بعد سنة على “الانهيار” في لبنان.. الأرقام تنذر بالأسوأ

النشرة الدولية –

الحرة –  حسن طليس –

تشير التقديرات البحثية والتحليلات الاقتصادية – الاجتماعية إلى أن وضع لبنان يتجه إلى مزيد من التأزم في المرحلة المقبلة على البلاد في النصف المتبقي من العام 2021 وما بعده. “انهيارات” ستتعمق بحسب ما تظهر الأرقام، وستشتد على قطاعات محددة كالصحة والتربية لتمثل تهديدا للأمن الاجتماعي للمواطنين، في حين يتوقع ارتفاع أكبر في معدلات البطالة والفقر، المرتفعة أصلا، والتي ستؤدي حكما لارتفاع معدلات العنف والجريمة والتوتر الأمني. وفي بلد يشهد انقساماً سياسياً وطائفياً حاداً، تظهر النزعة الانفصالية كأول وجهة يسلكها المجتمع اللبناني مهدداً كامل وجوده.

 

هذا السيناريو جاء نتيجة لبحث أجراه مرصد الأزمة في الجامعة الأميركية في بيروت، هو مبادرة بحثية تهدف إلى دراسة الأزمات في لبنان ورصد تداعياتها واقتراح طرق لمقاربتها، بني على نقاش حول تحديات العام 2021 نظّمه “مرصد الأزمة” في أواخر العام 2020 بمشاركة الأساتذة: طارق متري، أنطوان حداد، زياد عبد الصمد، حسين إسماعيل، مصطفى سعيد، ناصر ياسين، خليل جبارة، ليندا مطر وندى عباس، معتمداً على الأرقام والمؤشرات العلمية لمحاولة تأطير الأزمة الأسوأ في تاريخ لبنان وتوقع المسار الذي تتخذه.

 

يلخص المرصد في مقدمة الورقة البحثية الصادرة عنه، تاريخ الأزمة في البلاد باعتباره أن “هذه الأزمة لم تكن وليدة صدفة، بل نتاج سياسات اتُبعت على مدار عقود، وراكمت حجماً هائلاً من الخسائر المالية على شكل ودائع مصرفية، وخسائر اقتصادية تمثّلت بضحالة القاعدة الإنتاجية وعدم وجود تراكم رأسمالي حقيقي، والأهمّ خسائر بشرية يُعبّر عنها بهجرة بنحو 850 ألف شابٍ وشابّة منذ نهاية الحرب. وترافق ذلك مع اهتراء الدولة وتفكّكها بما حال دون قيامها بوظائفها المُفترضة في تأمين رفاهية المجتمع واستقراره خدمة لمصالح راسخة تعزّزت منافعها وساهمت بنقل الثروة من الأكثرية إلى قلّة”.

 

يشرح أستاذ السياسات والتخطيط في الجامعة الأميركية في بيروت والمشرف على مرصد الأزمة، ناصر ياسين، أن هذا البحث بدأ أواخر العام 2020 لاستشراف ما يمكن أن تحمله الـ2021 بناء على المسار الذي تطورت به الأزمة العام الماضي، وعلى أرقام ونتائج تقارير محلية ودولية للقول أن الأزمة سترخي بتداعياتها على كل شيء وكل قطاع في البلاد.

 

ويرى البحث أن الاستنزاف الجاري حاليا لما تبقى من موارد مالية مُتاحة يسرّع من تداعيات  يمكن استخدامها في عملية النهوض، فضلاً عن ترجيح تفاقمها بعد رفع الدعم عن السلع الأساسية، وبالتالي ارتفاع الأسعار بشكل جنوني، وانقطاع الكثير من السلع، وتوقّف العديد من الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والنقل، إضافة الى ارتفاعات غير مسبوقة في معدلات الهجرة.

 

وبناء على ما سبق يحدد المرصد خمسة تداعيات كبيرة متوقعة على لبنان ستمثل تحديات شائكة وستعمق من الانهيارات التي تشهدها البلاد على كافة أصعدتها:

١- ارتفاع كبير في معدلي البطالة والفقر

 

يتوقع البحث أن يؤدّي التدهور الاقتصادي مصحوباً بالتضخّم إلى إغلاق المزيد من المؤسّسات وتوقّف العديد من القطاعات، وهو ما يعني فقدان العديد من فرص العمل، القليلة بالأساس، وارتفاع معدّل البطالة وتدني القوّة الشرائية وارتفاع معدّل الفقر.

 

وذلك بناء على توقعات البنك الدولي للبنان بأن يرتفع معدّل الفقر فيه ليطال أكثر من نصف السكّان خلال العام 2021، وهو ما يتوافق مع توقّعات منظمة الإسكوا التي أشارت إلى ارتفاع معدّل الفقر من 28% إلى 55% بين العامين 2019 و2020، وبلوغ العدد الإجمالي للفقراء بحسب خطّ الفقر الأعلى نحو 2.7 مليون نسمة.

 

إلى ذلك، تشير استطلاعات Inforpo إلى تخطّي معدّل البطالة نسبة 30% في العام 2020، بعد أن أغلقت 18% من الشركات خلال النصف الأول من العام 2020، وفقدان نحو 350 ألف شخص يعملون في القطاع الخاص وظائفهم بسبب الركود الاقتصادي والاحتجاجات ووباء كورونا.

 

فيما أشارت إحصاءات أعدّتها “الدولية للمعلومات” إلى لجوء المؤسّسات التي استمرّت بعملها إلى تخفيض رواتب موظّفيها بنسبة تراوح بين 20 و80%، وهؤلاء يقدّر عددهم بـ 212 ألف شخص، ومن المرجّح أن يفقد كثير منهم عملهم خلال هذا العام.

٢- الهجرة وأزمة القطاع الصحي

 

ويتطرق البحث إلى قضية الهجرة بكونها سمة بارزة في الاقتصاد اللبناني إذ ساهمت باستنزاف القوى العاملة على مرّ عقود، وهو ما يتوقّع استمراره نتيجة الأزمة الراهنة.

 

إلّا أن المرصد يلفت لتأثر بعض القطاعات أكثر من غيرها بمخاطر تفريغها من قواها العاملة، ولا سيّما القطاع الطبّي، بما يُهدّد بفشل احتواء جائحة كورونا، وتراجع الخدمات الطبية، وخسارة لبنان دوره الرائد كـ”مستشفى الشرق الأوسط”.

 

ويحذر البحث من أن “الموت أمام أبواب المستشفيات قد يتحول إلى سمة يومية بسبب هجرة العاملين الصحّيين ذوي الخبرة وبالتالي تدني نوعيّة الخدمات المقدّمة، فضلاً عن تراجع القدرة على استيراد المعدّات الطبّية والأدوية لتأمين العلاجات بسبب شحّ العملات الأجنبية، بالإضافة إلى ارتفاع البطالة وانخفاض قيمة الأجور بما يصعّب إمكانية دفع تكاليف الرعاية الصحّية في ظلّ غياب الطبابة المجّانية”.

 

وكانت نقابة الأطباء اللبنانية قد صرحت عن هجرة نحو 400 طبيب في العام 2020 وارتفاع العدد إلى 600 طبيب بحلول شباط 2021، فيما أشارت نقابة الممرّضات والممرّضين إلى هجرة جماعية يشهدها القطاع التمريضي حيث أصبح هنالك ممرّض/ة لكلّ 20 مريض. يأتي ذلك نتيجة التراجع الهائل في قيمة الرواتب التي خسرت 80% من قيمتها عدا عن التأخّر في دفعها، بالإضافة الى تراجع قدرة المستشفيات على التوظيف وصرف أكثر من 40% من الطواقم التمريضية وخفض رواتب من بقي منهم، فضلاً عن عدم حصولها على ديونها المستحقّة من الحكومة اللبنانية ومؤسّساتها وتزيد عن 2500 مليار ليرة لبنانية.

٣- تدهور مستوى التعليم

 

ينتقل البحث في رصده للتداعيات إلى الشق التعليمي، مذكراً بأن التعليم الجيد في لبنان انحصر على مدى عقود بالمدارس والجامعات الخاصّة، في مقابل إهمال التعليم الرسمي وإفراغه من أي أهداف اقتصادية أو سياسية، لتأتي الأزمة الراهنة وتهدم هذا النظام أيضاً، نتيجة تراجع قدرة العائلات على تعليم أبنائها في المدارس والجامعات الخاصّة، ونضوب الموارد المالية المُتاحة للاستدانة ودعم الطلب على هذا التعليم، فضلاً عن تفريغ هذه المؤسّسات الخاصّة من كوادرها وتراجع مستوياتها نتيجة تراجع الأجور وتدحرج الانهيار.

 

ويستعرض البحث زوايا عدة لتأثير الأزمة الاقتصادية على القطاع التعليمي، من ناحية يواجه الأطفال الأكثر هشاشة، بمن فيهم أطفال الأسر الفقيرة واللاجئين، خطر التسرّب من المدرسة وارتفاع عمالة الأطفال وفقاً لمنظّمة “أنقذوا الأطفال”، التي قدرّت خروج أكثر من 1.2 مليون طفل من المدارس في عام واحد.

 

ومن ناحية أخرى يشهد التعليم نزوحاً من المدارس الخاصّة إلى الرسمية، فوفقاً لدراسة صادرة عن المركز التربوي للبحوث والإنماء، ارتفع المعدّل السنوي للمُسجّلين الجدد في التعليم الرسمي بنحو 8051 تلميذاً بين العامين الدراسيين 2016-2017 و2019-2020، في مقابل تراجع المعدّل السنوي للمسجّلين في التعليم الخاص بنحو 2228 تلميذاً خلال الفترة نفسها.

 

أيضاً لم يكن التعليم الجامعي بمنأى عن التدهور، إذ عجز العديد من الطلاب عن التسجيل في الجامعات الخاصّة لعدم تمكّنهم من دفع أقساطهم، بعد أن عمدت هذه الأخيرة إلى إصدار قرارات بوجوب دفع الأقساط بالدولار الأميركي أو بالليرة اللبنانية على سعر صرف أعلى من السعر الرسمي، وترافق ذلك مع عدم إمكانية الجامعة اللبنانية على تحمّل نزوح الطلاب من الجامعات الخاصّة إليها، والأمر نفسه ينطبق على التعليم في الخارج بسبب إفلاس المصارف ومنع التحويلات المالية من لبنان.

٤- زيادة العنف ومعدّلات الجريمة

 

يحذر المرصد من تزايد نشاط المافيات والعصابات والجريمة المنظمة كنتيجة لتنامي معدلات الفقر والبطالة، لكون “السيناريوهات تكاد تكون واحدة في معظم المجتمعات التي تشهد أزمات اقتصادية، وهو ما يرجّح حصوله في لبنان أيضاً”.

 

وتشتدّ الأوضاع الأمنية في لبنان سوءاً مع تفاقم الأزمة، فوفقاً للإحصائيات الصادرة عن المديرية العامّة لقوى الأمن الداخلي، ارتفعت نسبة السرقات بنحو 57% بين العامين 2019 و2020، وبنسبة 162% في الربع الأول من العام 2021 بالمقارنة مع الفترة نفسها من العام الماضي. أمّا جرائم القتل فقد ارتفعت بنسبة 91% بين العامين 2019 و2020، ونحو 2.4% في الربع الأول من العام 2021 بالمقارنة مع الفترة نفسها من العام 2020.

 

إلى ذلك، سُجِّل ارتفاع في حالات العنف ضدّ النساء والفتيات. وأشار مسح أجرته مجموعة العمل المُشترك بين الوكالات المعنية بالعنف الجنسي والقائم على النوع الاجتماعي التابعة للأمم المتّحدة الى أن 54% من النساء والفتيات اللواتي شاركن في المسح لاحظن زيادة في العنف ضدّ نساء وفتيات أخريات ضمن أسرهن أو مجتمعاتهن المحلّية، فيما شهد الربع الأول من العام 2020، أي قبل إعلان التعبئة العامّة للحدّ من تفشّي جائحة كوفيد-19، ارتفاعاً مُقلقاً في حالات العنف الأسري التي وصلت الى 69% وفق نظام الرصد الدولي للعنف القائم على النوع الاجتماعي.

٥- تنامي النزعة الانفصالية والتقوقع

 

وكنتيجة لتعمّق الأزمة وتأثيرها على النسيج الاجتماعي في البلاد إضافة إلى انهيار بعض محرّكات عمل النظام السياسي القائم على تحويل الدولة إلى أداة لإعادة التوزيع والزبائنية، يرصد البحث ” تنامياً ملحوظاً في لبنان في النزعات الانعزالية أو الشعبوية التي يُعبَّر عنها حيناً بالفيدرالية وحيناً آخر باللامركزية، باعتبارها من الأشكال التنظيمية المُمكنة لإدارة شؤون هذا المجتمع.

 

ويقول المرصد أن هذه الطروحات “تأتي خارج تعاريفها المُجرّدة وما يمكن أن تؤدّيه إنمائياً، بل من منطلق طائفي ومناطقي يعمّق سياسات الهوية، ما يحرف التركيز عن أسباب الأزمات بما تنطوي عليه من مصالح طبقية مُتضاربة وتفاوتات تعمّق اللامساواة وتجذّر آليّات الاستغلال وانعدام الحقوق، ويعيق بناء نظام سياسي ينتج نظاماً اقتصادياً قابلاً للحياة ويحمي المجتمع.

 

ويعالج البحث طرح “الفيدرالية” كحلّ يفصل الطوائف عن بعضها اجتماعياً ضمن مناطق مُستقلّة يكون لكلّ منها حرّية اتخاذ القرارات وتنفيذ السياسات التي تلائمها مع حصر القرارات المرتبطة بالسياسات الخارجية والدفاعية والنقدية لدى السلطة المركزية.  إلّا أن المرصد يعتبر أن “تشريح الاختلافات بين الطوائف أو بالأحرى زعمائها اللبنانيين يبيّن أنها تتركّز على السياستين الخارجية والدفاعية للبلاد، لا السياسات الاجتماعية والاقتصادية، التي أثبت مسار 30 عاماً من حكم ائتلاف زعماء الطوائف اتفاقهم عليها وتنصّلهم من مسؤولياتهم في تشريعها، وهو ما يجعل الفيدرالية حلاً لا يتماشى مع طبيعة المشكلة”.

 

وينتقل إلى “اللامركزية” التي تطرح كحلّ لتحقيق الإنماء المتوازن بين المناطق كونها تعطي السلطات المحلّية صلاحيّات أكبر في تنفيذ المشاريع الاقتصادية والإنمائية بعد أن أهملت دولة ما بعد الحرب هذا الواجب.

 

ويرى المرصد أن “ما يغفله مؤيّدو هذا الطرح هو تجسّد اللامركزية في لبنان بالبلديات، التي صدر قانون تنظيمها منذ العام 1977 وأعطاها صلاحيّات واسعة في المجالات الإنمائية والاقتصادية، إلّا أن الفشل في تطبيقه جاء بداية نتيجة الحرب، ولاحقاً بسبب عدم بناء قدراتها المؤسّساتية لأداء مهمّاتها. في الواقع، يقوم التوازن بالإنماء على إعادة توزيع المداخيل الضريبية والثروة الوطنية بين مختلف المناطق، لمساعدة المناطق الأقل تطوّراً والتي لا تمتلك موارد كافية للقيام بالمشاريع الإنمائية، وهو ما يتطلّب أساساً وجود دولة مركزية قوّية لديها رؤية وخطّة، ومداخيل ضريبية كافية وقدرة على إعادة توزيعها بما يخدم أهدافها الإنمائية، وقد تكون اللامركزية إحدى هذه الوسائل لا الغاية بذاتها”.

الأزمة باقية.. وتتمدد

 

يشير ياسين في اتصاله مع موقع “الحرة” إلى أن “الهدف من هذا البحث هو الإضاءة لدى الرأي العام على هذه التوقعات من أجل الالتفات إليها مسبقاً، لخلق نقاش حول أن هذه الأزمة ليست بالبسيطة، هناك بعض الناس والمسؤولين يرونها أزمة سيولة ونقد في المصارف وقد تنتهي بسنة أو سنيتن بإعادة أموال المودعين”.

 

ويتابع “ما نحاول قوله اليوم أن المشكلة أعمق من ذلك بكثير، وتداعياتها ستكون على كل القطاعات بشكل شامل، ما يجب على الناس فهمه أننا لا نزال في بداية تداعيات وآثار الأزمة من دون أدنى شك، ولعدة أسباب من بينها استمرار الدعم من مصرف لبنان على السلع الرئيسية، لم تبلغ الأزمة ذروتها بعد، ورغم كل معاناة اللبنانيين، لم تظهر كل آثار الأزمة في المجتمع اللبناني بعد، وهذا ما سيقبل عليه لبنان”.

 

ويعبر المشرف على مرصد الأزمة عن أن “الخوف هو من تعمق الانهيارات أكثر حيث ستضعف مؤسسات الدولة وتؤدي إلى انهيارها وهنا تبدأ المخاوف على الصعيد الأمني والصحي والتقديمات الاجتماعية والمؤسسات الضامنة والأمن الاجتماعي للبنانيين”.

 

وفيما يأمل اللبنانيون في مجيء حكومة إصلاحية منتظرة منذ حوالي 7 أشهر، تطلق العمل بخطة إنقاذيه للبلاد، يبدو أن حصد النتائج سيتطلب مدة زمنية ليست بالقصيرة كي يلمس اللبنانيون تغيراً في الواقع المقبلين عليه، بحسب ياسين، “ولكن انطلاق هكذا خطة للإنقاذ والتعافي مع انفتاح أكبر على الجهات المانحة من شأنه أن يولد انتعاشا، ولكن المسار طويل جداً فهناك أخطاء موجودة ظهرت نتائجها في السنتين الماضيتين لكنها تعود في مشاكلها إلى بنيتها في مراحل تأسيسية من عمر الاقتصاد اللبناني وقطاعاته ومؤسسات الدولة”.

 

حتى الحكومة لا تنجح لوحدها في هذا المسار حيث تحتاج إلى استقرار سياسي يتيح لها العمل بأريحية من شأنها إيجاد إدارة للأزمة متوافق عليها دون عرقلة، يختم ياسين، “لذا بالمختصر يكذب من يقول للناس أن حل الأزمة سهل ويمكن تطبيقه بشهر أو شهرين”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى