مشاهد لبنانية عن طبقة سياسية تضحك على نفسها وعلى.. الناس
بقلم: فارس خشان

النشرة الدولية –

خرج رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه برّي على النوّاب الذين أعلنوا مقاطعتهم للجلسة النيابية التي كانت مخصصة، أمس الخميس، لإحالة رئيس حكومة تصريف الاعمال حسّان دياب وعدد من الوزراء السابقين على “المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء” المعروف، حتى قبل بلوغه “سنّ اليأس”، بعقمه، ببيان استنكاري اتّهمهم فيه بـ”أنّهم لا يدرون ماذا يفعلون”.

قد يكون ما قاله برّي صحيحاً، فالنواب الذين يريدون ترك ملف انفجار المرفأ، بكل تفاصيله، بعهدة المحقق العدلي طارق بيطار ينسفون هيئة شكّلوها هم، تنفيذاً للنص الدستوري الذي أسيء تطبيقه، حتى انقلب من “آلية محاسبة” إلى “ملجأ حماية”.

ولكنّ برّي قال “نصف الحقيقة”، ذلك أنّ الجميع، في موضوع انفجار المرفأ وفي سائر الملفات التي فجّرت الدولة اللبنانية “عن بكرة أبيها” يضحكون على أنفسهم وعلى الناس، وهم في ذلك “يعرفون ماذا يفعلون”.

وبرّي يعلم والمسؤولون يدركون والمدعى عليهم مقتنعون بأنّ الإحالة على “المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء” لا تهدف إلّا لقطع اندفاعة التحقيق العدلي الذي حرمه “الحريصون على العدالة” من استجواب شخصيتين مركزيتين في الملف: المدير العام للأمن العام اللواء عبّاس إبراهيم (قرار وزير الداخلية محمد فهمي) والمدير العام لأمن الدولة اللواء أنطوان صليبا (قرار المجلس الاعلى للدفاع برئاسة رئيس الجمهورية ميشال عون الذي يرفض وحزبه، وفق أفواههم، كلّ الحمايات والحصانات!).

بعيداً من عون الذي بات كثير من اللبنانيين يعتقدون، بالاستناد الى أدلّة متراكمة، بفقدانه للأهلية، كما ورد في دعوى جرى تقديمها للمحكمة المختصة، كيف تجلّى الضحك على النفس وعلى الناس؟

عند إعلان إرجاء الجلسة النيابية المخصّصة للإحالة على “المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء”، رمى الوزراء السابقون المدّعي عليهم أنفسهم أمام الكاميرات، وراحوا يلطمون ويبكون ويصيحون، وكأنّ فجيعة ألمّت بهم.

بدا واضحاً أنّ هؤلاء كانوا يمنّون النفس بأنّ “خلاصهم” آتٍ بمجرّد أن يدّعي عليهم المجلس النيابي ويضعهم تحت صلاحيات القانون الذي يرعى أعمال “المجلس الأعلى”.

لقد كان المشهد هزلياً فعلاً، فليس طبيعياً أن ترى أشخاصاً جرى تجنيبهم الملاحقة أمام مرجعية يريد أن يلعب فيها المفوّه إيلي الفرزلي، دور المدّعي العام حيث “سيستقتل” ليحصل على إدانة قاسية، مفجوعين إلى هذه الدرجة، في وقت كان يمكنهم فيه أن يكلّفوا الفرزلي، بقدراته الخارقة، أن يدافع عنهم أمام المحقق العدلي.

وقبل هذه المشهدية الهزلية النيابية، كان الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصرالله قد شنّ هجوماً على المحقق العدلي طارق بيطار، بسبب الادعاءات التي وجّهها ضد رئيس الحكومة ووزراء سابقين وقادة عسكريين وأمنيين، موجّهاً إليه تهم “تسييس التحقيق”، طالباً منه التراجع عن قراراته “وإلا فعلى القضاء أن يغيّره”.

وهذا يعني أنّ نصرالله الذي ينصّب نفسه “سلطة عليا” في لبنان، يريد إلحاق القاضي بيطار بالمحقق السابق فادي صوّان الذي كان، هو الآخر، بإصداره ادعاءات مماثلة، قد أثار غضب نصرالله و”شركائه” في الطبقة السياسية.

ولكنّ نصرالله الذي دافع عن المدعى عليهم و”ذمّ” المحقق، سرعان ما هاجم جميع من رفض إحالة المدّعى عليهم على “المجلس الاعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء”.

استهجن نصرالله هذا الرفض على خلفية “اعتقاد” أصحابه، بأنّ هدفه حماية المدعى عليهم، وقال مستهجناً ومستنكراً إنّ هذه الإحالة هي لمحاكمتهم وليست لتبرئتهم.

أبقوا معي حتى نفهم مقاصد نصرالله، فهو، بهذا الكلام، يُبيّن أنّه بعدما عاب على بيطار قراره “المسيّس”، يدافع، بشراسة، عن إجراء نيابي يزعم أنّه يهدف الى محاكمة من استهدفهم “الادعاء المسيّس” نفسه.

منطق نصرالله هذا يستحق تصنيفه في قمة الأعمال الكوميدية السياسية السوداء في لبنان: ادّعاء القاضي تسييس يستدعي إهانته وتهديده والإطاحة به، فيما ادعاء النواب على الشخصيات نفسها التي استهدفها القاضي، عدالة تكاد تتخطّى حدود الماديات لتصل الى مستوى السماوات.

ويدرك اللبنانيون كما يدرك المتابعون الدوليون لملف انفجار مرفأ بيروت أنّ السلطات اللبنانية، في كل إجراءاتها تضحك على نفسها وعلى الناس، فهي تزعم براءات إفرادية عن عملية إجرامية ما كان يمكن أن تتحقّق لولا مشاركة جماعية نسّقها طرف واحد يتمتّع بقوة طاغية.

وهنا أيضاً يبرز نصرالله، إذ إنّه في مقطع مهم من “مسرحيته الكوميدية السوداء”، وفي ردّه على الشبهات الموضوعية التي تحوم حول دور حزبه ودور النظام السوري في استيراد الكمية الكبيرة من “نيترات الامونيوم” التي انفجرت، يقول: “اللي جاب النيترات هنّي الجماعات الداعمة اللبنانية للجماعات المسلحة في سوريا والمعروفة بالأسماء والموجودة بالسلطة والموجودة بالأجهزة اللبنانية”.

وهذا الكلام يعني في ما يعنيه أنّ نصرالله يسلّم بأنّ استيراد هذه الكمية من “نيترات الامونيوم” له بُعد إجرامي، وأنّ جميع من عملوا على المحافظة على هذه المواد على مدى سنوات، حيث انفجرت، وهم ينتمون الى جميع الفئات السياسية وفي مقدّمها “حزب الله” و”حلفاؤه”، إنّما يعملون لمصلحة “الجماعات المسلّحة في سوريا”.

وعلى الرغم من “يقينه” هذا الذي أعلنه بنبرة حادّة، فهو يبذل الغالي والرخيص، ليحمي هؤلاء “الخونة والإرهابيين والتكفيريين” من المحقق بيطار الذي بات، بمنطق نصرالله وسائر المتحكّمين بالقرار اللبناني، كأنّه يتزعّم ميليشيا مسلّحة، تعينه على إلحاق الظلم بمجموعة من “المستضعفين والمظلومين والمستهدفين”.

إنّ “الكوميديا السوداء” في لبنان لا تقتصر، بطبيعة الحال والمآل، على ملف انفجار المرفأ، بل تجدها في كل تفصيل، فمجلس الدفاع الأعلى يلتئم، بصورة طارئة ومن دون انتظار خروج رئيس الحكومة من “الحجر الصحّي”، للبحث في شؤون تتصل بـ”الأمن الغذائي”، ولكنّه يصمت صمت القبور حيال كلّ ما يختص بالقصف من الجنوب اللبناني وعليه، على الرغم من تداعياته الخطرة على البلاد والعباد.

والقوى الحاكمة تستهجن رفع مصرف لبنان دعمه لقيمة دولار استيراد النفط ومشتقاته، بعدما فقد هذا الدعم وظيفته الإيجابية، إذ إنّ الكميات المستوردة لا تذهب الى المواطن الذي يدفع أموالها من النذر القليل المتبقي من ودائعه المصرفية المصادرة، بل إلى المافيا المتحكّمة بالسوق السوداء، بحيث تهرّب جزءاً منها الى سوريا وتبيع الجزء المتبقّي، بأسعار خيالية لأصحاب الحاجة الملحّة في لبنان.

وتتوهّم هذه القوى الحاكمة أنّ هناك من يمكن أن يصدّق أنّها تدافع عن فقراء لبنان، وليس عن مافيا مكوّنة من أقويائها.

ولم يتمكّن بلد يحكمه مثل هؤلاء الذين يحكمون لبنان ويتحكمون به من أن يُنقذ نفسه من الجحيم.

وحدها يقظة شعبية كبرى تدفع الناس إلى الساحات بدل الاصطفاف المذل أمام محطات الوقود ومراكز بيع الغاز والأفران وانتظار الموت على أبواب المستشفيات والصيدليات، يمكنها أن تغيّر المسار.

غير ذلك، كلّه، بدءاً بتشكيل الحكومة، ضحك على…الذقون.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى