لماذا تغلق المواقع المالية محتواها مقابل قيمة نقدية… ولماذا تباع بيانات السوق من الأساس؟
النشرة الدولية –
قبل ما يقرب من شهرين كانت “بلومبرج” على موعد مع خبر غير سعيد!. ففي الثلاثين من يونيو الماضي تمكنت بورصتا ناسداك ونيويورك من إحراز انتصار قانوني هام، بعد أن تمكنتا أخيرًا من إقناع المحكمة بإصدار قرار يجبر “لجنة الأوراق المالية والبورصات” على إعادة النظر في قرارها السابق برفض قيام البورصتين برفع قيمة الرسوم التي يحصلان عليها مقابل بيع بيانات السوق.
القصة بدأت في أكتوبر 2018 حين اتخذت لجنة الأوراق المالية والبورصات قرارًا تاريخيًا رفضت خلاله قيام بورصتي ناسداك ونيويورك برفع قيمة رسوم الحصول على بيانات السوق باعتبارها خطوة غيرة مبررة، وذلك بناءً على اعتراض تقدم به إلى اللجنة في ذلك الوقت عدد من مزودي البيانات المالية في مقدمتهم شركة “بلومبرج إل بي” المالكة لـ”بلومبرج نيوز”.
القضية الآن أخذت منحى آخر، ويبدو أن “بلومبرج” وغيرها من مزودي البيانات المالية في طريقهم لدفع رسوم أعلى للبورصتين من أجل الحصول على بيانات السوق التي يتم عرضها عبر منصاتهم الخاصة بعد معالجتها، وهو ما قد يدفعهم إلى تمرير الزيادة المرتقبة أو جزء منها على الأقل إلى المستثمرين باعتبارهم المستهلك النهائي لهذه البيانات.
المثير للاهتمام في هذه القضية، هو أن عددا لا بأس به من مستثمري سوق الأسهم الأمريكي فوجئوا ربما بحقيقة أن البورصات الأمريكية تبيع كل حرف في المعلومات المالية المنتجة عبر منصتها إلى الأطراف المتهمة بهذا النوع من المعلومات بتراخيص يتم تجديدها بشكل دوري مقابل مبالغ معتبرة.
وفي الواقع، إن هذا لا يحدث في السوق الأمريكي فقط، ففي كل أنحاء العالم تقريبًا تبيع البورصات معلومات السوق إلى مزودي البيانات مقابل رسوم معينة، والأكثر من ذلك هو أن لكل نوع من المعلومات ترخيصا منفصلا، بمعنى أن مزود البيانات المالية قد يحتاج إلى 5 تراخيص على سبيل المثال من جهة واحدة لكي يحصل على بياناتها المختلفة التي عادة ما تكون في صورتها الخام.
وبمناسبة قضية “بلومبرج” وخلافها القائم مع بورصتي “ناسداك” و”نيويورك” قد يكون من المفيد أن ننظر معًا بشكل سريع إلى كواليس قصة البيانات المالية بداية من لحظة إنتاجها ومرورًا بمعالجتها وانتهاءً بوصولها إلى المستثمر، لنتعرف معًا على طبيعة الدور الذي تلعبه الأطراف الثلاثة المتمثلة في البورصة والمواقع المالية المزودة للبيانات وأخيرًا المستثمر.
أحد أهم الأدوار التي تضطلع بها البورصة هو تسهيل عملية تداول أسهم الشركات المدرجة في السوق من خلال وضع القواعد التنظيمية وتشييد البنية التحتية التكنولوجية لنظام التداول الإلكتروني حتى يصبح باستطاعة جمهور المتداولين وضع أوامر البيع والشراء ومن ثم التنفيذ بعد أن تتطابق الأوامر على الجانبين.
قيامها بهذه العملية تظهر “بيانات السوق” كمنتج ثانوي لأنشطة المتداولين، هذه البيانات تشمل معلومات مثل أفضل سعر وعمق السوق والأسعار الآنية وعدد عمليات التداول وحجمها وهوية المتداولين. هذه كلها بيانات خام لا تبذل البورصة مجهودا كبيرا في إنتاجها وبالتالي من المنطقي أن تكون أسعارها منخفضة نسبيًا، ولكن هذا لا يحدث!
في أكثر الأحيان تتقاضى البورصة مقابل بياناتها الخام رسومًا تعادل أضعاف تكلفة إنتاجها لهذه البيانات. ولكن كيف تتمكن من فعل هذا دون القلق بشأن تأثير ذلك على حجم الطلب على بياناتها؟ ببساطة تستند الشركات المديرة للبورصات في جميع أنحاء العالم لحقيقة أنها محتكرة لهذه البيانات، لأن الأخيرة كما وضحنا هي منتج ثانوي لعمليات التداول التي لا تتم إلا عبر النظام الإلكتروني الخاص بالبورصة.
كل معلومة مهما كانت بسيطة وبدائية لها سعر، والسعر يتغير حسب هوية الجهة الراغبة في الحصول عليها وطبيعة الطريقة التي تنوي استخدامها بها، وليس هذا فحسب، بل يتغير السعر حتى على حسب توقيت الحصول على البيانات سواء كان آنياً أو متأخراً.
وهكذا أصبحت الرسوم التي تحصل عليها البورصات مقابل تراخيص استخدام بيانات السوق أحد أهم مصادر دخلها. على سبيل المثال، بلغت إيرادات خدمة معلومات السوق التي تقدمها شركة السوق المالية السعودية “تداول” نحو 61.3 مليون ريال في العام المالي المنتهي في 31 ديسمبر الماضي مشكلة بذلك 10.9% من الإيرادات التشغيلية للشركة.
وفي الولايات المتحدة، تمكنت بورصة “ناسداك” من جمع 96 مليون دولار مقابل حقوق استخدام بياناتها المالية في الربع الأخير من عام 2019، وهو ما مثل نحو 15% من الإيرادات الإجمالية للبورصة خلال تلك الفترة.
الإيرادات السابقة هي في الحقيقة نتاج إقبال أطراف كثيرة على شراء تلك البيانات من البورصات، وربما أبرز هذه الأطراف هم مزودو البيانات المالية. المنطق وراء إقدام مزودي البيانات على دفع مبالغ كبيرة مقابل حقوق استخدام المعلومات الخام التي توفرها البورصة هو أنهم قادرون على بيعها للمستثمرين المؤسساتيين والأفراد بعد معالجتها وعرضها في أنساق مفيدة تساعد على اتخاذ قرارات استثمارية أكثر استنارة.
هناك سببان رئيسيان يدفعان المستثمرين للاعتماد على البيانات التي يوفرها مزودو البيانات المالية، أولها هو أن المعلومات التي يوفرها مزود البيانات تكون مرتبة في أنساق معينة تسهل على المستثمر الوصول إليها وفهمها، وفي نفس الوقت متنوعة، بمعنى أن مزود البيانات عادة ما يسعى للحصول على تراخيص لعرض المعلومات الخاصة بمختلف الأسواق بما في ذلك الأسهم والسلع والعملات، ليضعها جميعًا أمام المستثمر الذي لن يجد نفسه مضطرًا للتعامل مع أكثر من جهة للحصول على البيانات.
أما السبب الثاني فهو عملية المعالجة التي يقوم بها المزود للبيانات الخام بعد أن يشتري تراخيصها لتصبح أكثر قيمة وأكثر إفادة للمستثمر. أغلب المعلومات التي توفرها البورصة عادة ما تكون في صورة بدائية تحول دون استفادة المستثمر أو المحلل منها أثناء محاولة اتخاذ القرار الاستثماري.
مستغلًا لهذه الفجوة يقوم مزود البيانات بتسخير موارده المالية والبشرية في معالجة البيانات وعرضها بأكثر من صورة لتصبح أكثر قابلية للفهم قبل أن يضعها بين يدي المستثمر ليتخذ على أساسها قراراه الذي قد يجني بفضله المال. ولهذا يفضل كثير من المستثمرين وبالأخص المحترفين منهم شراء البيانات في صورتها الجاهزة من مزود البيانات بدلًا من معالجتها بأنفسهم، لأن هذا قد يكون أكثر فعالية بالنسبة لهم من ناحية الوقت والمال.
وعلى هذا الأساس، يقرر مزود البيانات المالية إتاحة المعلومات الناتجة عن عملية المعالجة للبيانات الخام بمقابل مادي يغطي تكاليفه، ويحقق له في الوقت ذاته العائد المرغوب والذي عادة ما يكون معقولًا لأنه يدرك جيدًا أنه ليس اللاعب الوحيد في صناعة البيانات المالية التي تتسم بالتنافسية.
الوضع باختصار، يلخصه الرسم التالي، والذي يوضح كيفية تدفق المعلومة في السوق والمراحل التي تمر بها. الكل ببساطة مستفيد، سواء كانت البورصة أو مزود البيانات أو المستثمر، وقطعًا لن يخرج أي طرف من هؤلاء أمواله من جيبه إلا إذا كان متأكدًا بأن الفائدة التي ستعود عليه قيمتها أكبر بكثير من قيمة ما سيدفعه.
الاستثمار بالأسهم مثله مثل أي عملية أخرى يقوم بها الإنسان، له مدخلات ومخرجات، ومن أهم مدخلات عملية الاستثمار المعلومة الجيدة، وهذه دائمًا لها ثمن. وفي النهاية، يبقى بالتأكيد لكل طرف الحق في التذمر بشأن الثمن، ولكن هذا هو السوق وهذه هي الميكانيزم التي تحكمه، ليس فقط في مكان محدد بل في جميع أنحاء العالم.