اغتيال رفيق الحريري بين الحكم و… الحقيقة* فارس خشّان
النشرة الدولية –
صدر الحكم في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري، إلا أن الحقيقة الكاملة لم تسطع!
لا غرابة في ذلك، فالزوايا الغامضة كانت ماثلة بقوة، منذ صدور القرار الاتهامي في الملف قبل تسع سنوات.
ولهذا سبب واضح وجلي!
إن التقدم في كشف المستور توقف، في 25 يناير 2008، في تلك اللحظة التي اغتيل فيها النقيب في شعبة المعلومات التابعة لقوى الأمن الداخلي، وسام عيد.
ولولا اكتشافات عيد، الذي لم تُرهبه لا محاولة اغتيال باكرة كان قد تعرّض لها، ولا تلك التي استهدفت رئيسه السابق العقيد سمير شحادة، لما كان هناك لا قرار اتهامي، ولا محاكمة، ولا حكم.
ولولا اغتياله لما كان اكتشاف الحقائق والمعطيات والأشخاص قد توقف عند هذا الحد.
وهكذا، فإن الإجرام الذي قضى على رفيق الحريري، هو نفسه الذي حطّم الأضواء التي كان مقدرا لها أن تكشف غالبية المرتكبين إن لم يكن جميعهم.
إن نتيجة حماية الإجرام بالإجرام، ظهرت، بوضوح اليوم في حكم مليء بالإيحاءات الناطقة ولكنه مشوب بالأدلة الناقصة التي لم تبرئ ثلاثة متهمين فحسب، بل أصحاب المصلحة في الاغتيال، أيضا.
وكما في القرار الاتهامي الذي كان قد أصدره المدعي العام، كذلك في الحكم الذي أصدرته غرفة الدرجة الأولى، بقي مجهولا ـ بفعل نقص الأدلة ـ من أمر، ومن حرّض، ومن موّل، ومن ساعد في التنفيذ المذنب الوحيد في الملف سليم عيّاش، بعد إسقاط الدعوى العامة عن “المذنب الافتراضي” الثاني مصطفى بدر الدين، بسبب اغتياله في سوريا، حيث يقاتل “حزب الله” جنبا إلى جنب مع نظام بشّار الأسد.
ومن البديهي قضائيا، أن يلحق الحكم بالقرار الاتهامي، فغرفة الدرجة الأولى في المحكمة الخاصة بلبنان، كما في كل المحاكم الوطنية والدولية، لا تفتح تحقيقا مستقلا، بل “تحاكم” القرار الاتهامي، فتصادق عليه كليا أو ترفضه جزئيا أو كليا.
وغرفة الدرجة الأولى في حكمها الصادر اليوم، حكمت لمصلحة القرار الاتهامي جزئيا، فجرّمت سليم عياش وتبنّت الوقائع الجرمية كما المعطيات السياسية، لتبرّئ في المقابل المتدخلين بالجريمة، أي المتهمين الثلاثة الذين نسب إليهم القرار الاتهامي أدوارا في الشق التضليلي المتمحور حول كل ما يتصل بتبنّي الجريمة المنسوب زورا إلى أحمد أبو عدس.
وهذه النتيجة، مع أنها متوقعة، أحبطت اللبنانيين كما المهتمين بقضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري في الرابع عشر من فبراير 2005، لأن من يسمّونهم “الرؤوس الكبيرة” بقوا بمنأى عن أضواء الحقيقة.
وقد يكون هؤلاء على حق في مشاعرهم السلبية، على الرغم من لا عقلانيتها القضائية، لأن نسب جريمة بحجم اغتيال الحريري، يستحيل أن يتم حصره بشخص على مستوى سليم عيّاش، المعروف عنه أنه من أفراد المديرية العامة للدفاع المدني.
ولا تجمع عيّاش عداوة شخصية أو سياسية بالحريري، وهو لا يملك القدرات الهائلة لتجنيد فرق مراقبة واغتيال وتجهيز انتحاريين، ولا الأموال الطائلة لشراء 2500 كيلوغرام من المتفجرات والشاحنات والسيارات والهواتف.
ويحق لهؤلاء اللبنانيين والمعنيين في أن يستنبطوا الأسئلة الكثيرة من كل واقعة تعرض عليهم، فكيف يمكن أن يكون سليم عيّاش ومصطفى بدر الدين “مناصرين” لـ”حزب الله” في حكم المحكمة، فيما الحزب نفسه عندما اغتيل بدر الدين في سوريا وصفه بأنه قائد عسكري كبير فيه؟ وما معنى عبارة “مناصر”؟ وما هي ترجماتها القانونية؟ ولماذا جرى اعتمادها؟
أكثر من ذلك، فليس مطلوبا من جميع هؤلاء أن يميّزوا بين كثرة الوقائع الثابتة من جهة وغياب الأدلة الكافية من جهة أخرى، إذ إن غرفة الدرجة الأولى أعلنت، جهارا، أنه “يمكن أن تكون لسوريا كما لحزب الله دوافع لتصفية الحريري وبعض حلفائه السياسيين” لافتة إلى أمور عدة تدخل في هذا الإطار ولا سيما القرار 1559 الذي يستهدف “حزب الله” والنظام السوري، قبل أن تتابع” إلا إن ما من دليل على ضلوع قيادة حزب الله في اغتيال الحريري وما من دليل مباشر على ضلوع سوريا فيه”.
ولكن، على الرغم من إعلان غياب الأدلة، إلا أن غرفة الدرجة الأولى صدمت اللبنانيين والمعنيين، وهي ترسم السياق السياسي والتاريخي الذي اغتيل الحريري في حمأته، وهو سياق “اتهامي” لـ”حزب الله” وللنظام السوري في آن، والأهم أنها أوحت، بما لا يقبل الشك، أن رستم غزالي، المسؤول السوري الأرفع في لبنان حينها، كان، أقلّه، على دراية باغتيال الحريري، ولذلك أصرّ أن يتقاضى، يوم الأحد الذي سبق اثنين الجريمة، دفعة مزدوجة من تلك الدفعات التي كان يتقاضاها، شهريا، من الحريري.
والصدمة لم تتوقف هنا، إذ أن هذه الغرفة أعلنت، بما لا يقبل الشك، أن رفيق الحريري قبل اغتياله كان يخضع لمراقبة لصيقة من الأجهزة الأمنية اللبنانية. هذه الأجهزة الأمنية التي قال الحكم عنها إنها في التحقيق البدائي عاثت فسادا في مسرح الجريمة وعبثت بالأدلة.
أبعد من ذلك، ذهب الحكم إلى ربط اغتيال الحريري بحدثين سياسيين مناهضين للاحتلال السوري في لبنان.
الأول، إفهامه للمسؤول السوري وليد المعلم الذي زار الحريري في قصره في الأول من فبراير 2005 أن “ثلاثة أرباعي صارت بالمعارضة” وأن “سوريا لا تستطيع أن تبقى في لبنان”.
والثاني، إرسال الحريري موفدين عنه إلى “لقاء البريستول” المعارض، في اليوم التالي لاستقباله المعلم، حيث صدر أعنف بيان ضد الوجود السوري في لبنان.
مما لا شك فيه أن من يطلّع على تأكيدات المحكمة لجهة المستفيد من جريمة اغتيال الحريري، ومعرفة رستم غزالة بحصولها، وتورط الأجهزة الأمنية اللبنانية بالمراقبة كما بالعبث بمسرح الجريمة، ولا يجد إلا سليم عيّاش، المحمي بقرار معلن من “حزب الله”، يصيبه الإحباط، فليست هذه هي الحقيقة التي انتظرها طويلا، ولا هي التي من أجلها اغتيلت قيادات سياسية ودبلوماسية وأمنية وإعلامية.
ولكن، في المقابل، لم يُركّز الحكم على هذه الوقائع الناطقة، من باب الثرثرة، فهو من جهة، لمّح إلى تقصير في عمل الادعاء العام لدى المحكمة الخاصة بلبنان، وهو من جهة ثانية، أفهم اللبنانيين وجميع المعنيين أن المحكمة، وإن كانت لا تملك صلاحية إصدار أحكام على تنظيمات (“حزب الله”) وأنظمة (سوريا) إلا أنها تريدهم أن يتأكدوا من أن رفيق الحريري لم يتم اغتياله إلا بالسياسة، وأن إدانة سليم عيّاش، دون غيره، لا يعني أنه “مقطوع من شجرة”، بل هو الابن الشرعي لهذا السياق السياسي الاغتيالي.
وعليه، وفي ظل تهليل جمهوري “حزب الله” والنظام السوري للحكم، خلافا لتوصيات الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصرالله الذي كان قد أعلن، وقائيا، أنه غير معني بكل ما سوف يصدر عن المحكمة، فإن العيون المحلية والإقليمية والدولية، ستنصب على الحزب، لمعرفة ما إذا كان سيواصل توفير الحماية والمأوى لعيّاش، أم سوف يسمح بتسليمه للقضاء.
بالنسبة للجميع، فإن تجديد قرار حماية عيّاش، يعني أن “حزب الله” يوفر دليلا سياسيا ضده، بعدما استفاد من غياب الدليل الجنائي.
ولا يقف عيّاش وحيدا في “قفص التجريم” في قضية اغتيال الحريري، فقط، بل هو أيضا، يقبع وحيدا في “قفص الاتهام” في ثلاث جرائم أصدر الادعاء العام في المحكمة الخاصة بلبنان قراره الاتهامي فيها، وهي: اغتيال جورج حاوي ومحاولتا اغتيال الياس المر ومروان حماده.
على أي حال، فإن الحكم الذي صدر في ملف اغتيال الحريري ألقى الضوء على مفصل مهم من الجريمة، في حدث لم يعرف له لبنان مثيلا، إذ كانت كل جرائم الاغتيال تدوّن ضد مجهول، على الرغم من أنه “معلوم جدا”.
ولكن مشكلة لبنان لم تكن يوما في معرفة القاتل، بل كانت في تمكين القاتل من أن يحكم الجميع، مستفيدا من التخويف والترهيب والتهديد والوعيد.
وهذه المرة أيضا، لا يشذ القاتل عن قاعدته الذهبية، فعقول اللبنانيين مع العدالة، ولكن قلوب قياداتهم تخشاها.
بين 14 فبراير و14 مارس 2005 حسم اللبنانيون الصراع السياسي لمصلحة العدالة. مرة جديدة، الكرة في ملعبهم، فإن هم شاؤوا شاء… الله!