المجال الحيوي العربي* عبد الرحمن شلقم

النشرة الدولية –

للسياسة فصولها، وإن لم تكن أربعة فقد تزيد وقد تنقص. مَن عدو مَن، ومَن هو الصديق، وذاك الذي يتموضع بينهما؟ الرئيس الأميركي السابق وضع معايير لتحديد الأصدقاء وفي المقابل الأعداء، وكلهم يراهم بمجهره الكبير واسمه أميركا أولاً. قبله قال الرئيس الأميركي جورج بوش الابن بعد أحداث سبتمبر (أيلول) 2001، من ليس معنا فهو ضدنا. الرئيس جو بايدن لم يرفع شعاراً جامعاً لسياسته كما فعل ترمب وقبله بوش الابن، لكن نهجه السياسي في الداخل والخارج يقول، إنه رجل سياسة الاحتواء containment، أي إدخال الجزرة في العصا أو العكس في التعامل مع الأطراف المضادة لسياسات الولايات المتحدة الأميركية. لقد خاض هذه السياسة مع رئيسه باراك أوباما وطبّقها مع إيران التي قيد نشاطها النووي مقابل الإفراج عن أرصدتها الضخمة في الولايات المتحدة، وكذلك خفض درجة التوتر معها.

لكن، هل يمكن إعادة هذه السياسة اليوم مع إيران التي انتهجت استراتيجية أخرى صبّتها في تكتيكات حافة الهاوية أو حتى الهاوية نفسها، وصنعت لنفسها مجالاً حيوياً تتحرك نحوه بقوة المال والسلاح والدين؟ جو بايدن عاش في عرين السياسة الأميركية مشرّعاً ومنفذاً، وحشد الآن في البيت الأبيض طيفاً واسعاً من المساعدين الذين راكموا خبرة طويلة في عالم السياسة الداخلية والخارجية. شرع في تأسيس فصول زمنه السياسي ذي السنوات الأربع في البيت الأبيض. حسم موقفه من الصين الخصم السياسي والاقتصادي والعسكري الصاعد، وأعاد تشخيص العلاقة مع روسيا بما فيها من مناطق ناعمة وصلبة. بخبرته السياسية الطويلة وقدرة مساعديه شرع في ترميم العلاقة مع الحليف الأساسي وهو الاتحاد الأوروبي، التي طالها الاهتزاز في عهد الرئيس دونالد ترمب. وزير خارجيته بلينكن يخوض معركة صوتية تحت شعار حقوق الإنسان، وهي في حد ذاتها تساقط غبارها على الداخل الأميركي نفسه بما فيه من تكوينات عرقية واختلالات اقتصادية، وتباين اجتماعي له تداعيات متحركة في النسيج الاجتماعي الأميركي.

العلاقة مع أميركا اللاتينية يقاربها الرئيس بايدن بحذر شديد؛ فهو أبدى مرونة كبيرة بالنسبة لمشكلة المهاجرين اللاتين، وإن بقيت قضية جدار ترمب مع المكسيك معلقة. تعريف الحليف والعدو لم يحدد بعد، وخاصة في منطقة الشرق الأوسط. تركيا العضو المهم في حلف شمال الأطلسي لم تحسم قرارها في العلاقة التسليحية مع روسيا، الذي ترى فيه الولايات المتحدة خللاً ليس في العلاقة الثنائية بين البلدين فحسب، بل يمتد إلى صلب كيان الحلف، وكذلك مشكلة المعارض التركي غولن المقيم بأميركا والخلاف التركي اليوناني وعلاقة تركيا مع إيران. سياسة الاحتواء لا يمكن أن تكون مفتاحاً لكل الأبواب ومع كل القوى الإقليمية والدولية؛ فلكل حالة خصوصيتها.

إيران اليوم غيرها تلك التي تفاوض معها البيت الأبيض في عهد باراك أوباما مع الخمسة الآخرين تحت مظلة سياسة الاحتواء؛ إذ صار لها مجالها الحيوي في المنطقة الذي تتحرك فيها عقائدياً وعسكرياً واقتصادياً وليس من السهل «احتواء» كل هذه المستجدات التي لها أسنان وجلد تمساح معاند. في عهد الرئيس باراك أوباما ونائبه جو بايدن كان التناغم السياسي بين تركيا وأميركا له سعة حددتها قواعد التحالف الأطلسي والعلاقات المتحركة مع روسيا. اليوم، تعيش منطقة الشرق الأوسط الكبير حقائق جديدة على الأرض. إيران تفكر وتتحرك وفقاً لعقلية وسياسة المجال الحيوي الذي تمد فيه وجودها العسكري والعقائدي بلا حدود، وتخوض معارك نارية على أكثر من أرض من أجل فرض حقائق جيوبوليتيكية مبنية على أسس عقائدية شيعية. وتركيا أيضاً هي اليوم غيرها التي احتواها بايدن ورئيسه أوباما، فهي أيضاً تتحرك في المنطقة وفق خريطة المجال الحيوي الذي يتداخل فيه العامل السياسي الديني السني والاقتصادي. سياسات المجالات الحيوية للدول لا يذكرها التاريخ إلا بما هو مقدمات لمواجهات عسكرية واسعة عابرة للحدود، مضافاً إليها صراع الاستراتيجيات بين الدول الكبيرة التي لها حساباتها الخاصة أمنياً واقتصادياً وسياسياً. روسيا الدولة التي يحتم عليها وضعها الجيوبوليتيكي أن يكون لها حضور في بعض مناطق الحساسيات العسكرية والسياسية، تبني حساباتها على ما قد يؤدي إلى اشتباكات مع القوى الكبيرة الأخرى، بما فيها الولايات المتحدة والصين وأوروبا. أميركا اللاتينية لا نرى فيها مناطق ساخنة، كما هو الحال في منطقة الشرق الأوسط الملتهبة وكذلك أفريقيا، رغم بقع الإرهاب التي تتسع وتضيق. الشرق الأوسط، وتحديداً العربي، هل هو قادر على تأسيس مجال حيوي له يحفظ الحد الأدنى من مصالحه وأمنه وسيادته، ويواجه التدخلات الخارجية المتعددة؟ اليوم، هناك وجود إسلامي شيعي تحركه إيران وتتحرك به، ووجود إسلامي سني تحركه تركيا وتتحرك به، الغائب هو الوجود الإسلامي السني العربي القادر على خلق معادلة توازن يحقق السلام والتعاون برؤية جديدة في المنطقة تتجاوز الاصطفافات العقائدية العنيفة. ما تشهده الكثير من البلدان العربية من احتراب تؤججه سياسات المجال الحيوي، الخاسر الأكبر فيه هو العرب السنة؛ لأنهم مستهدفون بتلك السياسة. أنا أقف عند واقع لا أتفق معه ولا أقبله، لكن من باب كن واقعياً واطلب المستحيل، أقول إن على الدول العربية التي تمتلك قوة المؤهل الديني والسياسي والاقتصادي أن تجترح رؤية سياسية من وسط خضم التطورات التي تعيشها المنطقة. ما يقال عن المؤامرة هو سلاح العاجزين غير الفاعلين، ولكن ما نعيشه مع حلقات سد النهضة الإثيوبي الذي يستهدف الحياة المصرية، يستحق أن نقف عنده طويلاً. الرئيس الأميركي جو بايدن يخوض معاركه في جبهات مفتوحة وأخرى تنتظر، وأوروبا تفكر بأكثر من لغة، والصين قوة عالمية من طراز جديد، وروسيا وإن تغيرت من القيصرية إلى الشيوعية إلى الجمهورية، تبقى القوة التي لا تغيب عن منصة السياسة الدولية.

العرب المتفرقون، هل يستطيعون إقامة مجالهم الحيوي على أرضهم دون تدخل في كيانات غيرهم ولكنه للوقوف في وجه تمدد مجالات قادمة من خارج بلادهم؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى