أبعاد انتقال باريس الى التعاطي عقابياً مع سلطويّي لبنان وفاسديه* فارس خشّان
النشرة الدولية –
اختار وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان مالطا لإعلان قرار بلاده ” بدء تنفيذ تدابير تقييدية تحول دون دخول الشخصيات المتورطة بالإنسداد السياسي الحالي أو المنغمسة في الفساد، الى فرنسا”.
واختيار مالطا للكشف عن تدابير بحق سياسيّي لبنان وفاسديه، ليس عشوائيا على الإطلاق، لأن هذه الدولة حمالة رسائل، سواء في اتجاه لبنان أو في اتجاه الدول الأوروبية “المشاكسة” على غرار المجر، ذلك أن مالطا هي في آن: جزيرة تتوسط حوض البحر الأبيض المتوسط، ومستوطنة تاريخية للفينيقيين، ومركزا مسيحيا في أوروبا، ودولة مهمة في اتحاد دول جنوب حوض البحر المتوسط، وأنجح الدول الأصغر في العالم.
ولا تكتمل أبعاد اختيار لودريان مالطا كمنصة لإعلان بدء تنفيذ “العقوبات الفرنسية” على من دمروا لبنان وأفشلوا دولته، إلا بالالتفات الى التوقيت، إذ إنه أتى بالتزامن مع استقبال روسيا لرئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل الذي يتصدر قائمة معرقلي تشكيل حكومة “شاملة وفعالة”، وغداة الدعم الذي تلقاه باسيل في مواجهة فرنسا، باسم “مسيحية” تياره “غير المباركة” من المرحعيات الروحية، من وزير الخارجية المجري بيتر سيارتو المنتمي الى حزب يوصف في أوروبا بأنه “يميني شعبوي”، في تلطيف لصفة “يميني متطرف”، وبعيد انتهاء زيارة نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف لباريس، حيث حث على إبعاد العقوبات عن التعامل مع السياسيين اللبنانيين.
وإذا ما جرى دمج اختيار مكان الإعلان عن بدء تنفيذ العقوبات الفرنسية والتوقيت، فإن لودريان الذي تميز بتوصيفاته القاسية للمسؤولين اللبنانيين الذين نسب إليهم، في مناسبات عدة، إرتكاب جرائم بحق وطنهم وشعبهم، يكون قد أنهى مرحلة “دبلوماسية الإغواء” بالتعاطي مع المسؤولين اللبنانيين وانتقل الى أولى مراحل “دبلوماسية المواجهة”.
وليس سرا أن لودريان، ومنذ اعتذر السفير مصطفى أديب عن تشكيل الحكومة، وفق مندرجات “المبادرة الفرنسية”، بعدما شاركت أطراف عدة في إفشال مساعيه، نصح رئيسه إيمانويل ماكرون بالإنتقال من سياسة “الإسترضاء” الى سياسة ” الضغط”، إلا أن “الخلية الدبلوماسية” في قصر الإليزيه رأت غير ذلك، بعدما تلقت وعودا من جميع الأطراف السياسية المعنية بتشكيل الحكومة بتقديم ما يلزم من تسهيلات.
وقد لوحظ أن لودريان، في فترة “تمديد الإسترضاء” إبتعد عن التعاطي، أقله علنا، في الملف اللبناني، مقدما، في كل فترة، ما يكفي من إشارات إلى أن المبادرة الفرنسية سوف تلحق بماكرون خسائر محلية ودولية، إذا ما رهنت نفسها لمسؤولين لبنانيين لا يتحلون بالحد الأدنى من المواصفات الوطنية.
ولم يعد لودريان الى الأضواء في الملف اللبناني، إلا عندما أتاح له ماكرون، في ضوء اكتشافه عن كثب عدم مسؤولية المسؤولين اللبنانيين، اللجوء الى النهج المتشدد الذي يعتبره الأنجع.
ولودريان من تلك الفئة التي لا تؤمن بالتعاطي الدبلوماسي المرن مع من يثبت أنهم “تخريبيون”، إذ إنه انتقل الى وزارة الخارجية، في عهد ماكرون، مزودا بخبرة طويلة في وزارة الدفاع، في عهد الرئيس السابق فرانسوا هولند.
وليس غريبا، في ضوء ذلك، أن يطل لودريان، كلما تحدث عن لبنان، بأدبيات “الجنرال” وليس ببلاغة “الأمباسادور”.
المستهدفون
على أي حال، من هي الجهات اللبنانية التي قصفها “الجنرال” لودريان من مالطا؟
يريد الجميع معرفة لائحة المتخذة بحقهم تدابير منع الدخول الى فرنسا، ولكن، حتى تاريخه، لا يوجد ما يكفي من معطيات موضوعية ومؤكدة تسمح بإشباع هذه “الحشرية”. كل الأسماء التي يتم التداول بها، لا يمكن توصيفها صحافيا إلا من قبيل الشائعات. وهذا بديهي، إذ إن لودريان أعلن عن طبيعة التدابير، ولكنه أبقى المستهدفين بها، في خانة الضبابية، وهذا عمل قد يكون مقصودا وجزءا من تكتيك يتبعه الجنرالات، بحيث يعلنون الحرب ويؤكدون أن لديهم قائمة أهداف، ولكن لا يفصحون عنها، مفسحين، بذلك، المجال أمام الطرف الآخر، للتراجع، بعد ثبوت أن ما كان يحسبه تهويلا هو واقع ثابت.
ولكن “تغييب الأسماء” لا يعني أنه لا توجد إشارات واضحة الى الجهات المستهدفة، سواء لعرقلتها تشكيل الحكومة أو لتورطها بالفساد، إذ سبقت إعلان لودريان تأكيدات فرنسية أن هناك ثلاث جهات متورطة، بالتدرج، في منع تشكيل حكومة في لبنان، وهي: فريق رئيس الجمهورية ممثلا بصهره جبران باسيل، رئيس “التيار الوطني الحر”، و”حزب الله”، والرئيس المكلف تشكيل الحكومة سعد الحريري.
وفي ملف الفساد، فإن القائمة الفرنسية طويلة، هي لا تبدأ بالمسؤولين عن الملف المالي-المصرفي بل تنتهي بهم، إذ إن الفاسدين “ينغلون نغلا ” في كل دائرة سلطوية مؤثرة في البلاد.
والسؤال الذي يطرحه الجميع وينتظرون جوابا عنه: هل التدابير التي قررت فرنسا اتخاذها سوف تشمل المستوى الأول أم المستوى الثاني؟ وتالياً، هل إنه، في بلد تأكد فيه أن المستوى الثاني لا يتخذ قرارات بل يسهر على تنفيذها، ستكون “الصلية الأولى” من التدابير العقابية، رسالة عبر “المساعدين” الى “المقررين”؟
تأثيرات “العقوبات” الفرنسية
وثمة، سؤال آخر يطرحه كثيرون، وبعضهم من باب التشكيك بالجدوى: هل تدبير منع دخول فرنسا مؤثر فعلاً؟
في ظاهر الحال، لا. ولكن إذا جرى شرح هذا التدبير تظهر تداعياته الخطرة.
إن باريس، في الموضوع اللبناني، ليست عاصمة هامشية، بل هي مع واشنطن والرياض، من أكثر العواصم أهمية.
وتتلاقى باريس في انتقالها الى “دبلوماسية الضغط” مع كل من واشنطن والرياض.
حتى الأمس القريب، كانت فرنسا تتخذ منحى “مرنا” يثير استغراب الولايات المتحدة الأميركية والمملكة العربية السعودية، على اعتبار أنه “يقوي” المعطلين” و”الفاسدين” و”التدميريين”.
وأثبتت العقوبات الأميركية، في الملف الذي تعنى به واشنطن، وهو ملف ترسيم المنطقة الاقتصادية البحرية بين لبنان وإسرائيل، أن العقوبات التي أنزلتها بحق جبران باسيل والمعاونين السياسيين لكل من رئيس مجلس النواب نبيه بري والنائب سليمان فرنجية، أعطت نتائجها، إذ إن هؤلاء، كل بدوره ومن موقعه، أزال العقبات، تباعا، من أمام المفاوضات الجارية على هذا المستوى.
أكثر من ذلك، إن منع الدخول إلى فرنسا لا يبقى مقتصرا على السفر اليها والإقامة فيها، بل يتعداها، تلقائيا، إلى الحسابات المفتوحة في مصارفها، بحيث تدرج المصارف هؤلاء المعاقبين في “اللائحة السوداء”، مما يدفعها إلى إقفال حساباتهم التي ترعى تمويل إدارة ممتلكاتهم في البلاد، والتي ستواجه إشكاليات معقدة تحول دون تمكينهم من فتح حسابات جديدة في دول أخرى، أو نقل أموالهم الى حسابات لهم فيها.
وقبل هذا التدبير الفرنسي، فإن المصارف الفرنسية كما الأوروبية تتعاطى بحذر شديد يصل في كثير من الأحيان الى حد الرفض، مع كل التحويلات المالية التي يُجريها سياسيون وإداريون لبنانيون، إذ إن هؤلاء يخضعون لآليات مكافحة الفساد وتبييض الأموال، على اعتبار أنهم من فئة “الشخصيات المكشوفة سياسياً”
إن اعتماد باريس لغة العقوبات، سيفتح هذا الملف على مصراعيه في الإتحاد الأوروبي، الأمر الذي سيؤدي، بالمحصلة، مهما شاكست هذه الدولة أو تلك، الى تبنيها بعد توسيع نطاقها. وهذا ما تشهد عليه ملفات كثيرة سابقة وأكثر تعقيدا من الملف اللبناني.
وبما أن باريس لا تعمل وحيدة في لبنان، بل هي، بالإتفاق، تقود ما يسمى” المجموعة الدولية لدعم لبنان”، فإنها ستفتح الباب أمام دول أخرى مهمة للسير بهديها، بغض النظر عن الإتحادات الإقليمية، وهذه هي حال بريطانيا، مثلا، التي جهزت بنية تشريعية شبيهة بقانون ماغنيتسكي الأميركي، لمعاقبة الفاسدين في العالم.
إن فرنسا، بعد انفجار مرفأ بيروت، مدت طوق النجاة لطبقة سياسية لبنانية، على قاعدة أن تستعمل هذه الطبقة ما تملكه من مقدرات، لتمد، بدورها، وطنا ينهار بطوق النجاة، ولكن كانت مفاجأتها، وليست مفاجأة اللبنانيين، أن هؤلاء استغلوا مبادرتها لتعويم أنفسهم لمواصلة صراعاتهم الأنانية التدميرية.
بإعلان لودريان “بدء تنفيذ العقوبات” على المتورطين بـ”تجحيم” بلاد الأرز، صححت باريس مسارها، جزئيا.