد إن كان هناك شهداء في مواقع أُخرى..و…

ابتسمت لها وأنا أبالغ بالسعال، وبكلمات متقطعة الحروف:

أأنا شهيد..أم جريح..يا..؟!

ابتسمت ابتسامة واسعة، ولكزتني في كتفي:

مستعجل؟! ألا تدري أن هناك فلسطينية تحبك؟!

ضغطت بيديّ على التراب، ونهضت شوية شوية.

تعال بكره..أيوه؟ أنا من مخيمكم..أراك دائما وأنت تتمشى في طرف المخيّم..ولكنك لم تنتبه لي!

استدارت واندفعت مسرعة بين أرتال من انسحبوا تحت المساء منهين يوما آخر من المواجهات..أمّا أنا فأسرعت وأنا الهث متابعتها وهي تمضي برشاقة بين الحشود..حتى لا تغيب عن عيني.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى